محنة الموريسكيين قبل قرون خلال رمضان
مُنعوا من الصوم و«أذابتهم» محاكم التفتيش

يونس جنوحي
«من عجائب التاريخ أن مآسي الموريسكيين الذين سكنوا إسبانيا وطُردوا منها شر طردة، كُتب لها أن تُمحى من الذاكرة، رغم أنها تُجسد واحدة من أعنف عمليات التطهير.
مسلمو إسبانيا كانوا لا يستطيعون صوم رمضان إلا خفية، وكان عليهم أيضا أن يتجنبوا السقوط في فخ الدعوات إلى الغداء، لاختبار صيامهم من عدمه. وفي حال ما ثبت صيامهم، فإن العقاب يبدأ بالتعذيب وينتهي بالإجبار على اعتناق المسيحية.. صوم رمضان قبل خمسة قرون، كان مجازفة كبيرة داخل واحدة من أعرق الحضارات التي بناها المسلمون، ثم طُردوا منها..».
قصة قرية موريسكية مُنع سكانها من صيام رمضان قبل 455 عاما
بالقرب من مدينة فالنسيا الإسبانية، شُنت أعنف حرب ضد قرية إسبانية بكاملها سنة 1570، بسبب صوم رمضان.
من بين الذين عاشوا الواقعة، موريسكي اسمه فرانسيس القرطبي، وهو من مسلمي إسبانيا، الذين أجبروا على اعتناق المسيحية. وهذا الأخير عمد إلى تدوين شهادته، وحفظت مع مخطوطات الموريسكيين التي صارت موضوعا لأهم الدراسات التاريخية العربية منذ سنة 1980، إذ استخرج الباحثون شهادته التاريخية وبنوا عليها ترتيب وقائع كثيرة في حياة مسلمي الأندلس.
ومن بين أهم ما استخرجوا من شهادة القرطبي ذكره لأساليب «التعذيب النفسي»، الذي كان يتعرض له، بعد سنوات على انكشاف أمر صيام رمضان في منطقته. فقد أخلي سبيله رفقة آخرين، مقابل تعهد بعدم الصيام والتخلي عن ممارسة شعائر الإسلام. إذ عمدت السلطات إلى تحريض السكان ضده شخصيا، وأملت عليهم أوامر بتوجيه دعوة إليه في نهار رمضان لتناول طعام الغداء تحديدا، للتأكد فعلا من أنه لا يصوم رمضان. وكان القرطبي دائما ما يعتذر بحجة أنه مريض بداء فقدان الشهية، وهو ما زاد من حدة المراقبة ضده، قبل أن يُكشف أن الحجة الواهية التي أدلى بها لم تكن سوى وسيلة للتهرب من الأكل في نهار رمضان. ورغم أنه غير حجة تخلفه عن تلبية الدعوات التي توجه إليه، بأنه سبق له تناول وجبة الغداء لدى عائلة أخرى أو في مكان آخر، إلا أن حجته تلك سرعان ما استُعملت ضده، لتأكيد اقترافه «جناية» الصوم. وهذه الواقعة ذكرها المؤرخ الإسباني «لويس كاردياك».
روى القرطبي كيف أن بعض القرى كانت تصوم سرا، ويتجنب أفرادها الخروج الجماعي حتى لا يُكشف أمرهم، ويكتفون بتبادل الرسائل السرية لإخبار بعضهم البعض بحلول شهر رمضان، ويكلفون ثلاثة من كبار السن بمتابعة التقويم الهجري وإعلان دخول الشهر، طيلة السنة، ويلتزمون بصيام شهر رمضان في سرية تامة، إلى أن حلت سنة 1570، وارتكب الأهالي خطأ فادحا كلفهم صيامهم.
فقد التبس على المكلفين بالمراقبة تقرير رؤية الهلال من عدمه، وهو ما جعلهم يطيلون في التشاور إلى أن خرج سكان القرية لاستطلاع الأمر بأنفسهم، حاملين معهم قبسا نارية للإضاءة، وهو ما تسبب في لفت الانتباه إليهم من طرف أهالي قرية قريبة ووشوا بهم، ليتضح أن الأهالي خرجوا لاستطلاع هلال رمضان، وهو ما يعني طبعا أنهم يصومون رمضان. فتم تشتيتهم، وأجبر قسم منهم على اعتناق النصرانية، بعد أن خُيروا بينها وبين السجن، بينما القسم الآخر زُج بهم في السجن وحُكم عليهم بالأشغال الشاقة في بناء السفن وممتلكات الدولة.
وفي التوثيق المغربي، توجد إشارات مهمة، أبرزها للمؤرخ عبد الهادي التازي، وباحثين مغاربة آخرين، تناولوا فيها مأساة الموريسكيين، وخرج هؤلاء الأكاديميون بروايات شفهية دونها علماء مغاربة عاشوا بعد سنة 1600 ميلادية، خصوصا في فاس وتطوان، بعد أن أخذوها على لسان الموريسكيين الهاربين إلى مدن المغرب من بطش محاكم التفتيش، ودونها هؤلاء المغاربة في مخطوطات حققها الأكاديميون المعاصرون وأعادوا جزءا منها إلى الحياة.. ولولا هذه الأبحاث الأكاديمية، لضاع بالتأكيد جزء غير يسير من التاريخ الشفهي الذي يوثق للتضييق الذي مورس على الموريسكيين، عندما يتعلق الأمر بصوم رمضان بعد 1492م.
معاهدة منسية.. ضمنت حقوق الصلاة والصيام للأندلسيين
بين العام الذي سقطت فيه الأندلس، أي 1492، وسنة 1501 التي انتهت فيها «الهُدنة»، وقعت أحداث كثيرة في حياة الموريسكيين من مسلمي إسبانيا.
فقد كانت هناك اتفاقية منسية، سُميت معاهدة «التسليم»، والتي ضمن مسلمو إسبانيا بموجبها حقهم في إقامة الشعائر الدينية، من صوم وصلاة.
وحتى خلال فترة الهدنة، وقعت بعض التجاوزات التي قادها متطرفون إسبان من أنصار الكنيسة، وطالبوا بمنع مسلمي إسبانيا من رفع الأذان، والاحتفاء بالأعياد الدينية، عيدا الفطر والأضحى. وهو ما استجاب له ملك إسبانيا سنة 1502، مُلغيا الاتفاق.
ومنذ هذه السنة، دخل مسلمو إسبانيا مرحلة معاناة، أُريد لها أن تُقبر من الذاكرة الجماعية للإسبان.
أصبحت الصلاة ورفع الأذان والتردد على المساجد، وصوم رمضان، جرائم يعاقب عليها قانون إسبانيا.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصدر رئيس قضاة إسبانيا، الذي يعينه الملك بنفسه بعد استشارات مع رجال الكنيسة، أمرا قضائيا بإغلاق المساجد، وتحويل بعضها إلى كنائس، وأخرى إلى إسطبلات للخيول، خصوصا في القرى الصغرى التي دخلها الإسلام.
في شهر رمضان سنة 1502 ميلادية، أقيم في الساحات العامة تنفيذ لعقوبات استهدفت عائلات موريسكية، لكي تكون عبرة لغيرها، ويتعلق الأمر بسكان قرية صغيرة في جنوب إسبانيا، أبيدت بالكامل، وتناقلت القرى الأخرى الخبر. وكان الهدف من هذا العقاب، تجهيز المسلمين نفسيا لاعتناق المسيحية، بعد تخييرهم إما بالتخلي عن الإسلام، أو مواجهة مصير مطابق لمصير سكان القرية التي ألقي القبض على سكانها جميعا بتهمة «صيام رمضان».
وقع هذا قبل بروز ما سُمي تاريخيا بـ«محاكم التفتيش». فقد نُصبت محاكمات علنية لعدد من الموريسكيين الذين قبلوا التحول إلى المسيحية على مضض، بعد التشكيك في نواياهم وحقيقة تخليهم عن الإسلام. إذ كان كافيا أن «تشي» أسرة إسبانية بأسرة تم إجبارها حديثا على التحول إلى المسيحية، تحت شبهة استمرار ممارسة أفرادها لشعائرهم الدينية، خصوصا الصوم، لكي تُنصب لهم المشانق.
استمرت مسألة الوشايات مدة من الزمن، إلى حين فترة الطرد النهائي للمسلمين من الأندلس ونصب محاكم التفتيش النهائية التي جردت الموريسكيين من كرامتهم، وحتى هويتهم. وحتى الذين بقوا منهم في إسبانيا، فقد نجوا فقط بأعجوبة من تلك العقوبات.
تقول بعض الدراسات التاريخية الإسبانية إن محاكم إسبانيا توصلت بشكايات قساوسة في تلك السنة، بخصوص الموريسكيين، إلى درجة كان القضاة يجدون صعوبة في البت فيها، وكتبوا إلى ملك إسبانيا يطلبون منه تخصيص موظفين إضافيين، بهدف توسيع دائرة الأحكام والاعتقالات، تمهيدا للترحيل.
أما بخصوص الاتفاق المنسي الذي نُقض سنة 1502، في إخلال واضح بمبدأ الالتزام بالمعاهدات، فقد كان مهندسوه من رجال الكنيسة المتعصبين، الذين لم يقبلوا أن يوافق ملك إسبانيا وقتها على هدنة مع الموريسكيين، بعد استعادته للأندلس من المسلمين بالقوة العسكرية.
ورغم أن الاتفاق كان بهدف حقن الدماء، إلا أن الإسبان المحافظين سرعان ما ضغطوا لإلغائه وتضييق الخناق على مسلمي إسبانيا، ولم يجد ملك إسبانيا كارلوس الأول بدا من الموافقة على إلغاء الاتفاق الذي كان قد وقعه الملك السابق، سيما وأن الملك كارلوس عندما اتخذ هذا القرار لم يكن قد مضى على جلوسه على العرش أكثر من عامين.
كاتبة إسبانية تستعيد زمنا كان فيه صوم رمضان جريمة
«إنه من المشهور أنهم لم يصوموا أي صيام مسيحي، بل يصومون صيام المسلمين، خاصة ما يُسمى برمضان.. ولكي يخفي الموريسكيون ذلك فإنهم يذهبون إلى مزارعهم، ويقضون وقتهم هناك إلى أن يحل الظلام، فيعدون عشاءهم وطعامهم في سرية، ويؤدون بقية شعائرهم كالصلاة والوضوء، وهي شعائر يأمر بها محمد في القرآن».
هذا مقتطف من كتاب «الموريسكيون الأندلسيون»، للكاتبة الإسبانية مرسيدس غارسيا أرينال.
عندما صدر هذا الكتاب في إسبانيا، أحدث ضجة كبيرة، بحكم أن صاحبته اعتمدت وثائق من أرشيف مراسلات الكنيسة في إسبانيا. وهو ما جعل مناصري قضية الموريسكيين يفتحون نيرانهم على المحافظين، ويطالبون باعتذار رسمي عن الإساءة والاعتداءات التي طالت أجداد الموريسكيين في الأندلس، وبعض مناطق إسبانيا الأخرى التي انتقل إليها مسلمو البلد، عقب أحداث هزيمة 1492.
