محاكمات في عز رمضان بعضها رُشحت لتحمل لقب قضية القرن
قضية الكوميسير ثابت بدأت في أواخر شهر رمضان مع بداية التسعينيات. إذ إن أولى المشتكيات بالمسؤول الأمني الذي نفذ فيه حكم الإعدام سنة 1993، توجهت إلى الأمن لوضع شكاية بالاغتصاب والاحتجاز في شهر رمضان، وأهملت شكايتها قبل أن تعرف القضية أطوارا أخرى أدت إلى تفجيرها بقوة.
محاكمات أخرى، أغلبها كانت محاكمات سياسية، تفجرت هي الأخرى في شهر رمضان، أو عاش المعنيون بها صياما عصيبا بسبب التحقيق في الملفات قبل إحالتها على القضاء لتنطلق الجلسات التي أدخلت تلك القضايا إلى ذاكرة التاريخ.
يونس جنوحي:
قضايا زادت مراسيم الصيام تفاصيلها تشويقا
قضية الدكتور التازي وزوجته ومن معهما هي آخر القضايا التي تفجرت في شهر رمضان وتابع المغاربة أخبارها مع بداية شهر الصيام قبل أيام.
انطلقت أولى شرارات الملف الذي يتابع فيه الدكتور التازي وزوجته وبعض الموظفين في عيادته الشهيرة، بعدما تقدم مجموعة من مرضاه السابقين بشكايات يتهمون العيادة فيها باستغلال وضعيتهم الإنسانية والصحية وجمع تبرعات باسمهم، والتلاعب بالفواتير. وهو ما يدخل في خانة تهمة الاتجار في البشر واستغلال الهشاشة والضعف.
تهم ثقيلة جدا، تكشف أن قضية الدكتور التازي ومن معه سوف تدخل بدون شك أطوارا أكثر عمقا، خصوصا وأن بعض مرضاه السابقين خرجوا في تصريحات يؤكدون فيها أن العيادة استغلت مرضهم لجمع تبرعات من محسنين سجلوا بدورهم أنهم قدموا تبرعات لعدد من الحالات، وحولوها إلى الحساب الشخصي لعاملة في مكتب الدكتور التازي. وتكرر الأمر مع أكثر من حالة.
رمضان استثنائي بالنسبة لمتابعي أنشطة الدكتور التازي عن قرب في وقت سابق لاعتقاله، خصوصا وأنه أصبح من نجوم الإعلام الجديد، حيث تحل المقاطع التي برزت فيها أنشطته في مقدمة المحتوى الذي تابعه المغاربة خلال العام الماضي. حيث وثق للعمليات الجراحية التي قام بها لفائدة عدد من ضحايا الحوادث والعنف وعمل على إعادة البسمة إلى وجوههم هم وعائلاتهم. كما أشرفت العيادة التي يديرها بمعية زوجته، المتابعة أيضا في الملف نفسه، على جمع تبرعات لحالات إنسانية أخرى وتغطية مصاريف إجراء عمليات جراحية لهم، وهو ما زاد من شهرة الدكتور التازي في وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا الملف، ليس أول ملف يتم تفجيره في شهر رمضان. إلى درجة أن بعض التعليقات التي واكبت القضية ذهبت إلى أن التهم الثقيلة التي يتم التحقيق فيها مع الدكتور التازي ومن معه، سوف تعد بمفاجآت مقبلة بدون شك.
قضايا كثيرة لا تقل خطورة، تفجرت بدورها في شهر رمضان خلال العقود الماضية، وكأن الصيام وخصوصيات الشهر الفضيل تزيدها حدة وتبصم ذكراها بكثير من الإثارة.
عندما أفطر المغاربة بـ”مُحاكمة” الوزراء المتهمين بالفساد
في خريف سنة 1971، وبالكاد طوى الرأي العام صفحة محاكمة مراكش الشهيرة، والتي عاش الناس بعض أطوارها خلال رمضان، خصوصا خلال موجة الاعتقالات التي انطلقت سنة قبل المحاكمة، دخل المغاربة مرحلة تشويق أخرى بطعم مختلف تماما هذه المرة، بل كان جوا غير مسبوق نهائيا.
القضية تتعلق بما عرف وقتها بمحاكمة الوزراء المتهمين بالفساد وفرض رشاو لتمرير صفقات تتعلق بالوزارات التي كانوا يسيرونها.
تزامن رمضان سنة 1971 مع فصل الخريف، وخلاله جرت أطوار المحاكمة التي كانت محاطة بكثير من السرية والانغلاق، لكن المغاربة استقبلوا خبر أمر الملك الحسن الثاني باعتقال وزراء من حكومة العراقي، حيث أثيرت أسماء خمسة وزراء من الحكومة اعتقلوا وبدأ التحقيق معهم قبل عرضهم على المحكمة في شهر رمضان. بينما طالت الاعتقالات أيضا موظفين سامين ومسؤولين كبارا في مصالح الإدارات العمومية، وكانت التهمة الموجهة إليهم هي الفساد وتبديد المال العام والاغتناء غير المشروع، حيث لم يستطيعوا تبرير مصادر ثروتهم التي لا تناسب ما يجنونه من مناصبهم. بالإضافة إلى أن الوزراء المعتقلين كانوا موضوع شكاوى من طرف شخصيات أجنبية بينهم مستثمرون أمريكيون سبق لهم تقديم شكاوى وجدت طريقها إلى الديوان الملكي في بداية السنة، يشتكون فيها من تضييق وزراء مغاربة ووضعهم عراقيل كثيرة أمام مشاريع استثمارية أجنبية، حيث قدموا للملك الحسن الثاني في تلك المراسلات ما يثبت طلب هؤلاء الوزراء المغاربة لرشاو من شركات كبرى كانت تخطط للاستثمار في المغرب، من بينها علامة سياحية أمريكية تشيد سلسلة من الفنادق الفاخرة، وطلب أحد الوزراء المتهمين عمولة مبالغ فيها مقابل تمرير ملف تلك الشركة ومنحها مساحة لتشييد الفندق.
هذه التفاصيل لقيت متابعة كبيرة من طرف المغاربة الذين تسابقوا على الصحف لمعرفة خيوط القضية. لكن محاكمة الوزراء، رغم أنها كانت حدثا مهما في رمضان خريف سنة 1971، إلا أنها لم تنس المعارضة على وجه الخصوص، أن مئات المنتمين إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقدماء المقاومة، يقبعون في السجون بعد انتهاء أطوار محاكمة مراكش الشهيرة، حيث قضت عائلاتهم رمضان تلك السنة في محاولات الحصول على حق زيارة المحكومين بعد انتهاء أطوار المحاكمة. وهؤلاء كانوا يعتبرون محاكمة الوزراء بتهمة الفساد مجرد محاولة من الدولة لامتصاص غضب الشعب من مستويات التباين الطبقي في البلاد، واستبعدوا أن تكون للمحاكمة آثار على انتشار الرشاوى بين المسؤولين، ما دامت المعارضة السياسية قد قُمعت من خلال الأحكام القاسية لمحاكمة مراكش الشهيرة.
أسرار انقلاب «البوينغ» التي دُفنت في رمضان 1973
«باري ماتش» ووكالة الأنباء الفرنسية وبعض المراسلين الأجانب، كانوا جميعا يترقبون في الرباط ويلهثون وراء الأخبار القليلة التي تتسرب عن موعد جلسات محاكمة المتورطين في المحاولة الانقلابية التي استهدفت طائرة الملك الحسن الثاني في غشت سنة 1972.
شهد شهر رمضان في السنة التي بعدها، أي 1973، أطوار أسخن جلسات المحاكمة التي وقف فيها عشرات الطيارين وضباط القاعدة الجوية للقنيطرة أمام المحكمة العسكرية للبت في أطوار الانقلاب وتحديد المسؤوليات.
ورغم ساعات الصيام المتعبة وخصوصية الشهر الفضيل، إلا أن حدث المحاكمة جعلها تبصم على «روتين» الحياة اليومية للمواطنين الذين كانوا متعطشين لمعرفة أطوار المحاكمة وما ستسفر عنه من حقائق وإعادة ترتيب للأحداث.
لم تكن التهمة هينة، بل إن خطة الانقلاب نفسها لم تكن تقليدية، فقد كان الهدف إسقاط طائرة البوينغ 727 الملكية على ارتفاع كبير عندما دخلت الأجواء المغربية في ذلك اليوم.
توزعت أطوار الجلسات في مراعاة لخصوصية الصيام، بحكم أن رئيس المحكمة والادعاء العام والمحامين والمتهمين، كانوا يقضون ساعات النهار صائمين، وهو ما جعل أكثر الجلسات تشويقا تُؤجل إلى ما بعد الإفطار للبت في الأقوال ومراجعة التصريحات التي تقدم بها المتهمون خلال التحقيق معهم سابقا.
أما المراسلون الدوليون فكانوا يجدون صعوبة كبيرة في الاشتغال نهارا، ويجدون أنفسهم مجبرين على ملازمة الفندق، بحكم أن المطاعم والأماكن العمومية لا تشتغل نهار رمضان، ولا تستأنف الحياة في الرباط والقنيطرة ونواحيهما إلا بعد الإفطار.
من بين التسريبات التي خرجت من قاعة المحكمة، تلك التي تتعلق بحضور الجنرال الدليمي في المحكمة بصفته ممثلا للادعاء العام، وهو ما كان يمثل مسا بأركان المحاكمة بحكم أنه كان راكبا في الطائرة الملكية التي حاول الطيارون المتورطون إسقاطها. ولا شك أن دوره في المحكمة سوف يتأثر بكونه أحد «ضحايا» المحاولة. وقد سجل فعلا تحاملا كبيرا على الطيارين المتهمين، حتى الذين ثبتت براءتهم من التخطيط لإسقاط الطائرة الملكية، وأكد المتورطون ألا علم لزملائهم بالمخطط، لكن الدليمي كان يطالب بأقسى العقوبات للجميع.
بالإضافة إلى أن رئيس المحكمة كان يضطر مرات كثيرة إلى ضبط إيقاع الجلسات عندما تخرج عن السيطرة بسبب التصريحات التي اعتبرت «جريئة» لبعض المتهمين، خصوصا منهم أمقران واكويرة، اللذين صرحا أنهما كان يبيتان النية فعلا لإسقاط طائرة الملك الحسن الثاني ولم يجدا غضاضة في التعبير عن أفكار معادية للنظام، وظلا متمسكين بموقفهما إلى آخر الجلسات.
بينما كانت الأغلبية تحاول إثبات البراءة للقاضي.
وبما أن المحاكمة كانت عسكرية، فقد كان ولوجها ومتابعة أطوارها أمرا صعبا. وهو ما جعل قوات الأمن تعمل جاهدة لإبعاد الفضوليين والمتابعين، ومنعهم من الاقتراب من محيط المحكمة، بينما كانت العائلات ترابط غير بعيد عن الطريق التي تمر منها شاحنات نقل المتهمين من السجن العسكري في القنيطرة إلى مكان المحكمة، حيث كانت العائلات ترابط في عز رمضان في انتظار وصول المتهمين من أقربائهم، حتى يتمكنوا من رؤيتهم ويحاولوا التعرف عليهم من بعيد للاطمئنان عليهم، بحكم أن الزيارات خلال أشهر الاعتقال الأولى كانت ممنوعة. وهو ما جعل عائلات المتورطين والمتهمين الذين كانوا ينحدرون من أقاليم مختلفة، تربط علاقات تعارف في ما بينها، حيث كانوا يفطرون في الشارع العام في انتظار ما سوف تسفر عنه جلسات واحدة من أقوى محاكمات القرن الماضي.
وبعد نصف قرن على تلك المحاكمة، لا يزال الذين عاشوا أطوارها العصيبة يؤكدون أن حقائق كثيرة طمست وقتها، لتسهيل إرسال المتهمين إلى منصة الإعدام وطي الملف الذي شكل صدمة كبيرة في المغرب وقتها.
قضية الكوميسير ثابت التي بدأت تتسرب نهاية صيام سنة 1990
آخر حُكم إعدام نُفذ في المغرب كان في ملف الكوميسير ثابت الذي خلف زلزالا أمنيا كبيرا ليس في الدار البيضاء وحدها وإنما في المغرب ككل.
قضية «الحاج ثابت» كانت أثقل من أن تمر في جلسات سريعة للخروج بحكم الإعدام الذي جرى تنفيذه في حق الكوميسير الذي طالبت الصحافة المغربية سنة 1993 بإنزال أقسى العقوبات في حقه، لبشاعة التهم التي وُجهت له.
لم يُكتب للرأي العام المغربي في نهاية رمضان سنة 1990 أن يتعرف على القضية فور تفجرها بعد شكاية تقدمت بها إحدى السيدات ضد الكوميسير ثابت، حيث قالت في شكايتها إنها ضحية من ضحاياه الكثيرات اللواتي لا يقوين على مواجهته بحكم منصبه الأمني البارز في مدينة بحجم الدار البيضاء. والسبب أن القضية لم تحض بأي اهتمام إعلامي في البداية وجرت لملمتها بسرعة.
بعض الروايات أكدت أن بعض النسوة سبق لهن محاولة وضع شكاية ضد الكوميسير بعد المحاولة الأولى التي تزامنت مع آخر أيام شهر رمضان لسنة 1990. لكنهن فشلن في ذلك المسعى بحكم تردد بعض رجال الشرطة في عملية تسجيل شكاية ضد «الحاج» مستحضرين منصبه الأمني الحساس.
لكن على بُعد أيام فقط من أيام عيد الفطر في تلك السنة، حيث كان المغاربة منهمكين في الإعداد لطقوس العيد، تقدمت سيدة إلى مصالح الأمن ووضعت شكاية ضد الكومسير ثابت حيث أكدت أنه قدم لها نفسه في البداية باسم غير حقيقي، ثم اعترف لها لاحقا بأنه مسؤول أمني، وأكدت في شكايتها أنه اعتدى عليها جنسيا رفقة صديقة لها، واحتجزها ووثق العملية بالفيديو.
هذه الجزئية هي التي أكسبت القضية طابعا غير عادي. وجرى فتح بحث فيها ليتضح لاحقا أن الأمر كان يتعلق بالكوميسير مصطفى ثابت الذي كان يشتغل في ذلك الوقت رئيسا للاستعلامات العامة في منطقة بالدار البيضاء.
بعض التفاصيل المرتبطة بالموضوع تؤكد أن الضابط الذي تابع القضية في بدايتها أواخر شهر رمضان سنة 1990، وهناك مصادر أخرى تقول إن الأمر يتعلق برمضان من السنة التي بعدها، نُقل إلى مركز آخر حتى لا يتابع الملف في محاولة من بعض الأمنيين لحماية زميلهم من الزلزال الذي قد يحدثه إيقاف أمني كبير بتهم مشابهة. لكن مع تكرر وضع الشكايات لم يكن ممكنا الاستمرار في التكتم على الموضوع، خصوصا وأن شخصيات مرموقة باتت تعرف بعض المعلومات عن الملف.
