لماذا غابت أجواء الفرح والاحتفال بالاتفاق الأممي الجديد حول سورية؟
من المبكر جدا الإغراق في التفاؤل تجاه قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر في ساعة مبكرة فجر السبت الماضي، بالإجماع ويضع خريطة طريق لحل سياسي للأزمة السورية، يوقف الحرب «جزئيا»، ويحقن دماء السوريين أو بعضهم، فالطريق ما زال طويلا، والعقبات كبيرة، ولكنه، أي القرار الأممي، يظل خطوة مهمة جاءت نتيجة صفقة روسية أمريكية جرى طبخها في فيينا، ونضجت في موسكو، أثناء الزيارة الأخيرة لجون كيري وزير الخارجية الأمريكي.
اللافت أن الحذر هو العنوان الرئيسي لمواقف جميع الأطراف، بما في ذلك السوريون أنفسهم، حكومة ومعارضة، و«شعوب» أيضا، فقد غابت مظاهر الاحتفال تجاه اتفاق «تاريخي» كهذا، من المفترض أن يضع حدا لحرب استمرت خمس سنوات، وأسفرت عن مقتل 250 ألف إنسان من جانبيها، وتدمير البلد بشكل شبه كامل.
ومن المفترض أن يعيد هذا الاتفاق مئات الآلاف من اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، ولعل غياب الاحتفال والفرح بالتالي، عائد الى حالة من «الصدمة» التي تسود الأوساط الحالية، فالرهان على عدم الاتفاق، والشكوك في امكانية نجاحه، ما زالت القاسم المشترك لدى الأغلبية الساحقة من السوريين.
العامل الحاسم، أو كلمة السر، التي أدت إلى ولادة هذا الاتفاق، وبالصورة التي جاء عليها، في رأينا، بعد اجتماعات «ماراثونية» في جنيف وفيينا ونيويورك وعواصم غربية عديدة، هو اتفاق الدولتين العظميين مع عدم تطرق القرار الأممي إلى مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، أو بالأحرى، تأجيل البت في هذه المسألة الحتمية لمراحل لاحقة، وهذا في حد ذاته «انتصار» كبير للدبلوماسية الروسية وحلفائها في ايران ودمشق ودول «البريكس»، وتنازل كبير من الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين والعرب والأتراك.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجح في فرض وجهة نظره بالقوة العسكرية أولا والمناورات الدبلوماسية ثانيا، وبلغت القوة العسكرية ذروتها عندما ارسل قواته وطائراته وصواريخه من طراز «اس 400» الى سورية لفرض امر واقع، وتأكيد جديته في منع سقوط نظام حليفه بشار الأسد، وكان واضحا جدا في مؤتمره الصحافي السنوي الذي عقده في موسكو بحضور 1500 صحافي قبل يومين، وأكد فيه أن الشعب السوري هو الذي يقرر مصير رئيسه، وأنه لن يسمح لأي احد بفرض رئيس في سورية، وأن زمن الانظمة ولى إلى غير رجعة.
القرار الأممي الجديد أخرج العرب كليا من الازمة السورية، وأكد تدويلها، وربما هذا ما أراده المعارضون للرئيس الاسد ونظامه في بداية الأزمة، عندما ذهبوا وجامعتهم العربية إلى مجلس الأمن الدولي قبل اربع سنوات لطلب التدخل العسكري، واصطدموا بـ «الفيتو» الصيني الروسي المزدوج، ولكن التدويل الذي أراده العرب بزعامة السعودية وقطر وتركيا، كان على غرار نظيره في ليبيا، اي ان تتدخل قوات حلف «الناتو» وطائراته بإسقاط الرئيس السوري بغطاء اممي، في اكبر عملية سوء تقدير سياسي في السنوات العشرين الماضية.
التدويل الجديد للازمة السورية وضع حدا لأي تدخل عسكري او مالي للدول العربية المطالبة برحيل الاسد مثل السعودية وقطر، لأن أي دعم سيفسر على أنه انتهاك لهذا القرار، وبات اي دور للمثلث السعودي التركي القطري محصورا في الاشتراك في الحرب المقبلة ضد «الدولة الاسلامية»، و»جبهة النصرة»، والجماعات المصنفة على قائمة الارهاب.
ومن المفارقة أن المهمتين الرئيسيتين اللتين حددهما مؤتمر فيينا، لكل من السعودية في تشكيل وفد المعارضة السورية للمفاوضات مع النظام، والاردن لتحديد الجماعات الارهابية، جرى سحبهما منهما، وعدم الأخذ بمعظم توصياتهما.
