لا نتذكر إلا عندما نصحو
في 31 يناير من كل سنة، ترسل هولندا ألف وردة إلى كندا تجديدا من الشعب الهولندي لامتنانه وشكره للشعب الكندي. هذا اليوم الذي يوافق عيد ميلاد الملكة الهولندية بياتريكس، له قصة تحمل معاني قوية، حيث الذاكرة الجماعية للشعوب تعزز باستمرار قيم التعايش في ما بينها. وبدل طمس الذاكرة وتزييف حقائق التاريخ، تسعى هذه الأمم الحية للاستفادة من أحداث الماضي، مهما كانت درجة مأساويتها، لتحولها إلى فرح وورود.
لا يتعلق الأمر هنا بقصة من صنع الخيال، بل بأحداث حقيقية تعود إلى الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ الجيش النازي يعد العدة لاستعمار هولندا وبعدها فرنسا، حيث قررت الأسرة الملكية الفرار نحو كندا خوفا من الإبادة، ليستقر المقام بالملكة «يولينا» آنذاك في مقاطعة «الكيبيك» شرق كندا. ولأن الدستور الهولندي يلح في شروط تولي العرش، على أن يكون الملك أو الملكة من مواليد الأراضي الهولندية، فقد طرح هذا مشكلة حقيقية لاستمرار الملكية، لكون ولية العهد المرتقبة آنذاك «بياتريكس» كانت ستولد في كندا، مما سيحرمها دستوريا من العرش. لذلك توصلت الحكومة الكندية إلى حل لهذه المعضلة، وهي إعلانها رسميا التنازل عن المنطقة التي استوطنتها الأسرة الملكية لصالح هولندا وذلك لمدة يوم واحد، هو يوم ولادة وارثة العرش، والذي كان في 31 يناير 1939.
هكذا أصبحت وارثة العرش ملكة شرعية لكونها ولدت في أرض هولندية، لتصدر الحكومة الكندية يوما بعد ذلك، قرارا تعود المنطقة بموجبه إلى سلطتها من جديد.
وإبان الحرب العالمية الثانية كان الجنود الكنديون أول قوات التحالف التي ستطأ الأراضي الهولندية لتحررها من النازيين، لتعود الأسرة الملكية إلى بلدها من جديد، حيث تمكنت «بياتريكس» من تولي العرش بعد تنازل والدتها سنة 1980 دون مشكلة لكونها ولدت في أرض هولندية. ومنذ ذلك الحادث، ترسل هولندا إلى كندا في 31 يناير من كل سنة، ألف وردة امتنانا لها. هكذا قلب الشعب الهولندي مأساته إلى فرح، وبدل أن يصبح فرار الملكية إلى المنفى مصدر إزعاج تحول إلى مصدر امتنان لشعب آخر.
لذلك قد لا يفاجئنا داخل مناخ الاحترام الكبير للذاكرة، من طرف هذين الشعبين، أن نجد في منطقة الكبيبك الكندية شعارا رسميا على لوحات السيارات وواجهات المؤسسات الرسمية، عبارة «حتى لا ننسى» «POUR NE PAS OUBLIER»، فماهم عليه الآن من حرية وديموقراطية و«ثورة دائمة»، وهو الاسم الذي يطلق على مشروع بدأ تطبيقه منذ الستينات في هذه المنطقة الكندية الشهيرة، ليس إلا نتاجا للماضي، بكل تفاصيله. لذلك لا نستغرب أيضا عندما نعرف أنه إلى جانب هذا الشعار المحفز للتذكر، أن نجد أيضا أن الراغبين في الحصول على الجنسية الكندية مجبرون على أداء اليمين باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وأمام محكمة مدنية مكونة من قاضيين يتكلم كل منهما إحدى هاتين اللغتين. والأعجب من هذا كله، هو أن يقسم على الولاء للملكة البريطانية «إليزابيث». نعم، بل أن يقسم باحترامها هي وأسلافها ومن يليها. وعندما نعرف أن تاريخ المملكة البريطانية في كندا لم يكن قط ورديا، لاسيما وأنها شهدت حروبا طويلة من الكر والفر بين فرنسا وإنجلترا على مدى ثلاثة قرون، فإن هذا لم يمنع الكنديين من أن يعلنوا اعتزازهم بتاريخهم، بل وامتنانهم هم أيضا للمملكة البريطانية.
هكذا لم تمنع آلاف الكيلومترات التي تفصل جغرافيا القارة الأوربية عن الأراضي الكندية، من أن يكون التاريخ ودروسه مصدر قيم راقية، قيم عمادها الذاكرة والتذكر.
نقول هذا ونتذكر علاقتنا بجزائر بوتفليقة والعازمة هذه الأيام على إلغاء كل المشاريع الكبرى الموجهة لشعبها، تحت وطأة الانخفاض الكبير لأسعار النفط في العالم، لكنها لم تلغ مشاريع التسلح الموجهة في المقام الأول ضد المغرب. فبالرغم من أن الذاكرة تختزن حقائق كثيرة حول نضال الشعبين ضد الاستعمار، وبالرغم من ذكريات بوتفليقة نفسه، والتي كان يفترض أن تجعله ممتنا للمغرب والمغاربة، هاهي الدولة البومدينية مصرة على أن تحكم شعبها بالأوهام بدل الحقائق. والسؤال أكان علينا أن نلعن هذه الجغرافيا أن وضعت على يميننا أشلاء وطن يعمره «عسكر» اتخذوا من طمس الذاكرة وسيلة رئيسية لحكم شعبهم المقهور؟