تقول الباحثة الإسبانية في معرض حديثها عن الصوم في إسبانيا، خلال فترة وجود الموريسكيين: «وبدون أدنى شك، صيام رمضان هو العبادة الدينية الأكثر تأصلا في حياة المسيحي الجديد، وفي الغالب هي أكثر عبادة يحافظ عليها الجميع. ويمكن القول بأنه آخر مظهر إسلامي من حيث التلاشي… فصيام رمضان كما تصفه المحاضر، يرتكز أساسا على الامتناع عن الطعام والشراب والمحافظة على ذلك من الفجر إلى الليل، عندما تطلع النجوم خلال شهر رمضان بأكمله. على وجه التحديد، طابع الرفض والامتناع في الصيام، مثل ذلك طابعه الجماعي، يجعل منه العبادة الإسلامية الأكثر تأصلا، وبالتالي الأكثر تميزا..
يبدأ الصيام بظهور هلال رمضان الذي كان يدور حوله توقع كبير، وكان هناك قلق عند انتظار الهلال ومراقبته، وكانوا ينقلون خبر ظهوره بين القرى المجاورة ويتناقشون حوله. وتسبب هذا الاهتمام بهلال رمضان في محاكمة عدد ليس بالقليل من الموريسكيين. تجدر بالذكر حالة سكان القرية «ديثا»، ففي عام 1570م (أي بعد 78 سنة على تنصير المسلمين) تم القبض على نصف سكان القرية، لأنهم خرجوا إلى أماكن الفضاء لرؤية ظهور هلال رمضان، ولما دار جدل حول ما إذا كان الهلال ظهر، أم لا، انقسموا إلى جماعات متفرقة وبدأت كل جماعة تدافع عن موقفها بصوت عال، وبالتالي علمت السلطات وقبضت عليهم».
هناك قصة رجل إسباني مسلم دخل التاريخ، واسمه «سيباستيان القواغازي»، بحكم أن ما وقع له سُجل في مخطوط، وصل إلى أيدي المؤرخين، سيما الباحث عبد الله محمد جمال، الذي أورد قصة هذا الموريسكي في كتابه: «المسلمون المُنصّرون».
حُكم على هذا الموريسكي سنة 1574 بمصادرة جميع ممتلكاته، وتم تحويله إلى عبد وُظف في التجديف داخل سفينة إسبانية لمدة ست سنوات، عقابا له على ممارسة شعائر المسلمين، وأهمها الصوم.
وورد في «المسلمون المُنصّرون» تفاصيل قصته: «إنه كان يتوضأ مرات عديدة، وصلى على طريقة المسلمين وصام الصيام الذي يقولون عنه صيام رمضان، ممتنعا عن الطعام والشراب حتى دخول الليل وطلوع النجوم. واعترف سيباستيان بأن مسلمي البربر ممن شاركوا في ثورة غرناطة علموه صيام رمضان، وهو يصوم شهرا كاملا.. وكان الاتهام يوجه أحيانا إلى الموريسكيين جملة على إثر بعض الحملات الفجائية على المحلات الموريسكية. فقد حدث مثلا في سنتي 1589 و1590، أن سجلت مئة قضية في قرية «مسلاته» الموريسكية بالقرب من فالنسيا، وسجلت في قرية «كارليت» مئتان. واتهمت أربعون أسرة بصوم رمضان.
ومن النقاط المضيئة التي وردت في بحث الكاتبة الإسبانية أرينال، قصة تؤرخ لاستماتة مسلمي الأندلس في ممارسة الشعائر الدينية، وأهمها صوم رمضان، رغم الوعيد والعقاب:
«في عام 1524م كان أغوستين دي ثيلي Agustin de celei وهو نسّاج من ديثا، غالبا ما يذهب إلى أراغون لزيارة أقاربه وأصدقائه. وكان ميغيل دي ديثا يذهب إلى مولد سان أندرس دي داروقاSan Andres de Daroca ، وقام ماتيو ألموتثان Mateo Almotazan برحلة من ديثا إلى سرقسطة، وعلمه الموريسكيون الأراغونيون كيف يصوم رمضان، ومتى. «وكان غريغوريو غورغاث Gregorio Gorgaz، العمدة الاعتيادي لديثا، يمتلك بعض خلايا النحل في سيستريكا وكان يذهب إلى هناك كثيرا، وقام الموريسكيون بهذا الإقليم بتعليمه صيام رمضان والصلاة والطهارة… وكان لويس إيرناندبيث، أحد ناقلي البضائع، قد تعلم كل ما يتعلق بالإسلام في أراغون التي كان يمر بها في أسفاره، وهناك وبإرادته قطع على نفسه عهدا أن يكون مسلما. وسافر لويس دي أورتوبيا إلى كتالونيا لبيع حمولته عندما بدأ رمضان، وأراد أصدقاؤه الأراغونيون أن يصوم معهم، ولما لم يتمكنوا من إقناعه حملوه إلى قرية بها فقيه مشهور، كي يعلمه الصيام ويحوله إلى الإسلام».