اجتماع الرياض للمعارضة السورية استثنى الاكراد وبعض فصائل المعارضة الأخرى مثل حلفاء مصر الممثلين في تيار «قمح» الذي يقوده الدكتور هيثم مناع، وجرى اختيار رياض حجاب رئيس وزراء سورية المنشق رئيسا لهيئة التنسيق العليا، وربما الوفد المفاوض، تميهدا لإعداده كرئيس بديل قادم لسورية، ولكن هذا الاختيار يواجه معارضة شديدة، من النظام ومعظم المعارضة، وعلمنا أنه سيتم اضافة شخصيات سورية معارضة من الداخل والخارج للوفد المفاوض، على رأسها السيدان هيثم مناع، وصالح مسلم، زعيم الحزب الديمقراطي الكردي السوري.
إن مهمة تحديد الجماعات السورية الارهابية التي جرى تكليف السلطات الاردنية بها، جرى سحبها من الأردن وتكليف لجنة تحت اسم مجموعة عمل دولية لإعداد قائمة جديدة بشأن الجماعات الارهابية، تضم روسيا وايران وسلطنة عمان ومصر وتركيا، علاوة على الأردن وربما يكون هذا التحول في مصلحة الأردن، وإخراجا له من مصيدة تشكل إحراجا، وتخلق عداوات هو في غنى عنها.
الأنظار، أو بالأحرى، الجهود الاممية ستتركز الآن على كيفية محاربة الجماعات الارهابية، و»الدولة الاسلامية» على وجه الخصوص، باعتبار أن هذا الهدف بات يتصدر سلم الاولويات لأكثر من مئة دولة بقيادة الدولتين العظميين، ثم بعد ذلك ضمان نجاح مفاوضات تحديد المرحلة الانتقالية وصلاحياتها بين وفدي النظام والمعارضة.
الحكومات العربية التي ضخت مليارات الدولارات، وآلاف الأطنان من الأسلحة للمعارضة لإطاحة النظام السوري، طوال السنوات الخمس الماضية، منيت بخيبة أمل كبيرة، لأن هذه الأموال ذهبت سدى، ولأنها ستجد نفسها متهمة بدعم الارهاب، ومطالبة بتعويضات مالية بمئات المليارات لاعادة تعمير سورية، في وقت تعاني فيه ميزانياتها من أزمات مالية، وعجوزات، نتيجة استمرار انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الأربعين دولارا للبرميل، ومرشحة للهبوط الى 25 دولارا في الأشهر المقبلة.
التصريحات غير المفاجئة والمتوقعة، للزعماء الغربيين، مثل الرئيس الأمريكي باراك اوباما، ولوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي، وفيليب هاموند نظيره البريطاني التي تطالب برحيل الأسد لأنه قتل شعبه ودمر بلاده، لا يمكن أن تكون عنصر توحيد، لأنها تصريحات لذر الرماد في العيون، وللعق جراح الهزيمة، ومحاولة لإرضاء حلفائهم العرب الذين يواجهون التهميش، ويعانون من طعنات خناجر الخديعة المسمومة.
كلمات الوزير الامريكي جون كيري في مؤتمره الصحافي فجر السبت الني قال فيها «ان هذا الاتفاق لا يعطي الشعب السوري الخيار بين الأسد و»داعش».. وإنما بين الحرب والسلام»، ربما كانت الأكثر تعبيرا عن الصفقة الروسية الامريكية ومضمونها، ولكن من الصعب علينا ان نغرق في التفاؤل حول إمكانية تحقق هذه النبوءة في المستقبل المنظور، ولكنها بداية لا يجب التقليل من اهميتها.
العام الجديد سيكون «عام سورية»، وعنوانه الأبرز سيكون «الدولة الاسلامية»، الى جانب عناوين فرعية مثل، السلام.. المفاوضات.. المرحلة الانتقالية.. الصلاحيات.. البدائل.. الاضافات.. وأخيرا «الصحوات» الدولية والعربية، التي ستحل محل «الصحوات القلبية» التي أسسها الجنرال بترايوس في العراق عام 2007 لقتال «القاعدة»، ولكن هذه المرة لقتال «الدولة الاسلامية» و«جبهة النصرة» وأخواتهما.
نكتفي بهذا القدر.. ومن المؤكد أن لنا اكثر من عودة لمتابعة التطورات والمفاجآت.. وكل عام ميلادي جديد وأنتم بألف خير!