شوف تشوف

الرأي

مارك لا يحبني

شامة درشول
لا يحلو لي النوم إلا إن تصفحت كتابا، والكتاب الذي أثار اهتمامي ليلة السبت الماضي كان يحمل اسم «رحلة إلى مدينة النعاس»، لكاتب إسباني كان عضوا في البعثة الإسبانية التي أوفدت إلى المغرب بعد هزيمته. حدث هذا في منتصف القرن الثامن العشر، وكانت مهمة الكاتب، واسمه «أنطونيو دي مارتين»، أن يتعرف على المجتمع المغربي، ويكتب عنه تقارير ستعتمدها البعثة الإسبانية في خطتها الاستعمارية للمغرب.
في صفحات الكتاب الأولى، لفت انتباهي أن الرجل يتحدث عن أولئك اليهود، أو كما أسماهم الكاتب «ذاك الجنس المزدرى»، وكيف أنهم يرتدون ملابس سوداء، رثة، وملامحهم بئيسة، ويبدو عليهم الفقر، وأنهم يتزاحمون على مرفأ طنجة لكي يقوموا بتحميل المسافرين على ظهورهم، والعبور بهم من المرسى إلى اليابسة.
كان ذلك الوصف ملفتا للانتباه، وأول ما فكرت فيه هو القرون التي عاشها اليهود في ذلة من أمرهم، إلى أن أتى يوم وباتوا يحكمون العالم، وكيف أن هذا الكاتب يتفاخر بأنه مسيحي كاثوليكي، ويرى نفسه إسبانيا لا يرقى إليه المغربي الإفريقي الجاهل المتوحش كما يصفه، ولا ذاك اليهودي المشعوذ البئيس المنبوذ، وأن القوة والحياة لا يستحقها إلا مسيحي كاثوليكي مثله، وأنه كإسباني لا يشعر بالحقد إلا تجاه هؤلاء البريطانيين الذين يحتلون جبل طارق، وأنه يؤمن بأن إسبانيا فقدت جبل طارق لأن جيشها كان يفتقد الإيمان اللازم، وأنهم سوف يستعيدونها فور استعادة الإسبانيين لإيمانهم بمسيحيتهم.
كان الكتاب ملفتا، بل صادما، لدرجة أني التقطت صورة لبعض المقاطع منه ونشرتها على صفحتي على فيسبوك، وتحدثت فيها عن نظرة الكاثوليكي المسيحي لليهودي، وللمسلم، وكيف أن السلطة تتحكم في منظورنا للآخر، وأنها تتغير كلما تغيرت السلطة، ويبدو أن حديثي هذا لم يعجب «مارك زوكيربيرغ»، إذ لم تمر أكثر من ساعة حتى وجدت رسالة من فيسبوك تقول إنه تم حذف منشوري ذاك لأنه حسبه يحتوي على «كلمات تحرض على خطاب الكراهية»، قرأت الجملة عدة مرات أحاول أن أستوعب إن كان ما كتب بالإنجليزية هو فعلا ما فهمته، ثم ضحكت، ضحكت وأنا أتذكر أن موضوع رسالتي لنيل الدكتوراه كان حول «الإعلام الاجتماعي وخطاب الكراهية»، وأن محاضراتي التي أدعى من مؤتمرات العالم لتقديمها أمام مشاركين من جنسيات مختلفة تكون حول سبل محاربة خطاب الكراهية في الإعلام، فكيف يجرؤ «مارك» ويتهمني بما لم أرتكبه يوما؟ بل يتهمني بما أدافع دوما عنه حتى لو كانت النتيجة أن أتهم مثلا بالتطبيع في حين أن كل ما يحركني هو محاربة كل أشكال الكراهية حتى لو كانت مناهضة التطبيع نفسها؟
تساءلت كثيرا، ثم توقفت، وعدت إلى المنشور، قرأته من جديد أحاول أن أفهم الجريمة التي ارتكبت وجعلت «مارك لا يحبني»، ويطردني من مملكة فيسبوك، هل هي كلمة «جنس مزدرى»؟ أم كلمة «مغربي متوحش»؟ أم هو حقد الكاتب الإسباني على بريطانيا؟ أم فخره بأنه مسيحي كاثوليكي والبقية مجرد رعاع؟
لا أعرف، ولا حتى تعليقات القراء على صفحتي أتت بجواب، هم بدورهم استغربوا وتساءلوا، واستهجنوا أن توجه إلي تهمة ثقيلة مثل التحريض على الكراهية، قالوا إنه ربما واحد من أتباع الصفحة قد بلغ عنها لسبب ما، وقالوا إنه قد تكون الكلمات التي كتبت مسجلة في ديوان فيسبوك على أنها كلمات محرمة وهو ما يفسر حسبهم سرعة حظر المنشور، كلها قد تكون أسبابا منطقية، لكني بعد تفكير وجدت سببا آخر كنت قد نسيته، وهو أن «مارك لا يحبني».
منذ أربع سنوات، التقيت بصديق يقيم بفرنسا، وقبلها كان يقيم بأمريكا واشتغل لفترة مع جهاز الاستخبارات، أخبرني بما بقيت دوما أتذكره، قال لي إن الحقيقة توجد في أفواه العواجيز، هم من يملكون تفاصيل الأحداث التي شهدوا عليها، وأن فرنسا كانت قد فطنت للأمر مند زمن، لذلك كانت تحرص على مقابلة العواجيز، ومحادثتهم، وتدوين كل ما يحكونه، ومن هنا أتى المثل الفرنسي الذي يقول «عجوز مات هو مكتبة احترقت»، لكن أمريكا، التي تحمل عقدة افتقادها للشرعية التاريخية، ولم تحظ بلقب «الحضارة»، كما يجب أن يكون، وأنها مهما بلغت من اختراع وابتكار تظل ابتكاراتها مجرد إعادة تصنيع لما سبق لحضارات أخرى إبداعه، تكره كل ما هو موثق على ورق، ولهذا تصر أمريكا على أن توهمنا أن المستقبل هو فقط للرقمي، وأن الورقي ميت لا محالة، وأنه يجب تحويل كل الذاكرة الإنسانية من الورق إلى الأنترنت، هكذا تقول أمريكا، لكنها لا تخبرنا أن ما تبتغيه من كل هذا هو في الحقيقة إعادة كتابة تاريخنا بالطريقة التي تستهويها، حتى تظل هي الحضارة الوحيدة، وحتى تظل هي المصدر الوحيد للثقافة، وللعلم، والتاريخ، والانتصار، والفخر، وحتى نظل وأبناؤنا نرى أمريكا هي الإله الذي لا يموت، بكل بساطة أمريكا تريدنا أن نفقد ذاكرتنا المحفوظة في ورق، وبين شفاه الشواهد، وأن نبحث عن تاريخنا الذي كتبته لنا بين مواقع الأنترنت، وصفحات ويكيبيديا، ولهذا مارك لم يتردد في قمعي، فقد كنت شخصا يقرأ ورقا، يقرأ كتابا تم تأليفه في منتصف القرن الثامن عشر، كتاب يشهد على عجرفة المسيحي، وغرور الإسباني، والذلة التي كان عليها اليهودي، مارك لا يريدني أن أقرأ التاريخ الذي كتب في ورق، لذلك أصدر حكمه علي بالطرد، وأعلن للناس أنه لا يحبني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى