شوف تشوف

الرأيالرئيسية

مثلث الأخلاق

بقلم: خالص جلبي

 

ثمة خمسة ينابيع للعنف تبدأ من الرؤية البيولوجية، لتنتهي بأربعة أخرى نستعرضها بالتدريج، لنصل في النهاية إلى بناء العدل، فدخول عالم الجنة والسلام الأبدي.

الرؤية الأنثروبولوجية: تعيش خلايا الجسم في حالة تناغم وتناسق، وكأنها انسياب أعذب ألحان الوجود، وأروع سيمفونيات الخلق وهو ما عبر عنه القرآن بـ(التسبيح)، مع أنها بأعداد مخيفة، يكفي أن نعرف أن قشرة الدماغ لوحدها تملك حوالي 86 مليار خلية عصبية، كل واحدة منها تتمتع بأكثر من ألف ارتباط عصبي، بحيث تشكل شبكة ارتباط أعظم من الكون الذي يحيط بنا، مستندة إلى 100 مليار خلية دبقية عصبية، وفي الدوران تسبح في كل واحد ملمتر مكعب خمسة ملايين من الكريات الحمراء؛ أي في كامل الدوران البالغ خمسة لترات حوالي 25 مليون مليون كرية حمراء، تشكل في ما لو صففت بجانب بعضها البعض طولا يغلف الكرة الأرضية 6-7 مرات! تضاف إليها 25 مليار كرية بيضاء للمناعة، وفي كل كلية مليون وحدة تصفية (النفرون)، هي أعظم من أكبر محطة تحلية لمياه البحر. وتبلغ أنابيب مجموعات النفرون في الطول حوالي 50 كيلومترا، وتصفي كل 24 ساعة 1800 لتر من الدم، يتم طرح 180 لترا من الماء منه، ليعاد امتصاص كله تقريبا، إلا 1,5 لتر من السموم يطرح خارجا، وهو المعروف بالبول.

هذا التوافق قديم في تاريخه، عريق في أصالته، يمتد إلى مئات الملايين من السنين، في حين أن الحياة الإنسانية الاجتماعية لا تعد مع عمر البيولوجيا شيئا، تماما كما هو الحال بين عمر البيولوجيا مع عمر الأرض وبدء الحياة عليها؛ فإذا كان عمر الأرض حوالي 4.6 ملايير سنة، فإن عمر الإنسان المنتصب لا يزيد على 3,2 ملايين سنة، بحيث إننا إذا تصورنا كتابا بحجم ألف صفحة، فإن بزوغ فجر الحياة الإنسانية يبدأ في الظهور في الصفحة الأخيرة من هذا المجلد الضخم، أما الحياة الاجتماعية فهي الحرف الأخير من هذه الصفحة الأخيرة! ولا غرابة لأن الثورة الزراعية بدأت قبل 9000 سنة، والحضارة انطلقت قبل ستة آلاف سنة، والكتابة اخترعت قبل خمسة آلاف سنة، وهذا البدء قصير العمر، مقابل ثبات الزمن الرهيب من الناحية الخلوية البيولوجية، يجعلنا نستوعب فهم تعاون خلايا الجسم بدون حروب، إلا في حالة واحدة تشبه الدمار النووي وهي حالة السرطان! مقابل حروب بني الإنسان التي تفسر هذا الاضطراب والتشويش وعدم الانتظام، وانعدام التناسق بين نسيج خلايا الجنس البشري الكبير.

الرؤية الجنسية: وهي دور المرأة، حيث مثلت المرأة من جهة خزانا للحياة لا ينضب، سواء في الحمل والإنجاب، في العناية والتربية، في الحب والدفء الإنساني، أو في النعومة والانسحاب من مظاهر العنف، تلك التي يتميز بها الذكور، كذلك عدم تعرضها للقتل في ساحات المعارك تلك التي يتهارش فيها الذكور ويذبحون بعضهم بعضا فيها. فضلا عن دور المرأة أنها أدخلت الجنس البشري مرحلة الثورة الزراعية، حينما استنبتت الزرع، في الوقت الذي كان الذكر يجوب السهوب خلف الصيد وجمع الثمار. وما حدث أن الذكور امتلكوا قيادة الجنس البشري، وهذا أدى إلى استحداث الجيوش المؤسسات الذكورية التي ارتبطت بهيمنة الذكر على مصير النوع الإنساني، والجيوش هي مواد خام الحروب، حيث يقتل فيها الذكور مرة أخرى، أولئك الذين استحدثوها وصنعوها ورتبوها!

