بعدما قضى سكان أقاليم الحوز وتارودانت، وشيشاوة وورزازات ومدن أخرى، يومهم في الثامن من شتنبر الجاري في مأمن، تحولت ليلتهم بعد ذلك اليوم إلى تعاسة، وانتقلت حياة الكثيرين من فرح إلى قرح. ففي ثوان اختفت قرى كانت مأهولة بأهلها من الوجود كليا وأصبحت أثرا بعد عين، وأخرى تضررت بشكل كبير، فأصبحت مبانيها عبارة عن أطلال تحكي في صمت وحسرة تفاصيل معاناة لا يمكن نسيانها بسهولة. فقدَ البعض أهله وذويه، وتحولت نساء كثيرات إلى ثكالى وأرامل فقدن كل ما يملكن. وفي رمشة عين هبّ المغاربة من الشمال إلى الجنوب لتقديم الدعم والمساعدة للضحايا والمنكوبين.
في هذا الربورتاج تفاصيل مشاهدات حية من إقليم تارودانت.
تارودانت: محمد سليماني
ما أن انقشع ظلام ليلة الثامن من شتنبر الجاري، وزال غبش ليلة سوداء أرعبت سكان مدن عديدة، حتى تأكد الجميع من أن قرى وبلدات بأقاليم الحوز وتارودانت وشيشاوة وورزازات أصبحت منكوبة بفعل زلزال مدمر لم يبق ولم يدر. وما أن تبين للناس أن إقليمي الحوز وتارودانت كانا في مقدمة الأقاليم التي نالت النصيب الأوفر من الضحايا ومن الخسائر المادية، حتى هبّ المغاربة من كل حدب وصوب لجمع مساعدات غذائية لمن تبقى من السكان على قيد الحياة بهذين الإقليمين.
تحولت مدن وقرى كثيرة بالمغرب إلى فضاءات لجمع المساعدات الغذائية وتوجيهها إلى القرى والمداشر المدمرة، وذلك في سبيل تحفيف المعاناة على السكان. وبشكل يومي تتقاطر شاحنات وعربات وسيارات محملة بالأغذية والأطعمة والملابس والأغطية بحثا عن المنكوبين بين الجبال.
أغذية عرضة للضياع
مباشرة بعد الساعات الأولى للزلزال المدمر، تقاطرت شاحنات كثيرة وسيارات وعربات محملة بأطنان من المواد الغذائية الموجهة إلى القرى التي يوجد بها ناجون من الكارثة. مساعدات كثيرة جدا، إلى درجة أن مجموعة من منظمي هذه المساهمات أصبحوا يبحثون عن قرى بجبال تارودانت لم تصلها بعد المساعدات، غير أنهم لم يجدوا أي قرية لم تستفد. فجميع القرى والمداشر بالإقليم نالت نصيبها، وحتى تلك التي لم تصلها القوافل، وصلتها مروحيات القوات المسلحة والدرك الملكي.
يروي السعيد السيوطي، وهو متطوع قادم من طانطان إلى قرية بعيدة جدا عن منطقة سيدي واعزيز بإقليم تارودانت، في تصريح لـ«الاخبار»، أن المساعدات الغذائية أضحت عرضة للضياع والإسراف. وأضاف السيوطي «الناس أصبحوا في حاجة إلى الخيام والملابس والبلاستيك من أجل نصب خيام تقيهم من البرد ومن الانخفاض الكبير في درجة الحرارة مساء». وأبرز السيوطي، الموجود ضمن قافلة لنقل المساعدات من مدينة طانطان إلى منكوبي إقليم تارودانت، أنه «على طول الطريق، تشعر وكأنك في عرس، فالشاحنات والسيارات المحملة بالمساعدات في طوابير طويلة تتجه نحو المنكوبين، إلى درجة أنه تم، يوم الاثنين، توقيف حركة السير لأن حركة المرور أضحت مضغوطة جدا».
ومن جهة أخرى كشف السيوطي أن «المواد الغذائية سهلة التلف، مثل الخبز والحليب وبعض المواد الأخرى، أصبحت فقط تضيع، ففي منازل كثيرة هناك أكياس كبيرة من الخبز التي لم تعد صالحة للأكل».
