شوف تشوف

الرأي

معركة الفيروسات (1ـ 2)

بقلم: خالص جلبي
الطبيب الفرنسي (راوول ديديي Didier Raoult) من مارسيليا، انتبه إليه العالم أخيرا، حين أشار إلى مركبات الكينا (الكينين أو مركبات الهيدروكسي كلوروكوين Hydroxychloroquine) في معالجة جائحة كورونا التي استفحلت مع بدايات عام 2020. قال الرجل إن هذه المركبات معروفة، منذ 70 سنة ورخيصة الثمن، ويبدو أن شركات اللقاحات والأدوية تريد أن تعيد قصة الفياغرا فتكتشف منجم الذهب. ولأن القضية أصبحت ساخنة، فوجب الرجوع إلى هذا الرائد في عالم الفيروسات، لنأخذ فكرته عن طريقة جديدة في كفاح الفيروسات. فالعلماء يفكرون في طريقة جديدة للقضاء على الفيروسات بالفيروسات، وقتل المجرمين بيد مجرمين، ومعها في الوقت نفسه فتح نافذة جديدة على فهم الحياة.
يقولون هل يمكن أن تمرض الفيروسات كما يمرض البشر؟ وتصاب الطيور بالأنفلونزا؟ والكلاب بالسعار؟ وهل يمكن للرشح أن يأخذ بردا؟ أم هل يمكن لفيروسات الإيبولا الدموية أن تتوعك؟
يجيب عن هذا الطبيب الفرنسي ديديي راوول (Didier Raoult)؛ من كلية البحر المتوسط للطب في مدينة مارسيليا؛ إن هذا ممكن بالطبع (وبالعامية ليش لا؟).. يتابع؛ إن هذا أصبح ممكنا جدا منذ أن عثرنا على السبوتنيك (Sputnik)، أصبحت أشياء كثيرة كانت بحكم المستحيل ممكنة.
وهذا يفتح الطريق على فهم جدلية الممكن والمستحيل، فقبل قرون كان فتح البطن مستحيلا، واليوم يقوم به أصغر جراح. وكان من يتحدث عن الرحلة للمريخ مجنونا، وهي رحلة تم إنجازها على ظهر الباثفايندر حين اندلقت من بطنها عربة السوجرنير، تسبح بحمد الرحمان على ظهر الكوكب الأحمر الغاضب وتشم روائح أكاسيد الحديد، وتقول لا الريح ريح زرنب ولا المس مس أرنب. ومن أراد الوصول إلى مكان عمل الطبيب راوول، فعليه قراءة مثلث التحذير في كلية الطب (خطر بيولوجي Biohazard)، قبل تجاوز عتبة الدخول إلى مركزه، الذي أصبح مختبرا مرجعيا (Reference-Laboratory) للكائنات الخطيرة والمعدية، التابع لمنظمة الصحة العالمية، ما يشبه مكتبة المجرمين من العضويات الدقيقة، أو حديقة حيوانات ليس للضواري والسنوريات، بل الجراثيم المهلكة والفيروسات القاتلة والفطريات المبيدة، من كل صنف زوجين.
ومهمة هذا المخبر جمع العينات وتبريدها 80 درجة تحت الصفر، وتزويد المخابر والمؤسسات في العالم، بهذه الكائنات الصغيرة المدمرة، كأنها الجان في بلاد عبقر..
يصف الدكتور راوول ما يقوم به أنها رحلة في عالم جوليفر (ليليبوت)، حيث التعامل مع كائنات في غاية الدقة، لا يمكن الدخول إليه بدون مجهر إلكتروني، يكبر الكائنات 60 ألف مرة ويزيد، وقد تمكن بصبر ومتابعة من الكشف عن ميكروبات جديدة لم تكن معروفة من قبل، وحين يصفها كأنك تسمع منه وصفا لوحيد القرن الخرتيت، أو فرس النهر أو أبو الهول. ولكن ما هو السبوتنيك الذي تحدث عنه؟ إنه كشفه الجديد في عالم المغيبات. وكلمة سبوتنيك أو (صدمة) السبوتنيك هي قفزة الروس إلى الفضاء، حين أرسلوا قمرهم الفضائي عام 1957م فسبقوا الأمريكيين، مما أطلق شعار (صدمة السبوتنيك Sputnik-Shock)، وبدأت أمريكا في تحديث نظامها التعليمي، حتى سبقت أهل الأرض جميعا باعتلاء ظهر القمر.
والطبيب الفرنسي أحب أن يطلق التعبير نفسه، بالإثارة ذاتها على فيروسه الجديد الذي اكتشفه، فقد تعرف على فيروس بقطر50 نانو يحمل 21 جينا، فيه 18300 حمض نووي. (النانو وحدة قياس تبلغ واحد من مليار من المتر، فالمليمتر هو واحد من ألف من المتر، والميكرو بدوره واحد من ألف من المللي، والنانو هو واحد من ألف من الميكرون)، وهو حجم يبلغ من الصغر والدقة ما هو أقل من جزيئات دخان سيجارة. وأهم ما في الفيروس الجديد أنه مرض المرض، فهو يصيب الفيروسات بالمرض، وهكذا فالدواء النجس له دواء أنجس كما يقول المثل، ويضحك الطبيب راوول من هذه المقارنات..
وهذه الظاهرة من إصابات الجراثيم بالجراثيم، معروفة في الطب منذ زمن طويل، فهناك من الخلايا ما تسمى (البالعات أو الهاضمات Bacteriophage)، وهي ضرب من الخلايا تلتهم الفيروسات، ويطلق عليها (طفيليات الطفيليات)، وقد كشف السويسري (فيرنر آربر) في الستينات عن آلية عجيبة سماها المقصات، في كيفية قضاء الخلايا على الفيروسات، بواسطة أنزيمات قاصة مثل المقص. ويعقب راوول بأنه مع اكتشاف فيروس السبوتنيك، فقد عثر على ملتهمات الفيروسات من الفيروسات.
وتعلق مجلة الطبيعة العلمية (Nature) على الحدث، بقولها إن هذه المعلومات ستكون لها تأثيرات كونية، وتشق الطريق إلى علم المستقبل. وأهمية هذا الفتح المبين في طريق العلم، أن الطب يستطيع القضاء على الجراثيم بالصادات الحيوية (Antibiotics)، وعلى الفطريات بمحاصرتها (Antimycotics)، ولكنه وقف حتى اليوم عاجزا عن كفاح الفيروس، بسبب طبيعته الغامضة جدا، واختبائه في الخلايا، ولم يعمل الأطباء لكفاحه إلا في اللقاحات، من أجل تدريب المناعة في البدن على التعرف عليه إذا دخل الجسم، ومحاصرته قبل أن يتمسكن ثم يتمكن. وهو ما يشبه عمل حرب الشوارع أو قتال العصابات؛ فلا بد من نزاله في داخل الخلية، هذا إذا عرفنا أن حجم الفيروس إلى الخلية هو مثل كرة قدم إلى ساحة ملعب بلدي. وحتى أفضل الأدوية مثلا في كفاح الإيدز، لم تستطع القضاء على الفيروس، وكل ما فعلته هو لجمه إلى حين.
ولذا فالفكرة التي جاء بها الطبيب الفرنسي (راوول ديديي) واعدة جدا بطريقة مختلفة في استراتيجية القضاء على الفيروسات، قتل المجرمين بيد المجرمين! وما ذكرناه ليس أكثر من خيط أمل في الاستراتيجية الضخمة في هذه المعركة، فليس من المعروف وهو غير مؤكد كم هي عدد الفيروسات التي يمكن القضاء عليها في هذه المعركة المصيرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى