لماذا الجراحة؟!
جهاد بريكي
كان صباحا باردا من شهر فبراير، أحمل لباس المركب الجراحي ككنز ثمين، أصل إلى المستشفى، صديقتي وشريكتي في المغامرة تنتظرني عند مدخل المصلحة، مصلحة جراحة القلب والشرايين. طالبتان في العشرينات من العمر، سنتنا الرابعة، إحساس بالفخر والخوف، فخر بكوننا طبيبتين في طور الولادة، وخوف من المستشفى والأساتذة والمرضى ومما مضى ومما سيأتي. قررنا يومها أن نطلب من أستاذ الجراحة أن يسمح لنا بمتابعة الجراحة من داخل المركب، كان سعيدا بطلبنا وحذرنا من شيء واحد: العملية ستكون طويلة وأرجو أن لا تصابا بالتعب. أجبنا بإصرار شبابي أن ذلك غير وارد أصلا. دخلت، أراقب الطاقم وهو يستعد، الأدوات الجراحية الجديدة، الأقنعة والنظارات الطبية، كل ميسر لما جاء لأجله، اختصاصيو التخدير يحضرون المريض، يكلمونه ويشرحون له ما سيقومون به، الجراحون يوشوشون في ما بينهم، يصيبني الفضول لسماع ما يقولون، يغسلون أيديهم مرات كثيرة، ثم تساعدهم إحدى العاملات في ارتداء معطف أزرق معقم، حركة كثيرة وآلات تصدر أصواتا أكثر، ضوء يسلط فوق المريض، عمليات التعقيم، يغطونه بثوب أزرق معقم، بينما هو قد سافر إلى عالم لا نعرف عنه شيئا. أقف على درج حديدي لأتمكن من رؤية ما يحصل، يحمل الجراح المشرط، ويمرره بكل سلاسة ويشق صدر المريض، كرة من الهواء تقف في حلقي فأنظر إلى صديقتي لأجدها قد فتحت عينيها على مصراعيهما. ثم أعود لحقل العملية، يأخذ الجراح مشرطا كهربائيا ثم يستمر في عمله حتى يصل إلى العظم. يناولونه منشارا، وأضع أنا يدي على قلبي. أخاف أن يغمى علي، وأريد أن أشاهد كل ما سيحصل. يمرر المنشار بثبات وتركيز ودقة. فيفتح الصدر. يومها كنت طالبة طب لا تعرف كيف سينتهي بها المطاف وبعد أن فتح الصدر صرت طبيبة تريد أن تكون مكان هذا الجراح. رأيت القلب، جميلا ولطيفا تماما كما وصفه الشعراء وتغنى به المحبون. كان يتحرك بدون توقف كأب يعمل بلا هوادة لسد جوعة أطفاله. أمنع دموعي من الانفجار، أنا الآن أرى قلبا لرجل حي، أتحول ببصري إلى وجهه فأراه يغط في نوم عميق. كيف ينام وصدره مفتوح وقلبه يلقي التحية علينا. تمت العملية بسلام. كانت عملية لشرايين مسدودة. دامت تقريبا ست ساعات، خرجت ورجلاي لا تكادان تحملانني وقلبي يكاد يقفز من قفصي الصدري إثارة وخوفا وانتشاء. يومها كنت أراني جراحة، فقط لا غير، أتخيلني في المركب أصلح ما أستطيع إصلاحه، كبرت قليلا وسمحت للعالم الخارجي أن يؤثر علي، أن يضعني داخل قالب من قوالبه، فحاولت أن أتجاهل هذا الطموح، حاولت أن أقنع نفسي أني لا أصلح، وقد تأخرت، وأني امرأة، حاولت تصديق كل ما قيل لي، عن كوني امرأة، والمرأة يليق بها تخصص ناعم خفيف لا يؤذي أنوثتها، والجراحة قد تفعل. وقد أرزق بأطفال ويستحيل بذلك علي الاعتناء بهم، وسأصاب بالشيخوخة مبكرا وسيتحول شكلي من أنثى لطيفة وجميلة لامرأة متعجرفة متطلبة يغزو الشيب شعرها. حاولت تصديق كل ذلك، وتناسيت الأمر. ولم أنس.
مرت سنوات، يومها كنت بمدينة الأنوار، باريس، ممددة على سريري أتأمل النجوم التي تختفي من دماغي رويدا رويدا. الشمس لم تشرق بعد، لكن شمس طموحي القديم تلفح قلبي وعقلي. لا أعرف ما الذي حصل ولا كيف ولا لماذا. لكني يومها قررت أني لن أتنازل بعد اليوم. حملت حاسوبي وفتحته وأنشأت ملفا جديدا كتبت عليه، تخصص الجراحة. أجمع فيه الصور والمقالات والتجارب والأحلام التي عاشها الجراحون في مختلف بقاع الأرض. شيء ما كان يخبرني أني أستطيع، رغم أن كل العيون كانت تشي لي بعكس ذلك. اقتفيت أثر الصوت وتجاهلت العيون. ثم حصل أن وجدت نفسي، بعد مدة قصيرة، داخل مركب جراحي، أقف مع جراحي القلب والشرايين، أرتدي ملابسهم وكتفاي تزاحمان أكتافهم وأسمع وشوشاتهم، مددت يدي المرتجفة وأمسكت بقلب شاب جاء على إثر طعنة سكين. لمسته وشعرت بدقاته، عقلي يهتز وجسمي ثابت، شريط ذكرياتي يمر أمامي كنيزك يجري في براح الكون. أرى تلك الشابة الطالبة الحالمة التي أرادت أن تكون هنا يوما ما، وترمقني المرأة التي كنتها والتي كادت أن تخسف بحلمها، والآن أنا هنا، حيث أتجاوز كل الحدود، حدود الجسم، وحدود الحلم، أتعلم كيف أمسك المشرط وكيف أشق الصدر وكيف أصنع معجزة.