وناشد السيوطي، جميع المتبرعين والمساهمين بعموم التراب الوطني، بضرورة العمل على توفير أغطية وملابس وخيام بالدرجة الأولى، فالناس هنا، يقول، «في حاجة إلى هذه الأشياء أولا، أما المساعدات الغذائية فأصبحت متوفرة بشكل أكبر من اللازم وكافية».
سماسرة المساعدات
جرت العادة، أمام كل أزمة طارئة، أن تظهر مجموعة من الممارسات التي تفقد أي عمل إنساني عمقه النبيل، وحتى في زلزال الحوز، ظهر مجموعة من سماسرة المساعدات وتجار المآسي. يحكي السيوطي لـ«الأخبار» بعضا مما عاينه بعين المكان، مبرزا أنه «بالقرب من كل دوار، سواء كان مدمرا بالكامل أو بشكل جزئي، هناك سماسرة يقفون عند الطرق غير المعبدة المؤدية إلى هذه الدواوير، حيث يبادرونك بالسؤال والإلحاح على تقديم المساعدة لإرشادك إلى الدواوير المحتاجة، غير أن ذلك لحاجة في أنفسهم فقط، حيث إن كثيرا منهم يتعمدون إرشادك إلى الدوار الذي استفاد مرات عديدة، غير أن هدفهم هو أنه عندما يرشدونك إلى الدوار، يقترحون عليك طرح المساعدات هناك على أساس أن يقوموا بتوزيعها على السكان، إلا أن كثيرا منهم لا يفعلون ذلك، بل يخزنونها بعيدا عن الضحايا». وروى السيوطي أن أحدهم أخبره أنه تم العثور على شخص يعرض حوالي 150 لترا من الحليب الذي سبق أن تبرع به محسنون للسكان للبيع، فالسماسرة أضحوا منتعشين من هذه الأزمة والكارثة، وهم في مأمن من أي مساءلة وبعيدون عن أعين السلطة الغائبة عن المنطقة». إلى درجة أن هذه الممارسات المشينة أضحت تزعج المحسنين والمتبرعين، الذين أضحوا يبادرون إلى إرشاد الشاحنات المحملة بالمساعدات القادمة للتو إلى المنطقة إلى الدواوير المحتاجة لها، مع تحذير هؤلاء المساهمين والمتطوعين من السماسرة الذين يقفون على جانب الطرقات. وحكى المتحدث أن هناك من السماسرة من يعمد إلى اعتماد طرق أخرى لاستدرار العطف والحصول على المساعدات، على غرار قيام بعض الأسر والعائلات بنصب خيام قرب الطريق، حيث يتمكن أفرادها من الحصول على المساعدات من الشاحنات العابرة نحو عمق جماعات تارودانت المتضررة، غير أنهم سرعان ما يخرجون تلك المساعدات من أبواب خلفية للخيام إلى أمكنة أخرى من أجل تخزينها، للحصول على مساعدات أخرى، حيث يستعطفون المحسنين بأنه لم يسبق لهم أن حصلوا على أي مساعدات غذائية من قبل.
سكان يرفضون إخلاء دواوير مدمرة
من المعروف أن طبيعة جغرافيا إقليم تارودانت طبيعة وعرة، ذات تضاريس أغلبها من الجبال العالية، وكثيرة هي دواوير الإقليم التي يصعب الوصول إليها، فهي بدون طرق معبدة، والمسالك المؤدية إليها لا يمكن عبورها إلا بشق الأنفس، الأمر الذي جعل وصول فرق الإنقاذ وموزعي المساعدات الغذائية في غاية الصعوبة. فإقليم تارودانت، الذي يعتبر أكبر إقليم على الصعيد الوطني، تتوزعه 89 جماعة ترابية، فمساحة هذا الإقليم أكبر من مساحة دول كثيرة، ما يجعل التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه أمرا في غاية الصعوبة، ذلك أن وصول التعزيزات إلى قرى جبلية للبحث عن ناجين ما يزال بعيد المنال. ورغم صور الدمار الذي حل ببعض هذه القرى، وتحويلها إلى أطلال كانت شاهدة على عمران قائم إلى حدود يوم الثامن من شتنبر الجاري، إلا أن الناجين من الكارثة وممن ما يزالون على قيد الحياة يرفضون إخلاء هذه الأطلال ويتمسكون بالبقاء فيها. وبحسب مصدر من السلطات المحلية، فإن هذه الأخيرة حاولت إقناع سكان دوار «تامسولت»، الذي يعد أحد الدواوير الثلاثة عشر المكونة لجماعة «تكُوكَة»، من أجل إخلاء الدوار المنكوب والانتقال إلى مكان غير بعيد عنه لنصب الخيام وإيواء ما تبقى من السكان، غير أنهم رفضوا مغادرة المكان. ورغم أنه يمكن تفهم رغبة الناجين في البقاء، اعتبارا للحالة الوجدانية التي تربطهم بمكان عاشوا فيها تفاصيل حياتهم لعقود، فإن الشقوق التي حلت بعدد من المنازل أضحت معها هذه الأخيرة عرضة للانهيار في أي لحظة تعود فيها هزة ارتدادية، ما قد يتسبب في وفيات جديدة. لهذا ألحت السلطات المحلية على ضرورة مغادرة المكان إلى مكان قريب، لكن الأهالي رفضوا ذلك. بعدها حلت قافلة طبية بالدوار من أجل نصب خيام وتقديم إسعافات وعلاجات طبية للضحايا، غير أن منظمي هذه القافلة الطبية لم يجدوا مكانا منبسطا لنصب خيام القافلة، فاقترحوا على السكان الانتقال إلى مكان منبسط غير بعيد عن القرية، ونصب خيام القافلة الطبية، لكن كانت معارضة السكان أقوى وأكبر.
فوضى المساعدات
جميلة هي تلك الصور القادمة من جبال الحوز وتارودانت، والتي تظهر قوافل طويلة وطوابير كثيرة من العربات والشاحنات المحملة بالمساعدات الغذائية والأغطية الموجهة إلى منكوبي الزلزال، إنها صور تكشف المعدن الحقيقي للمغاربة الذين يهبون كرجل واحد لمساعدة المكلوم ساعة الضيق، غير أن هذه الطوابير الطويلة من الشاحنات والعربات والسيارات أضحت تخلق مشاكل أخرى كثيرة، ما يجعل هذه المساعدات تتسبب في أمور عكسية. لقد أصحبت تلك الطوابير الطويلة التي تلح على الدخول إلى عمق المناطق والقرى المدمرة لتوزيع المساعدات الغذائية بعين المكان، تعيق حركة المرور، حيث إن كثيرا من الطرق ضيقة جدا، وبعضها غير معبدة، ما يعني أن السير يكون بطيئا جدا، وأحيانا حركة المرور تعيق مرور سيارات الإسعاف المحملة ببعض الناجين الذين تم انتشالهم من تحت الأنقاض، ما يعني أن سيارات الإسعاف تحتاج وقتا أطول للوصول إلى المستشفى الطبي الميداني الجراحي الذي نصبته القوات المسلحة الملكية بنفوذ جماعة «تالكجونت» بتارودانت، أو المركز الاستشفائي الإقليمي المختار السوسي بتارودانت.
ومن جهة أخرى، فإن إلحاح بعض سائقي الشاحنات والعربات على الدخول إلى القرى المدمرة، يصبح أكثر خطرا على مستعملي هذه الطرقات، حيث إن أحجارا كثيرة وكبيرة على وشك السقوط من بعض الجبال بعدما انفصلت عن أمكنة رسوها، ما يجعل المرور من هذه الطرقات خطيرا على مستعمليها بسبب الاهتزازات الأرضية التي تسببها الشاحنات الثقيلة، كما هو الحال بالطريق الجهوية رقم 203، ما بين «إفزظاظن» إلى حدود إقليم تارودانت، وذلك على طول 15 كيلومترا، حيث إنها ما تزال مقطوعة بسبب انهيارات صخرية كبيرة لابد من استعمال المتفجرات لإزالتها.
ويقترح عدد كبير من الناس أن تعمل السلطات المحلية والقوات المسلحة ومؤسسة محمد الخامس على جمع المساعدات في مستودع بمكان بتارودانت أو إحدى الجماعات القروية القريبة من المناطق المنكوبة، على أساس أن تقوم القوات المسلحة الملكية أو مؤسسة محمد الخامس بتوزيعها على السكان والمنكوبين بشكل مستمر ومنع دخول الشاحنات والعربات إلى المناطق المدمرة.