ماذا تفعل فرقة الهندسة العسكرية في وليلي؟
على طول الطريق الملتوية التي تنعطف يسارا، تاركة ضريح المولى إدريس الأول إلى يمينها، متطلعة إلى جبال زرهون.. انتشرت شاحنات وعربات، يقظة تعمل ليل نهار، لتوسيع المسالك وتعبيدها، إيذانا بأن حدثا كبيرا على المشارف.
من قائل إن زيارة مرتقبة لملك البلاد عجلت بالأشغال التي تصبح لها أقدام وسيقان في مثل هذه المناسبة، ومن مبرر لها بأن المنطقة في طريقها للخروج من دائرة الإهمال والنسيان والعزلة. تعددت الأقاويل والاستنتاجات، وبقي شيء واحد ثابت على الأرض، مفاده أن الأعمال لا تتوقف تحت إكراه الساعة التي كانت لها. ومن رسا عليه عقربها كان آمنا مطمئنا، ومن فاته ركوب القطار لن يحلم بمعاودة انطلاقه من اللحظة والمكان نفسيهما.
كلها بضعة أيام معدودات، لا تزيد على أصابع اليد، كانت كافية لإنجاز مشروع توسيع الطريق وتهيئة فضاء المدينة التاريخية «وليلي» التي استراحت على موقع كان يؤمن لها الحماية من هجمات المغيرين، ثم استحالت إلى أطلال بفعل تعاقب الزمن الذي يوثق أخاديده على الحجر والبشر. لكن ظلال التاريخ تفرض نفسها، وهذه المدينة الرومانية تشي بأن هذه الأرض كانت موطن حضارات وثقافات تفاعلت على مر العصور. من الواندال إلى البيزنطيين والرومان والفاتحين العرب الذين تعايشوا في السكينة مع الأمازيغ، السكان الأصليين.
كل شيء يبدأ بالطرق والمواصلات، وما من نهضة إلا وبنت أمجادها على أكتاف العمران الذي يصمد، إذ يرحل مشيدوه، أكان مساجد أو أديرة أو حصونا أو حدائق معلقة في الهواء، أو أهرامات يشار إليها بكل بواعث الدهشة والانبهار. ومن أجل تسريع إنجاز طريق زرهون ومعاودة تهيئة فضاء «وليلي»، سيعهد إلى فرقة من الهندسة العسكرية في قاعدة مجاورة، برعاية الخطة، كونها تتوفر على الرجال والخبرة والمعدات والإتقان.
في فترات السلم يغادر الجنود ثكناتهم، يرصون الجبال ويفتحون المعابر والمسالك ويشيدون القناطر، بل يستصلحون الأراضي الزراعية وينبتون الغابات التي تخلق المتنفسات. وفي المغرب كان لفرقة الهندسة العسكرية موعد من نوع خاص. والمؤكد أنه لولا الثقة في ذلك المشروع الذي كان يعول عليه كثيرا لمنح المنطقة طابعا متميزا، لما خرج الجنود والضباط من معاقلهم.
نحن في مطلع ستينيات القرن الماضي، لا يوجد أي طريق سيار، وبالكاد تسمح شبكة المواصلات العتيقة بتدفق حركة السير والتجارة وتنقل الأشخاص والبضائع.. أعداد السيارات والشاحنات قليلة بالنسبة لحجم السكان، والطرق الرئيسية والثانوية لا تعاني من الازدحام. وحين ارتأت شركة استثمارات أن تدخل السوق المغربية من باب الطرق السيارة، قيل لها إن من الصعب إقناع المغاربة بأن يدفعوا مقابل المرور عبرها. فأرض الله واسعة والوصول المتأخر لا يفسد المودة.
لكن العلاقة بالتطور تبدأ بقياس الزمن الذي كان للمغاربة فيض منه، لا يجدون مجالات صرفه. من يذكر وزير المالية الذي فاخر بأن رصيد البلاد من العملة الصعبة كان وافرا، وكان الدرهم المغربي سبق الفرنك الفرنسي والبسيطة الإسبانية بأميال.
انبثقت الفكرة من رحم الزمن، فقد سبقت وزارة السياحة صنوتها في الثقافة، بل إن القطاع الأخير لم يكن ممثلا في غالبية حكومات السنوات الأولى للاستقلال، إلى أن تم تعيين أحمد العسكي وزيرا للثقافة والتعليم العالي والأصيل.
لابأس إذن، فكل القطاعات كان لها من يمثلها في الجهاز التنفيذي، من التعليم التقني إلى رعاية شؤون المقاومة، ومن المعادن والمياه والغابات إلى البيئة وإصلاح الإدارة. إلا الثقافة ظلت غائبة، وإن أدرجت في نسق أول حكومة تحت بند «وزارة العلوم والمعارف والفنون الجميلة» التي أسندت إلى العلامة الراحل محمد الفاسي. ومادامت «وليلي» مدينة سياحية بامتياز، فإنها يمكن أن تتحول إلى مدينة ثقافية كذلك. وهكذا جرى التفكير في الأمر حول أسباب النزول التي كانت سابقة في زمنها، ومتأخرة في استمرارها.
الأقرب إلى ذلك أن الفن المسرحي الذي نشأ إغريقيا ورومانيا، في إمكانه أن ينتعش بين أطلال «وليلي» من خلال تحويل جانب من مآثرها إلى مسرح مفتوح في الهواء الطلق. ثم توالدت أفكار لجهة إقامة مهرجان سنوي للعروض الفنية تكون المدينة التاريخية فضاءه، كما في تجارب لاحقة، مثل مهرجان قرطاج في تونس وبعلبك في لبنان. ولهذه الغاية ستتم الاستعانة بخبرة فريق الهندسة العسكرية، من جهة للحفاظ على مآثر المدينة التاريخية، ومن جهة ثانية لتأمين الإنجاز في وقت قياسي مع درجة الصفر في الأخطاء.
فكرة نبيلة، وإن لم يبق منها إلا عيونها التي ترقب العناد واللامبالاة حيال التظاهرات الثقافية الجدية. تساءل مزارع بسيط وهو يشهد كثافة الحركة التي دبت في محيط «وليلي»: هل كل هذا من أجل بناء مسرح دائري في الهواء الطلق؟ ثم جاءه الجواب: إن لم يكن كل هذا من أجل المسرح والثقافة، فأي معنى لوجود بلا ثقافة.