الرؤية التكنولوجية: منذ تدشين أول جريمة على وجه الأرض باستعمال سلاح صغير (حجرا أو عصا)، نمت مقدرة القتل مع تطوير قوة (الصدم) و(سرعة الصدم) وهكذا ارتفع (مشعر القتل) كما يسميه العسكريون من قوة (18) بالضرب بالرمح في معركة عسكرية رجلا لرجل إلى أرقام تفوق المليون من خلال السلاح النووي، إلا أن النكتة التي حصلت هي شبيهة بما حصل في تعلم لغة العميان لـ(برايت)، فقصة عمى هذا الإنسان (برايت) حركت فيه التحدي، ليقول إن هذه الإبرة التي كنت أسرج فيها الخيل فثقبت عيناي فأعمتها واحدة بالجرح والأخرى بالالتهاب المشارك، هذه الإبرة لا بد أن فيها سر عودة النور إلى عيني مرة أخرى! الإبرة لم تجعله يبصر مباشرة، ولكن الإبرة بحفرها على الخشب هي التي منحته اختراع حروف القراءة للعميان، لكي يكسبوا قدرة الاتصال بالعالم من جديد. هذا السلاح اللعين وتطويره الذي فتك بالإنسان هو نفسه الذي قاد في النهاية إلى إبطاله، فالقوة أبطلت القوة، وبلوغ سقف القوة من خلال السلاح النووي حول السلاح النووي في النهاية إلى سلاح ردع وليس سلاح استخدام!

الرؤية السيكولوجية: كان الجانب التربوي للإنسان حتى الآن في معظمه غير سلامي، وكانت مهمة الأديان هي التبشير بالإنسان الجديد، ووضع كوابح للعنف عنده، ورد الإنسان إلى العمق الأساسي لوجوده. توجه الدين ومن خلال التربية الميدانية، ومنها الصوم الذي هو تعبير عن ضبط النفس والوقوف عند الحدود والكف عن المحارم وسفك الدم. الصوم يشكل أداة مهمة في تنمية دوافع الردع الداخلية، في محاولة لإيجاد حالة السلام الداخلية عند الإنسان، التي إن تحققت شع منه السلام الحقيقي والكامل والدائم على الكون.

الدين يريد منح الإنسان الكرامة الجديدة بعد كرامته الأولى، من خلال الصياغة الاجتماعية للإنسان باستحداثه إنسانا؛ بالصقل الجديد والتربية الحديثة أن يقوم بعملية جراحية كبرى داخلية لاكتشاف ينابيع الأخلاق الأساسية (الثلاثة) الممثلة في الحكمة والشجاعة والعفة، والتي يمثل كل منها نقطة وسط بين هوتين، وهكذا فالسخاء هو وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين التهور والجبن، ويسعى الدين إلى إرساء المثلث الأخلاقي بين أمهات الأخلاق الأساسية التي أشرنا إليها، من أجل الوصول بالنفس إلى حالة العدل التي هي القانون الأسمى في الوجود، والذي قامت به السماوات والأرض. في اللحظة التي نمسك فيها بالبوصلة الداخلية وهي تعمل نظيفة براقة، والعدل الداخلي قد تأسس، تدخل النفس الإنسانية مرحلة النفس المطمئنة، في عالم السعادة والتي أبرز صفاتها السلام، السلام مع النفس والكون المحيط والنجم الذي نرى، مع النبات والطير، مع الجبل والحجر، مع النمل والنحل، مع الإنسان الأخ والمجتمع الأب (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين).

من جنة السعادة ومن كنز النفس المطمئنة يشع نور السلام إلى العالم كله، ولا غرابة فالله أحد أسمائه السلام والجنة هي دار السلام وتحية أهل الجنة هي السلام، والإسلام هو السلام الشامل والدائم طالما كان مصدره الأبدية، التي طالما تاقت إليها نفس فيلسوف القرن الثامن عشر (إيمانويل كانط)، فسطرت يمينه كتابه (نحو السلام الشامل).

 

نافذة:

يسعى الدين إلى إرساء المثلث الأخلاقي بين أمهات الأخلاق الأساسية التي أشرنا إليها من أجل الوصول بالنفس إلى حالة العدل التي هي القانون الأسمى في الوجود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى