مسألة الوجود 1
في هذه السلسلة، يربط الشيخ عبد الغني العمري، بين المستوى المعرفي للدين، والمستوى العملي؛ حتى يدل القارئ على مطابقة الدين للقراءة الوجودية الصحيحة، والتي تأسس عليها الوحي، منذ أول نزوله بقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. إن الرؤية المتكاملة للدين، قد غطى عليها الإيغال في مختلف التفاصيل، التي كادت تقطع المتأخرين من أبناء المسلمين عنها. فصار الدين عندهم مجتزأً، لا يمكن إلا أن يكون معضدا بالفلسفات أو الأيديولوجيات. والحقيقة هي أن الدين الرباني، يختلف عن هذا كلية؛ لكن بشرط إدراكه في كل مستوياته.
إن محاولة تعميم حكم الدين على المجتمعات، دون إدراك عمقه المعرفي، سيكون تعميما للفكر الديني الذي لا يرقى أحيانا، حتى إلى محاورة الفكر الفلسفي المجرد. والحكم على الدين في مثل هذه الحال سيكون ظلما بيّنا، لا نرضاه لعقلائنا. وما على عوام المسلمين من أفراد التيارات والحركات الإسلامية، إلا الاشتغال بما يناسب طورهم مما يدخل في شؤونهم الخاصة وقتها. أما اقتحام مجال السياسة العام، فهو مظهر من مظاهر التخلف الذي تعاني منه الأمة فحسب؛ جرّ على المسلمين صنوفا من البلاء، ينبغي أن يُعمل على الحد منها بالعلم والحكمة.
كثيرا ما نسمع هذا السؤال: «هل الله موجود؟»؛ ولا أحد يسأل نفسه، عن وجاهة السؤال، وكأن كل الأسئلة يصح أن تُسأل!.. والحقيقة هي أن من الأسئلة ما هو غلط، كما هو شأن الأجوبة على التمام. والسؤال بالصيغة المذكورة آنفا، غلط من غير مراء. ذلك لأن السؤال عن وجود الشيء، لا يصح إلا إن كان هذا الشيء من سنخ الممكنات. فالممكن وحده، يُسأل عن وجوده، لكونه يقبل الوجود والعدم. أما الوجود الواجب، فلا يُسأل عنه، لكونه منزها عن احتمال العدم. والسائل عن وجود الواجب، لا شك يكون سؤاله لغوا، تمجّه العقول السليمة. وهذا المعنى، هو ما يشير إليه السؤال الإنكاري لله تعالى، على لسان الرسل عليهم السلام: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟) [إبراهيم: 10].
إن المخلوق الذي يسأل عن وجود الله، كان الأجدر به أن يسأل: هل أنا موجود؟ والغريب أن لا أحد يسأل هذا السؤال، وكأن الممكن صار واجبا عند نفسه!.. وهذا ضرب لسلامة العقل في مقتل. وأما البرهنة على وجود الممكن التي رامها الفلاسفة والمتكلمون، فهي أيضا غير سليمة؛ لكون السائل يجهل الوجود. والسؤال عن مجهول بمجهول، والمؤدي إلى البرهنة على المجهول بمجهول، لا شك هو من اللغو الفكري غير المجدي. ونحن نقول: إن الوجود لا يبرهن عليه، بسبب كونه من الجهة الوجودية دليلا لا مدلولا. وقد وقع الخلط لمن خاض في هذه المسألة، لعدم التفريق بين الدلالة الوجودية والدلالة العقلية. نعني، أن الاستدلال على الوجود عقليا أمر سليم، لو أن المستدل كان يضع الدلالة الوجودية في حسبانه. وهذا، لا يكون متاحا إلا لأهل الإيمان؛ للمناسبة التي بين الوجود والإيمان.
أمران يجعلان المخلوق لا يشك في وجود نفسه: الوجدان الباطني، والشهود الحسي؛ وهما معا لا يخضعان للبرهنة العقلية. فإن عز إدراك الوجود من جهة الحدوث، فما الظن به من جهة القِدم!.. لكن مع هذا، فإن الوجود يُعلم، إن وُفّق المرء لسلوك الطريق الصحيح. إن كثيرا من الناس توهموا مماثلة «الوجود» لما عداه من المواضيع التي تتناولها العقول. والحقيقة هي أن الوجود بسبب كونه محيطا بالعقول (وبالمعقولات)، يخرج عن إدراكها، ما لم تسلك إليه الطريق الذي شرعه الله لنيل هذا العلم؛ ألا وهو الدين. وعلى هذا، فإن الدين يقدم لذوي الاستعداد كل الأجوبة التي عجزت العقول عن الظفر بها من طريق النظر. والواقع شاهد على ما نقول.
والكلام عن الوجود -وكأنه معنى واحد- لا يزيد المتكلم والسامع إلا بعدا؛ مهما تكلف المرء لذلك. وذلك لأن الوجود له مراتب، لا تُعلم حقيقته إلا باعتبارها. وحتى نفتح للقارئ بابا إلى هذا العلم، فلا بد أن يُدرك:
1. أن الوجود أحَديّ لا يتعدد في نفسه، وإن تعددت مراتبه.
2. أن الوجود محيط بكل شيء، حتى بالعَدَمَين: الممكن والمحال. ولولا هذه الإحاطة، ما ميّز عقل معنى العدم والمحال. وذلك لأن الإدراك نفسه أمر وجودي.
3. أن مراتب الوجود تعود إلى أصلين: وجود الحق، ووجود الخلق. الأصل الأول وجود حقيقي، والثاني وجود خيالي فرعي. يشبه الأمر هنا وجود الجسم في الحس، ووجود ظله.
4. أن مراتب الوجود وعددها ثمان وعشرون، يتقاسمها مناصفة الحق مع الخلق؛ أربع عشرة لكلٍّ منهما. ومراتب الوجود المخلوق، هي مراتب الإمكان التي تظهر فيها أعيان المخلوقات في الوجود الحق. وبسبب كون المخلوقات عدمية الحقيقة، فإنها لا يمكن أن تتجاوز الوجود الظلي قط. ولولا أن العقول تكِلّ عن إدراك هذا المعنى، لأصاب كلَّ سامع لهذا الكلام جزع، يقلب حياته كلها، بسبب قابلية الظلية للزوال.
ومن لا يميّز ما ذكرنا، فإنه لن يعلم حقيقة نفسه أبدا؛ لأن العلم بالنفس يقتضي العلم بوجه وجودها، وبوجه عدمها، من جهة كونها ممكنا جامعا للوجهين. وعلى هذا العلم، يقوم علم الإنسان بجسمه وروحه، وبوجدانه الذي هو مجال «علم النفس» لدى الغربيين. نعني من هذا، أن كل ما بلغه علماء العصر في كل المجالات، ليس إلا مقاربات للعلم بالوجود؛ قد يُحالفها الإذن الإلهي، فيهتدي أصحابها إلى الإيمان، وقد تُخذل فيعمى أهلها عمى الكفران.
بعد كل ما مر، ومع علمنا بعدم صحة السؤال عن وجود الله، لم يبق للإنسان إلا حيرته عند دخوله عالم الدنيا، ووجوده بين أصناف لا تنحصر من المخلوقات، سماوية وأرضية. والحيرة إن بقيت على أصلها، من غير تكلف صبِّها في قوالب العبارة، أليق بالوقوف بباب الله العليم الخبير.