د. خالد فتحي
بحصول المغرب على شرف تنظيم كأس العالم، يكون قد أصبح أو أنه في طريقه لكي يصبح من الدول التي توصف بذات العيار الثقيل.
يكشف التاريخ أنه تكون أحداث، ومحطات واستحقاقات، تتوالى في حياة الأمم، تجعل كل الأنظار ترنو إليها بوصفها أمة قادمة، ثم لا يلبث أن يحدث ذاك المنعطف النهائي والحاسم الذي يرسمها دولة كبرى في المشهد الدولي.
في هذه السنين الأخيرة، بدا كما لو أن المغرب مر إلى السرعة القصوى في صعوده المتواصل: عودة مظفرة إلى بيته الإفريقي، أداء مقنع خلال أزمة كورونا، دبلوماسية ناجعة حققت له أبهى الانتصارات، وحسمت موقف كبريات العواصم من قضيته الوطنية، جرأة وإقدام في فرض منظوره لعلاقاته الدولية، ومنهج دقيق لانتقاء أصدقائه، تنويع للشراكات الاقتصادية، تأهل تاريخي للمربع الذهبي بقطر وإدارة محكمة للزلزال الذي ضرب المملكة.
لذلك أعتقد أن البشرى التي زفها الملك للشعب حول احتضاننا لأهم تظاهرة رياضية عالمية كانت منتظرة جدا في سياق كل هذه الإنجازات التي شهد لنا بها العالم. فحق لنا، إذن، أن نفرح ونفخر بهذا النجاح، وببلوغ هذا الإنجاز الذي هو ثمرة رؤية ملكية سديدة، بعيدة المدى، وقوية النفس لتبيئة المغرب في مصاف العظام.
صحيح أن كأس العالم هو الفرجة، وهو المتعة والانتشاء الكروي في أعلى مراتبه، ولكنه أيضا تظاهرة وحدث كروي، بل واقتصادي سياسي لنا فيه مآرب ومكاسب أخرى:
سيؤهلنا كأس العالم كي نعيش أولا هذه الانعطافة التاريخية التي ستنقلنا نهائيا من صف إلى صف، كما سيشكل ثانيا طاقة أوكسجين تنفتح لنا في هذا الزمن العسير المليء بالأزمات والتحديات والمخاطر. فكأس العالم، قبل أن يكون منشآت رياضية ونجوما ولاعبين موهوبين يدلون على الدولة الناجحة رياضيا، هو أيضا بنية تحتية يتم تحديثها وتعميمها إلى أقصى نقطة، طرق سيارة، وقناطر، وفنادق، ومنتجعات، وسياح واستثمارات، ثم بعد ذلك هو إشعاع وتأثير دوليان، وقوة ناعمة تتحصل لك في أرجاء المعمور، وتقدير واحترام يترسخان للمغرب في نفوس الشعوب والحكومات.
العالم كله شهد على حب المغاربة للكرة في قطر، ومنتخبنا تحول لأيقونة ليس للأفارقة والعرب والمسلمين فحسب، بل ولكل العالم. أليس هو المنتخب الفريد الذي حمل مع الكرة للمونديال الطابع الأصيل والقيم العظيمة لأمته؟ ولذلك، فالعالم والفيفا كانا مطمئنين، وهما يأتمنان المغرب على التظاهرة الأولى، فيعتبرانه خليقا بأن يوفر لها كل أسباب النجاح بفضل تمكنه من ضمان استقراره السياسي في محيط متقلب يعج بالنزاعات.
لكم تتحقق اليوم بكل حذافيرها تلك النبوءة الصادقة للملك الحسن الثاني عن المغرب بكونه شجرة سامقة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوروبا. هذه النبوءة التي شكلت برنامجا لخلفه الملك محمد السادس ينجح الآن في تجسيدها واقعا، فمنذ أيام فقط، استطاع المغرب بالقاهرة أن ينال سعفة تنظيم كأس إفريقيا بالإجماع، وهو ما حصده مرة أخرى بمعية صديقيه بل حليفيه البرتغال وإسبانيا.
وهنا لابد أن أقول إن هذا الإنجاز الثلاثي ما كان ليتحقق لولا التقارب الإسباني المغربي الذي هندسه وأحكمه الملك. من كان يحدس أن ذاك التقارب سيمهد لهذا الانتقاء؟
كثيرة هي المعاني التي تتوهج أمام أنظارنا عبر هذا الفوز المبين، منها أن المغرب يؤكد أنه صلة الوصل بين الشرق والغرب وبين إفريقيا وأوروبا، وأنه البلد الوحيد الذي قيض له الله شخصية ثرية متعددة المشارب تجعله يؤثر عربيا وإفريقيا وإسلاميا ومتوسطيا وأطلسيا وأوروبيا، لذلك أتوقع أن يشكل نجاح هذا المونديال من خلال دولتين أوربيتين ودولة إفريقية، حافزا على تسريع بناء الجسر الرابط بين القارتين وهي رؤية ثانية أبدع فيها الحسن الثاني، وستتحقق بعون الله.
وأخيرا، فإن الأهم، في كل هذا، هي هاته الروح الوثابة والمتحمسة التي ستسري أكثر في أوصال وشرايين المملكة بفضل هذا المكسب الكبير. روح ستغير المزاج المغربي نحو الأفضل، وتزيد من منسوب ثقتنا بأنفسنا، وتخلق فينا مناخا داخليا للإبداع والتفوق. فالمغاربة فطروا على حب التحدي والتضحية عند المهام الجليلة، وبالتالي لن يكون كأس العالم إقلاعا رياضيا لأن الإقلاع الرياضي باد لكل ذي عينين، ولكنه سيكون فرصة لتقدم باهر يطال كل المجالات والميادين.
إن المغرب بشعبه وملكه لقادر على كسب الرهان وإبهار العالم من جديد. وهذه مهمة عظيمة لكنها تصغر حتما في عين شعب عظيم كالمغرب.