لعبة شد حبال «باردة»
حسام كنفاني
حال المواجهة القائمة اليوم، سياسيا، بين الولايات المتحدة وروسيا، تذكر بشكل كبير بأجواء الحرب الباردة، مع فوارق أساسية مرتبطة بحالة الصعود والهبوط التي تعتري طرفي المواجهة، وهو حال مخالف لما كان عليه الوضع في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وهو ما لا بد أن يؤخذ في الحسبان في التعاطي مع تطورات التصعيد القائم بين موسكو وواشنطن، والذي لن يتجاوز إطاره السياسي والاقتصادي إلى العسكري، لاعتبارات كثيرة.
الفوارق القائمة بين المرحلة الحالية وزمن الحرب الباردة الأصلية تبدأ من الجانب الروسي، الذي يحاول إعادة بسط سلطاته على ما كان سابقا الحديقة الخلفية للاتحاد السوفياتي، وهو ما يفعله حاليا على الحدود الأوكرانية، إضافة إلى ما حققه في بيلاروسيا وغيرها من الدول التي باتت تدور في فلك النظام الروسي البوتيني. وأكثر من ذلك، ترى روسيا نفسها في مرحلة صعود سياسي يتخطى محيطها الجغرافي، فالنفوذ الروسي يتمدد في أكثر من منطقة، سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، بعدما دخلت موسكو طرفا أساسيا في الأزمة السورية، وعملها على لعب دور في الوضع الليبي، إضافة إلى أدوار أخرى بالداخل الإفريقي، مستفيدة من الانكفاء الأمريكي الذي بدأته إدارة باراك أوباما.
موسكو لم تكتف بذلك، بل عمدت إلى تسجيل نقاط إضافية في الداخل الأمريكي عبر عمليات القرصنة، التي عمدت من خلالها إلى محاولة التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. الأمر الذي يعد أحد الأسباب الرئيسية لحال التوتر حاليا بين موسكو وواشنطن، خصوصا أن الأخيرة باتت تشعر بخطورة الانتهاكات الروسية التي تكشف عري الأمن القومي الأمريكي، على الأقل على الصعيد الرقمي، وما له من انعكاسات لاحقة على الترسانتين العسكرية والاقتصادية.
في المقابل، تعيش الولايات المتحدة حال تقهقر غير مسبوق، داخليا وخارجيا. فإضافة إلى تأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد الأمريكي، فإن ما خلفته الانقسامات خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، جعل من أولويات الإدارة الجديدة إعادة رص الصفوف الداخلية، وإبقاء الملفات الخارجية في المرتبة الثانية من الاهتمامات، وهو ما يظهر من خلال الأشهر الأولى من عهد جو بايدن. فالإدارة الحالية تسير على خط عهد أوباما في الاستمرار في سياسة الانكفاء في الملفات الخارجية، مدفوعة بما سبق ذكره في ما يتعلق بالأولويات الداخلية، وهو ما تستغله موسكو على أحسن ما يرام. لكن مع ذلك تعمد الولايات المتحدة إلى محاولة تجاهل صعود القوة الروسية والتصرف كأنها ما زالت القوة العظمى الوحيدة في العالم، وهو ما تترجمه عبر العقوبات المتتالية التي يتم فرضها على أفراد وكيانات روسية لأسباب متعددة. ورغم التأثير غير القليل لهذه العقوبات، إلا أنه وبسبب خسارة الولايات المتحدة للصدارة المطلقة للقوى العظمى في العالم، بات بالإمكان التحايل عليها بطرق مختلفة، خصوصا بالنسبة إلى روسيا، التي بات لديها ساحات نفوذ خارجية متعددة.
هذه المواجهة، بأشكالها المختلفة، تعطي الانطباع أننا نعيش مرحلة حرب باردة جديدة، حتى في ما يتعلق بالتحضير للقمم التي تجمع رئيسي الولايات المتحدة وروسيا، إذ باتت مشابهة بشكل كبير لما كان يحدث في إطار العمل على جمع رئيسي أمريكا والاتحاد السوفياتي، وهو ما عكسه إعلان فنلندا استعدادها لاستضافة قمة بين بايدن وبوتين، لمحاولة تخفيف الاحتقان بين البلدين.
لكن هذه الأجواء، وإن كانت مشابهة للحرب الباردة، فإنها لم تصل إلى أن تكون حربا باردة فعليا، في ظل عدم وصول طرفي المواجهة إلى مرحلة الندية، رغم مرورهما بمرحلتي الصعود والهبوط. الوضع اليوم هو محاولة إثبات وجود للطرفين، وشد حبال لن يصل إلى الصدام.
النفوذ الروسي يتمدد في أكثر من منطقة، بعدما دخلت موسكو طرفا أساسيا في الأزمة السورية، وعملها على لعب دور في الوضع الليبي، إضافة إلى أدوار أخرى بالداخل الإفريقي، مستفيدة من الانكفاء الأمريكي الذي بدأته إدارة أوباما