
د. خالد فتحي
من المؤكد أن شارل دوغول يتحسر الآن في قبره، وهو يرى الضعف والهوان، اللذين تبين عنهما بلده فرنسا في عصر ترامب. ويتمنى لو يعود إلى الحياة لولاية واحدة ومهمة واحدة، ألا وهي تحقق شخصية فرنسا أمام الولايات المتحدة الفرنسية. الفرنسيون الأحياء صاروا مثله أيضا يحنون سرا وعلانية إلى زمن الكبار من الرؤساء الفرنسيين، الذين كانوا قادرين على مطاولة أمريكا وعلى قول لا لها، عادوا يرددون جميعا في مواقع التواصل الاجتماعي ما يفيد بافتقادهم للبدر في لياليهم الظلماء هاته. فلقد جد جدهم، وعاد حقا لهم أن يحنوا إلى الجنرال، بعد أن رأوا كيف تمرغت كرامة فرنسا وأوروبا معا في الوحل، بتهميشهما واستبعادهما من عملية صنع الحل بالرياض بين روسيا والغرب.
ماكرون، الرئيس الذي انتهت إليه الجمهورية الخامسة وساكن الإليزيه المتضائلة شعبيته باطراد، استشعر هذه النوستالجيا الفرنسية، وقرر في الأسبوع الماضي الركوب عليها بأن يحاكي انتفاخا صورة دوغول، لكنه بدا وكأنه يتكلف دورا أكبر منه. فنجمه يأفل يوما بعد يوم في الداخل والخارج، وحركته الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تأتي وسعده في إدبار… مجبرا لا بطلا، يحزم حقائبه نحو واشنطن كآخر مبادرة يقدم عليها لرفع العتب- كما يقال- عن نفسه أمام الأوروبيين، وخصوصا أمام زيلينسكي المستجير بالاتحاد الأوروبي من تنكر ترامب. عقد ماكرون هذا، قبل شده الرحال إلى البيت الأبيض، مؤتمرا أوروبيا مصغرا استجمع به قوته، وحشد به ما تيسر له القادة في القارة العجوز، متأسيا ربما بما فعله العرب الذين أعلنوا أيضا في مواجهة ترامب أنهم سيعقدون مؤتمرا لجامعتهم العربية. لكن مخرجات قمة باريس كانت شاحبة ودون آماله، فقد فشل في أن يستمد له شرعية تفاوضية بينة. هذا الجمع فضح أكثر فأكثر اختلاف الرفاق الأوروبيين، بشأن الموقف بخصوص أوكرانيا ورئيسها زيلينسكي.
وهكذا يزور ماكرون البيت الأبيض كآخر خطوة، قبل رفع الراية البيضاء أمام ترامب. قبل سفره، أخبر الفرنسيين بما ينوي قوله لهذا «الصديق» العنيد، الذي أمن للعدو قائلا إنه يأمل أن يقنعه بأنه يسير في طريق خاطئ حين يتخاذل أمام موسكو على حساب كييف وبروكسيل، وإنه بمثل هذا السلوك سيفسح الباب أمام جرأة أكبر من طرف الصين، التي تستعجل استرجاع تايوان، وكذلك أمام إيران التي تتطلع لقنبلتها النووية. هذه هي سردية ماكرون، وهي سردية بسيطة تخطر حتى للعجائز. أما وسائله فمحدودة وغير فعالة، وأهمها أنه يلوح، لا بل يدعو علانية إلى أن أوروبا، إن تمت إهانتها وتجاهلها من طرف الدب الروسي و«العم سام» بالرياض، فهي سوف تتمرد، وتنتفض، وتقلب الطاولة، وقد تشرب حليب السباع، وتواصل الحرب منفردة دون الولايات المتحدة الأمريكية. وأنها ستفعل ذلك بقيادة باريس التي مثل واشنطن، تمتلك سلاح الردع النووي. لا يهم عدد القنابل، بل يهم أن يكون لك ما تفني به الأرض.
الفرنسيون لا يثقون كثيرا في عنترية ماكرون ولا في دهائه، فهم اختاروه رئيسا بوصفه أخف الأضرار فقط. ولا يعتقدون أن من الممكن أن ينجح دوليا، بعد أن أخفق داخليا. إنهم يعون أن خياراته ضيقة للغاية، وأنه سيعود لا محالة بخفي حنين، فالتجاهل الأمريكي وانحسار تأثير فرنسا على واشنطن ينسجمان مع تراجع هيبتها في مناطق نفوذها الكلاسيكية. لن ينجح ماكرون في أمريكا، وقد أخفق بإفريقيا. الكل يعلم أن ماكرون لا يملك التهديد باستقلال أوروبا الأمني والعسكري عن أمريكا، كما أن ترامب يعرف أنه حلم غير ممكن الآن، لأنه يستدعي رفعا لإنفاق عسكري لا تستطيعه الحكومات الأوروبية بالنظر إلى الضوائق الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها. فرنسا على سبيل المثال تعاني عدم الاستقرار الحكومي، والغلاء والتضخم، وتنامي السخط الشعبي الناجم في جزء كبير منه عن رفض الفرنسيين تمويل حرب أوكرانيا من ضرائبهم، لقد استبد القرف من هذا الوضع المتهور بأطياف واسعة منهم، لدرجة تنادي معها بـ«الفريكسيت»، أي بخروج فرنسا من العباءة الأوروبية على غرار «بريكست» بريطانيا، كما أن ألمانيا الضلع المهم في الاتحاد الأوروبي انتهى رخاؤها، بعد أن أفسد بايدن عليها علاقتها بموسكو التي كانت تمدها بالغاز والنفط. فصارت أعجز اجتماعيا واقتصاديا من أن تنبري وتتولى بنفسها حربا عسكرية ضروسا ضد روسيا البوتينية.
ثم إن ترامب يرغب فعلا في أن تخرج أوروبا من الجبة العسكرية لأمريكا، كي تنهض بأمنها. ذلك يقوي الغرب برمته، ويصلبه في مواجهة غريمته المشتركة الصين، والأهم أنه يخفف العبء المادي عن الولايات المتحدة الأمريكية، التي أرهقتها كفالتها للأوروبيين.
بهذا المعنى، يكون المطلوب من رئيس فرنسا أن ينجح في تمرين نفسي صعب جدا، أغلب الظن أنه لا يمتلك مؤهلاته…. ما زالت طرية بالأذهان سابقة استقباله من طرف بوتين، الذي كان أجلسه بعيدا عنه عدة أمتار، وأكيد أنه يفكر كيف يتفادى تكرار مثل ذاك الوضع المحرج، فهو سيواجه هذه المرة رئيسا يؤمن بالقوة، وقد يعامله بعجرفة واستعلاء أمام الكاميرات…. رئيس سوف يحاسبه ولا شك على سيره في ركاب بايدن، وعلى مهاجمة وسائل الإعلام الفرنسية له قبل وبعد انتخابه. ثم، وإن أفلت من هذا الحساب العسير، كيف له يحبط بكلام عاطفي عن ضرورة الوفاء وشروط الصداقة وخوض الصراع المشترك مع الأعداء، عقلية ترامب كرجل أعمال شعاره أمريكا أولا لا يهمه هذا الكلام البالي، بقدر ما يهمه ما تربحه أمريكا. فرنسا لا تقدم له شيئا، بل تحمله أعباء سينوء بها كاهله. والنتيجة أنه لن يقتنع بأن يتقاسم مع الاتحاد الأوروبي بدوله 28 خيرات أوكرانيا، هو الذي بإمكانه أن يقتسمها مع بوتين فقط. أليست القسمة على اثنين تدر دائما غنائم أكثر، وروسيا لا تريد سوى المساحات التي اكتسحتها، وستترك لأمريكا نصف معادن ما تكتنزنه أرض أوكرانيا. فهي تحتاجها أكثر من الأوروبيين لمنافسة الصين والبرازيل وجنوب إفريقيا الغنية بالمعادن النادرة. أما انضمام أوكرانيا إلى الناتو فليس مهما إتمامه، إذا تم تألفت أمريكا قيصر روسيا. أمريكا هي القلب النابض للغرب، وفرنسا ومعها أوروبا ليسوا سوى مجرد أطراف، وفي زمن الضوائق، يجب أولا أن نحافظ على سلامة وصحة القلب. هذا ما سيسمعه ماكرون من ترامب، الذي يطبق بكل الحذافير المثل المغربي: إذا عاش بلارج (اللقلاق) عاش أولاده (فراخه).
ولذلك، فالظاهر إذن أن ماكرون في مهمة مستحيلة بأمريكا. فهو ليس في وضع من يملي، بل في وضع من يتلقى الإملاءات، إنه يسير إلى ترامب وهو مهدد بأن تفرض واشنطن رسوما جمركية مرتفعة على الواردات التي تصدرها إليها بلده فرنسا، وإنه يقابله بعد أن وجه إليه اللوم الشديد بأنه لم يفعل شيئا، لا هو ولا رؤساء وزراء بريطانيا، طيلة 3 سنوات لوقف الحرب. كأنه يتعحب منه كيف يريد منه هو وستارمز موقعا لهما تحت الشمس؟ لقد زج به ترامب الداهية في قفص الاتهام، قبل أن يصل إلى واشنطن، لينسى ما جاء من أجله، ويكتفي بأن يشرح له لماذا تورطت أوروبا بغباء مع بايدن في حرب أوكرانيا؟ إن ماكرون مطالب بتفسير في أمريكا.
إنه باختصار في مهمة خاسرة، خصوصا أن ترامب لا يريده حليفا له بفرنسا. لقد سبق السيف إذن العذل، وسيعود خائبا، ولربما أن خيبته سوف تسرع خروجه من المشهد السياسي برمته، فقد تجر عليه وبال انتخابات رئيسية مبكرة، تأتي بطيف جديد من الساسة الفرنسيين يمالئون ترامب ويمالئهم… سياسيين بدلاء يباركون الخطوة الأمريكية، التي «أعادت» السلام إلى أوروبا. هل يا ترى يكون لسقوط بايدن وكمالا هاريس تأثير الدومينو على كل عروش أوروبا؟ من جهتي أعتقد أن الأمر سيكون كذلك.