هل تسقط مآسي محاكم التفتيش من الذاكرة؟
الكتابات عن محاكم التفتيش، سواء باللغة العربية أو الإسبانية، كثيرة ووفيرة. لكن النقاش العمومي بشأن قضية الاضطهاد الذي تعرض له الموريسكيون وأحفادهم يبقى خافتا.
جاء في معرض تقرير ندوة نُظِّمَت في الرباط سنة 2016، عنوانها «القضية الموريسكية في ضوء التشريع الإسباني ومنظومة حقوق الإنسان».
د. محمد رزوق، المحاضر في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، شارك في الندوة، وفتح نقاشا من خلال كلمته عن محاكم التفتيش وحرية المعتقد. وجاء في كلامه، من خلال ملخص تقرير الندوة:
«بدأت أولى محاكم التفتيش في إشبيلية سنة 1482م وكانت قاسية جدا، ولوحظ أن الفئة التي كانت تعرض على محاكم التفتيش بدرجة أعلى هي فئة الأغنياء والطبقة المتوسطة، وذلك لاستغلال ثروتهم في الأزمة التي كانت تعاني منها المحاكم. وكان أول من اكتوى بنارها هم اليهود في إشبيلية، ثم تم طردهم خوفا أن يؤثروا على اليهود المتنصرين. ووصل أوج هذه المحاكم الظالمة بعد ثورة البيازين.
بخلاف ما يجري في العادة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، كان الموريسكي بمجرد القبض عليه وعرضه على المحكمة يعتبر مذنبا، ويكون دور القاضي عندها هو البحث عن دلائل تثبت ذنبه، يسعى المحققون أيضا إلى الحصول على اعترافات، وغالبا ما تدعي المحكمة أن الشهادات لا تكفي ويطالبون المتهم عندها بأن يعترف بالذنب ويتوب، هذا طبعا بعد شوط من التعذيب الذي لا يخطر على بال من شدته، يوضع السجين في معزل في مكان، فيما تصادر أمواله ليتم الإنفاق عليه من ماله الخاص، ليبقى تحت رحمة المحكمة حتى استنطاقه وليس له الحق أن يطالب بمحاكمته، والجدير بالذكر أن الموريسكيين لشدة إيمانهم كانوا يدعون الإسبان المسجونين معهم إلى الإسلام.
ساعة النطق بالحكم لا يحضر المدعي العام هذه المداولة، وينبغي تجنب تصريح أن الموريسكي بريء مما نُسب إليه، وإنما يقال لا تتوفر الأدلة الكافية، وذلك لترك المجال مفتوحا لإمكانية اعتقاله مرة أخرى».
لم يفت د. رزوق أن يشير إلى أن أسوأ كارثة جنتها محاكم التفتيش على التاريخ المشترك، أنها تسببت في إحراق المخطوطات العلمية الدينية، وأن الموريسكيين قاوموا تبعات هذه المحاكم وتعسفها إلى آخر رمق.
من المداخلات الأخرى المهمة، مشاركة أكاديميين إسبان خلصوا بدورهم إلى أن إسبانيا بتخليها عن تاريخ الموريسكيين تكون قد ساهمت في طمس جزء مهم من تاريخ إسبانيا، معترفين بالمآسي التي تعرض لها الموريسكيون من المتعصبين الكاثوليك الذين سعوا إلى اجتثاث الإسلام من أوروبا، لكنهم لم ينجحوا في اجتثاثه من صدور «الأوروبيين».
لماذا اختفت وثائق الموريسكيين؟
هذا السؤال لم يطرحه أكاديمي مغربي أو باحث في تاريخ الأندلس من الشرق، بل «أججه» باحث برتغالي اسمه د. أنطونيو خوسي ريي.
هذا الأخير، عرف في السنوات الأخيرة باهتمامه بمحنة الموريسكيين ومحاكم التفتيش والتضييق الذي طال مسلمي الأندلس، والذي حرمهم من ممارسة شعائر دينهم في مناطق إسبانيا والبرتغال أيضا، ولو بدرجة أقل في هذه الأخيرة.
كثيرا ما سُلط الضوء على محن مسلمي الأندلس، لكن مسلمي البرتغال لم يحظوا باهتمام أكاديمي مماثل.
يقول هذا الدكتور، في معرض مداخلته في الندوة نفسها التي احتضنتها المكتبة الوطنية بالرباط سنة 2016، والتي كان موضوعها، القضية الموريسكية في ضوء التشريع الإسباني ومنظومة حقوق الإنسان، إن هناك الكثير من الوثائق والأطروحات التي اهتمت بتجميع وثائق موريسكيي البرتغال، غير أن هذه الوثائق تكاد تنعدم عقب فترة تحول هؤلاء الموريسكيين إلى المسيحية، بعد سنة 1496. وسبب هذه الظاهرة التي أقلقت الباحثين، أن أولئك الموريسكيين غيروا أسماءهم وتخلصوا من وثائقهم، مسحا لأي آثار هربا من محاكم التفتيش.
هناك مداخلة أخرى لا تقل أهمية، في السياق نفسه، ألقاها الأستاذ الإسباني أنطونيو مانويل راموس، وهو محاضر في جامعة قرطبة بإسبانيا، ويشتغل على ملف إنصاف الموريسكيين تاريخيا وفي الحاضر أيضا. وهو على رأس لائحة المثقفين المطالبين بمنح الجنسية الإسبانية لأحفاد الموريسكيين المطرودين من إسبانيا، قبل قرون خلت.
وقد جاء في تقرير الندوة الذي أعدته مؤسسة ذاكرة الأندلسيين، والذي سلط الضوء على مداخلته العلمية واعتبرها من أهم خلاصاتها، ما يلي: «مفهوم إسبانيا كأمة تشكل عبر إلغاء المكون الموريسكي من الذاكرة الإسبانية وبتره، وأضاف أن الحديث هنا ليس عن الماضي، ولكن عن المستقبل. وإسبانيا يجب أن تنظر إلى نفسها في المرآة وتستعيد ذاكرتها، لكن كيف؟ المعاهدات التي وقعتها إسبانيا مع مختلف الشرائع السماوية سنة 1922، كانت عملا رمزيا لطلب الصفح من المسلمين، بيد أنه ما زال هناك نفي لهذه الذاكرة في المدرسة، حيث إنها تدرس كنموذج من الأجنبة وليس كمكون لإسبانيا. إن المكون الأندلسي إسباني برتغالي، وقد تم قطع أشواط للاعتراف باليهود السفارديم، ولكن ليس المسلمين.
من وجهة نظر قانونية فقد تم إدراج السفارديم في مدونة الأحوال الشخصية في فصل – من يريد الحصول على الجنسية الإسبانية ولديه رابط ثقافي مع إسبانيا يحتاج إلى الإقامة سنتين فقط ويكون له حق الجنسية.
إن المساواة تدعو إلى إدماج الأندلسيين والموريسكيين كذلك».
هذا الباحث الإسباني من المثقفين الإسبان الذين يعتبرون أن إخفاء الوثائق الموريسكية لم يأت إلا بهدف إسقاط وجودهم من تاريخ إسبانيا المشترك، بل وذهب في بعض كتاباته الأخرى إلى القول إن هناك تيارا لا يرغب أبدا في أن تظهر أي وثائق تتعلق بالموضوع في المستقبل.
البريطانيون حاولوا استثمار محنة المطرودين للانتقام من ملك إسبانيا
كانت قد مضت بضعة عقود فقط على طرد الموريسكيين من إسبانيا، ولجوء أغلبهم إلى المغرب، خصوصا إلى منطقة سلا، حيث تأسست المدينة التي سكنتها الأسر الموريسكية الثرية.
كان سكان سلا الجدد لا يزالون يحملون جروح المآسي التي عاشوها وتعرضوا لها في إسبانيا، على يد الكنيسة ومحاكم التفتيش.
وبحكم أن سكان سلا نجحوا في فرض وجودهم الجديد، وتأسس عندهم ما عرف تاريخيا بالجهاد البحري و«جمهورية القراصنة»، فقد فكر الإنجليز في الاستعانة بهم لضرب إسبانيا، واستثمار رغبة الانتقام لديهم لإضعاف إسبانيا.
وقد جاء في بحث بعنوان «جمهورية أبي رقراق.. قوة القراصنة البحرية وعلاقة القراصنة بالنصارى»، ما يفيد بأن الإنجليز عرضوا فعلا على أعيان سلا أن يتحالفوا معهم:
«وفي سنة 1626 قدم مبعوث عن البلاط الإنجليزي، واسمه جون هاريسن، بقصد الاتصال بقراصنة أبي رقراق حول القيام بهجوم مشترك ضد إسبانيا. وكان ملك إنجلترا في ذلك الوقت، هو جاك الأول. وكان ضمن شروط الاتفاقية، تحرير الأسرى الإنجليز، وتسليم أربعة عشر مدفعا مع ذخيرة إلى القراصنة، وقد عاد المبعوث في السنة الموالية، يقدم ستة مدافع مع كمية من الذخيرة، ولكن قضية الحلف ضد إسبانيا لم تقبلها الحكومة البريطانية التي لم ترتح إذ ذاك لمساعدة القراصنة، الذين كانوا قد قطعوا علاقتهم مع السلطان زيدان، وحينئذ تم تحرير أسرى الإنجليز، بعد أن توصلت جمهورية أبي رقراق في مقابل ذلك بالأسلحة المتفق عليها.
وفي عاشر ماي 1627 تم الاتفاق بين الجمهورية وجون هاريس على أن تفتح كل من موانئ الطرفين لترويج بضائع الطرف الآخر، مع عدم التعرض لسفن أي منهما، والتزام إنجلترا بتحرير جميع الأسرى الموريسكيين بمملكتها، وتعهد جمهورية أبي رقراق بمساعدة إنجلترا حربيا على أعدائها. وكان الذي أمضى الاتفاق عن الجمهورية «إبراهيم بركاش»، ومحمد باركو. غير أن شارل الأول رفض توقيع الاتفاق، ولم يمض قليل حتى استولت السفن الإنجليزية على باخرة للقرصنة، ورد الموريسكيون بالاستيلاء على عدد من البواخر الإنجليزية، وعلى الرغم من أن «جون هاريسن» عاد إلى المغرب يؤكد باسم ملكه، أنه يتبرأ من مسؤولية تصرفات السفن الإنجليزية التي استولت على الباخرة الجمهورية، فإن القراصنة قد اشتد غضبهم على المبعوث، حتى رفضوا أن يسمحوا له بالنزول من باخرته. وقد قضى «جون هاريسن» ست سنوات في التردد بين أبي رقراق وبلاده بين 1626و1631، حتى يعمل على تحسين العلاقات بين الجانبين، ولكنه لم يوفق إلى ذاك كثيرا».