لكن القضية لم تنفجر جديا إلا في سنة 1993، بعدما عادت واحدة من أبرز المشتكيات، يرجح أنها السيدة الأولى التي تقدمت بشكايتها قبل ثلاث سنوات، لتحرك شكايتها من جديد، بمعية محام هذه المرة، وهو ما جعل طي الموضوع صعبا، وتحركت أطوار القضية التي تابعها المغاربة لأشهر وانتهت بتحريك المتابعة في حق الكوميسير واعتقاله وتفتيش منزله لاحتجاز أشرطة جنسية ذكرت التقارير أن عددها وصل إلى 180 شريطا، أدانته بوضوح، بينما كان عدد ضحاياه من النساء قد وصل إلى 500 ضحية. ليصدر في حقه حكم بالإعدام وسط سخط شعبي عارم، لينفذ الحكم في شتنبر 1993 ويسدل الستار على القضية.
الحملة التطهيرية.. عندما أفطر عشرات المسؤولين المغاربة ورجال الأعمال في السجن
الحملة التطهيرية، أو آخر المناسبات التي استمتع الوزير إدريس البصري خلالها بممارسة سلطته وزيرا للداخلية «فوق العادة».
بدأت أحداث الحملة التطهيرية سنة 1996، وتزامنت مع شهر رمضان، حيث فوجئ المغاربة بأنباء عن اعتقال مسؤولين كبار في مؤسسات عمومية ورجال أعمال مغاربة من مختلف المدن كانوا معروفين بمشاريعهم الاقتصادية الضخمة وشركاتهم التي تُشغل مئات المستخدمين، وإيداعهم السجن بتهم الفساد المالي والارتشاء، بالنسبة لكبار الموظفين العموميين، والتهرب الضريبي بالنسبة لرجال أعمال كانوا من أصدقاء مسؤولين كبار في الدولة.
كان الخبر زلزالا حقيقيا واكبته الصحافة المغربية، الورقية على وجه الخصوص، بشكل يومي وعرضت لوائح بأسماء الموقوفين والتهم الموجهة إليهم.
كان إدريس البصري مزهوا بسلطاته الواسعة بحكم أنه كان مشرفا على الملف، في إطار مخطط إصلاح كبير للاقتصاد لإخراج البلاد مما عرف وقتها بـ»السكتة القلبية». حيث كان الملك الراحل الحسن الثاني قد أعطى تعليمات صارمة لا تقبل التأجيل، تتعلق بحل مشاكل الاستثمار. وبناء على التقارير التي وضعت فوق مكتب الملك بهذا الخصوص، فقد تأكد أن أكبر مشاكل الاستثمار الأجنبي في المغرب، هو الفساد المنتشر في الإدارات العمومية والتهرب الضريبي الذي يمارسه رجال أعمال مغاربة ويضيع على خزينة الدولة ملايين الدراهم سنويا.
استغل إدريس البصري الفرصة ليصفي حساباته مع معارضيه، خصوصا منهم رجال أعمال لم يكونوا على توافق مع تياره في الدولة، وهو ما جعل الحملة التطهيرية، حسب شهادات كثيرة في الموضوع، تخرج عن الإطار الذي رسم لها، وتم إخبار الملك الراحل الحسن الثاني أن بعض الذين جرى اعتقالهم، بينهم مديرون للموانئ ومديرو مؤسسات عمومية، لم تكن لديهم أي علاقة بتبديد الأموال العمومية، وإنما زُج بأسمائهم في الملف انتقاما منهم لا غير.
هذا الأمر جعل الملك الراحل الحسن الثاني يعطي تعليمات فورية لتصحيح الوضع وإطلاق سراح المتهمين بعد أن تأكد أن الحملة التطهيرية خرجت عن الهدف الأساسي المرجو منها، ووجهت المعارضة أصابع الاتهام إلى شخص إدريس البصري الذي ضرب بقوة في واحدة من أكبر عمليات اعتقال جماعية لكبار المسؤولين المغاربة في مختلف القطاعات.
مرت أزيد من 25 سنة حتى الآن على الحملة التطهيرية التي انطلقت في شهر رمضان. ضحاياها من الذين حكمت المحاكم لصالحهم بالبراءة، حصلوا على إعادة الاعتبار حيث دُرست ملفاتهم من طرف لجان الإنصاف والمصالحة، على اعتبار أنهم كانوا ضحايا سنوات الرصاص حيث جرى التحقيق معهم خلال شهر رمضان ونسبت إليهم تهم خطيرة بالفساد واستغلال النفوذ وتبديد أموال عمومية، وهي التهم التي كانت كافية لإرسالهم إلى السجن سنوات طويلة. ولولا تدخل الملك الراحل الحسن الثاني لإزاحة إدريس البصري من الملف، لربما كان وقع تلك الحملة أسوأ مما كانت عليه.
واعترف بعض العاملين مع إدريس البصري في وزارة الداخلية، بعد رحيله، بأن الحملة استُغلت لإزاحة الخصوم السياسيين والمنافسين في الانتخابات وأيضا المسؤولين الممانعين أو الذين كانت لديهم حزازات مع تيار إدريس البصري في أم الوزارات.
عندما صام أشهر محامي المملكة في قيظ مراكش سنة 1971
لم يجتمع مشاهير المحاماة في المغرب، مثلما اجتمعوا في يونيو 1971 للترافع لصالح المعتقلين في ملف «محاكمة مراكش الكبرى».
على مدى 64 جلسة، جرت أطوار أسخنها وأكثرها إثارة خلال شهر رمضان، رافع محامون مثل عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة وعبد الرحمن بن عمرو وعبد الرحيم برادة وآخرين.
هذه المحاكمة التي استمرت جلساتها الستون لأزيد من 290 ساعة، حسب ما تسجله محاضر أرشيف المحاكمة، والتي جمعها النقيب السابق للمحامين في الرباط الأستاذ عبد الرحيم بن بركة، كان الاهتمام بها في شهر رمضان كبيرا، ولم يثن الصيام العائلات والمحامين من تكبد العناء في عز حرارة الجو للتنقل إلى مراكش لمتابعة الأنفاس الأخيرة من المحاكمة التي أصدرت أحكاما ثقيلة جدا على المتهمين الذين تجاوز عددهم 193 شخصا تراوحت الأحكام ضدهم بين الإعدام والمؤبد ووزعت على أغلبهم قرابة خمسة قرون من سنوات السجن.
التهمة كانت المس بأمن الدولة وتوبع فيها رموز من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحوكم أغلبهم غيابيا مثل عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري، فيما تم تسليم كل من أحمد بنجلون وسعيد بونعيلات إلى المغرب من طرف السلطات الإسبانية التي ألقت عليهما القبض في السنة التي سبقت المحاكمة، وجرى احتجازهما إلى أن اعتُقل أغلب المناضلين الاتحاديين لتبدأ فصول المحاكمة. لم يفت النقيب عبد الرحيم بن بركة أن يسجل وقائع المحاكمة أولا بأول. ليس فقط من خلال المحاضر الرسمية للجلسات وإنما من خلال تسجيله الشخصي لما كان يدور بين القاضي وبين أعضاء المحكمة والمحامين من حوارات ومرافعات ساخنة. كان النقيب عبد الرحيم بن بركة وقتها في عنفوان الشباب، وأنهى لتوه تدريبه في مكتب المحامي عبد الرحيم بوعبيد، وكان يتحمس كثيرا في الطريق الوطنية الرابطة بين الرباط ومراكش لحضور أولى الجلسات رفقة عدد كبير من المحامين الذين كانوا يتطوعون للدفاع عن حشود المتهمين بتهمة تهديد النظام في المغرب، ولم يكن سهلا وقتها أن يعلن مغربي، حتى لو كان محاميا، نيته في الدفاع عن كل أولئك المتهمين، خصوصا أن الأجهزة الرسمية كانت تلقي بثقلها كله لنقل صورة إلى الرأي العام الوطني مفادها أن كل الذين ألقي عليهم القبض، والمئات الذين يحاكمون في مراكش، ليسوا إلا مجموعة من المخربين الذين يعادون الدولة والصالح العام.
لذلك كانت قافلة سيارات المحامين المغاربة، وهم يتنقلون في حر يونيو إلى مراكش، صورة معبّرة لم تمحها السنوات الطويلة التي تفصل بين وقائع المحاكمة وذكراها التي تعيش مع الكثيرين إلى اليوم. عددهم يتجاوز 193 شخصا، حوكموا حضوريا وآخرون حوكموا غيابيا.
يقول النقيب عبد الرحيم بن بركة:
«انطلقت جلسات المحاكمة يوم 14 يونيو 1971. وافتتحت أولى جلساتها على الساعة الثامنة وخمس وثلاثين دقيقة. بادر الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد إلى أخذ الكلمة قائلا: «قبل أي استنطاق هناك بعض النقاط يجب إثارتها. هذا ما جعلني إلى المطالبة بالتكلم بالنيابة عن السيدين أجار والحاج أيت الموذن. هناك حدث وقع هو موضوع التجريح في أحد القضاة. لذلك أرجو من المحكمة تطبيقا للفصل 286 من المسطرة الجنائية إيقاف البث إلى أن يقرر رئيس محكمة الاستئناف في التجريح المقدم له».
تدخل الأستاذ محمد بوستة: أود شرح الفصل 286 من المسطرة الجنائية وآخر، وشرع في شرح الفصل المذكور، حتى لا يقال من بعد أنه فات الأوان لوضع المشكل. فقاطعه ممثل النيابة العامة: أعتقد أن الطلب سابق لأوانه.
فأتمم الأستاذ محمد بوستة تدخله:
«بالرجوع إلى النصوص يفهم أنه عندما يدخل الرئيس ومعه القضاة فإن الجلسة تعتبر قد ابتدأت. كيفما كان الأمر فنحن نطلب من المحكمة تسجيل أننا طلبنا هذا قبل البداية في أي مناقشة».
إلا أن الرئيس اعتبر أن هيئة المحكمة غير تامة ما دامت لم تتركب بعد كمحكمة جنائية شارحا نفس الفصل وأمر بتسجيل الطلب الذي تقدم به الدفاع في ما يتعلق بالتجريح وشرع في النداء على المتهمين وسرَد أسماءهم».
وحتى في مراحل التقاضي الأخرى، حيث طلب دفاع المتهمين بإعادة النظر في الأحكام، فقد تزامنت مع شهر رمضان لتلك السنة، والذي تزامن مع شهر أكتوبر، لكنه شهد حرارة مرتفعة خصوصا في مراكش المعروفة بارتفاع درجات الحرارة في ذلك الوقت من السنة.
جدير بالذكر أن المحامين كانوا يراسلون القضاء قبل عقد المحاكمة في مراكش بسنة تقريبا، وتزامنت طلباتهم لرؤية المعتقلين والتواصل معهم مع شهر رمضان سنة 1969، حيث سجلت العائلات اعتقال أفراد منها واختطافهم بسبب أنشطتهم السياسية ولم يكن أي إعلان رسمي عن تلك الاعتقالات ودواعيها، لكن الدفاع ممثلا في نخبة المحامين المغاربة خاضوا حربا حقوقية كبرى لمعرفة الوضعية القانونية لموكليهم المفترضين قبل أن يتم الإعلان رسميا عن التهم التي توبع بها المتهمون وتحدد مواعد المحاكمة التي دخلت التاريخ واعتبرت من أشهر محاكمات القرن العشرين.