شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

مديح الكسل

يسرا طارق

 

كانت جماعات القبائل البدائية، وبحسب ما شاهده الباحثون في غابات الأمازون تحديدا، حيث تعيش آخر الجماعات، حين تحتاج للقوت تقطف الثمار أو تنظم حملة صيد جماعي، وعندما ترى أنها حصلت على ما يكفيها من طعام تتوقف، وتمضي لممارسة حياة لا جري ولا سعار فيها، لعب وحكي واسترخاء تام وعناية بالجسد. لا تعرف هذه الجماعات القلق والاضطرابات النفسية، لا تعرف الانتحار ولا تعرف تلك الصراعات الدامية على التملك. ما تريده حين تحتاجه تطلبه من الطبيعة المحيطة بها، ولا تأخذ إلا ما هي في حاجة ماسة له .لا تقرب مواليد الطرائد، وحين تقوم القبيلة بإحاشة ناجحة تأخذ ما هي في حاجة له وتطلق الباقي. بهذا بقيت الغابة من حول هذه الكائنات القنوعة محافظة على كثافتها وتنوعها. العمل بالنسبة لأفراد هذه القبائل استثنائي والاستمتاع بالحياة هو القاعدة اليومية، والعمل، أيضا، شأن جماعي على قدم المساواة، لسد الحاجة فقط، والملكية جماعية، بما فيها ملكية أدوات الصيد.

لكن، ومنذ أن قسمت البشرية العمل بينها، واهتدت إلى إنشاء السوق، لم تعد تملك نفسها ولا وقتها ولا حتى ما تنتجه بكدها وعرقها. صارت الحياة عملا مستمرا. يقضي الواحد بدايات حياته وهو يتعلم ويصقل مهاراته لا ليحيا كما يجب، وإنما ليعمل. وحين يحصل على عمل، وهو في أوج شبابه، سيصرف عمره يهدر طاقته ويستنزفها فيه، حتى العطل لا تعطاه لينعم بحياته فيها وإنما ليجدد قواه ويحشدها لأيام العمل القادمة.

منذ قرون، وخصوصا في المدن المزدحمة، صار الإنسان عبدا للعمل، يرى فيه غايته ومبرر وجوده، وحين لا يعمل، أو يأخذ قسطا من الراحة، يشعر بتأنيب الضمير، كأنه خان قيمة أسمى، وهو لم يكن، في الواقع، سوى إله السوق ومنطق الربح والخسارة…

لم نعد نعرف كيف نسترخي ونتلذذ بأن لا نعمل شيئا، لم نعد نعرف كيف نتأمل أنفسنا وحياتنا لوقت طويل. لم نعد نعرف كيف نريح أذهاننا وأصابعنا. لم نعد نقدر على مواجهة العالم بكسلنا وميلنا للسخرية الهادمة لكل هذا الجد المصطنع الذي نملأ به حياتنا.

بنى الإنسان فلسفة كاملة حول تمجيد العمل، بل إن البعض ذهب إلى أن الإنسان يبني نفسه من خلال العمل. لكن على الإنسان، من حين إلى حين، أن يمجد الكسل ويمدحه، فإن كان العمل يبدد قوى الإنسان، فإن الكسل يعيد بناءها، وإن كان العمل يجعل من الإنسان آلة، فإن الكسل يرى فيه روحا، وإن كان العمل يرهقه ويعذبه فإن الكسل يريحه ويروح عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى