لا أحد يعرف «فرناندو»..
يونس جنوحي
رغم أن الكاتب الراحل محمد شكري عاش في بلد لا تعرف فيه القراءة شعبية كبيرة بين الناس، إلا أنه استطاع بتجربته الإنسانية الخاصة التي وضعها في كتاباته أن يحظى بالاهتمام في الداخل والخارج.
كما هناك كُتاب آخرون لم يُكتب لهم أن يحظوا بالشهرة التي تليق بهم، ورحلوا في صمت تاركين وراءهم إرثا في مكتباتهم وأدبا حقيقيا في مسودات الأوراق. بل إن بعض الكتب التي صدرت في ثمانينيات القرن الماضي، بينها مذكرات مهمة لسياسيين مغاربة، انقرضت تماما من الأسواق، وأفلست دور النشر والمطابع التي أصدرتها، ولا تتوفر أغلب عائلات هؤلاء الكتاب على أي مسودات أو نسخ لإعادة طبعها اليوم. وهكذا تكون قد ضاعت على المغرب عمليات توثيق كثيرة للتاريخ السياسي والأدبي للبلاد.
مرة، سمع الملك الراحل الحسن الثاني أن أحد الفقهاء الذين اشتغلوا إلى جانب والده الراحل محمد الخامس قد باع بقعة أرضية ورثها عن والده نواحي الشراردة، لكي يطبع كتابا أواخر ستينيات القرن الماضي يتناول فيه اهتمام القبائل المغربية بعلم الفلك من خلال تحقيق ودراسة مخطوطات نادرة في هذا المجال. وعلى الفور أعطى الملك الراحل الحسن الثاني الأمر لكي يُطبع الكتاب في إخراج أنيق على شكل مجلد، وتكلفت الخزانة الملكية بالموضوع، وصدر الكتاب. هذه الواقعة كشفت إلى أي حد كان يعاني حاملو هم التوثيق في هذا البلد، وهو واقع لم يتغير منذ ذلك الوقت ولا يزال على حاله.
نفس «الهم» ينطبق على المذكرات. إذ أن كتب بعض الشخصيات السياسية المعروفة لا يمكن اليوم أن تجدها في الأسواق رغم أنه لم تمض إلا سنوات قليلة على صدورها. والسبب أن المطابع تخشى من إصدار طبعات إضافية دون أن تُباع.
وفي الوقت الذي يقرصن فيه بعض الناشرين روايات الجيب وترجمات «باولو كويلو» وروايات فيكتور هيكو إلى درجة أن نسخ هذه الروايات تُطبع أكثر مما يُطبع الدرهم المغربي في بنك المغرب، لا تزال كتب المغاربة لا تلقى أي إقبال.
فمثلا مذكرات قيادات حزب الاستقلال الذين طبعوا مذكراتهم سنوات ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات، لا يمكن الآن أن تجدها في الأسواق. وإذا أراد باحث أن يستعين بها في عملية التوثيق فليس أمامه إلا أن يقصد محلات بيع الكتب المستعملة، وإن كان محظوظا فقد يجد نسخة في المكتبة الوطنية بالرباط، رغم أن معظم الباحثين المغاربة يقطنون في مناطق بعيدة جدا عن المركز ولا يمكنهم التنقل لالتزاماتهم المهنية وحتى «المالية» للبحث عن كتاب.
لا يتسع المجال هنا لذكر نماذج لكتب انقرضت رغم قيمتها التوثيقية، لكن يكفي مثلا أن تعرفوا أن روايات الكتاب المغاربة الأوائل لا توجد اليوم في المكتبات ولا تبادر لا دور النشر ولا وزارة الثقافة إلى طبعها ووضعها رهن إشارة القراء والباحثين.
رواية «فسيفساء باهتة»، يعتبرها الكثيرون أول رواية مغربية صدرت باللغة الفرنسية، سنة 1932، لصاحبها بنعزوز الشاط. ونُسي هذا العمل الأدبي تماما لولا أن صدرت ترجمة لها مؤخرا إلى العربية قام بها عثمان بنشقرون.
بينما يقال إن أول رواية مغربية صدرت باللغة العربية، مع استحضار العنصر الأدبي، هي رواية «الزاوية» للكاتب المغربي التهامي الوزاني الذي كان شعلة من النشاط الأدبي والفكري والصحافي في أربعينيات القرن الماضي. هل تساءلتم يوما لماذا لا تُطبع هذه الرواية؟
هناك من يعتبر اليوم أن أول رواية مغربية تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وهي عبارة عن نص رحلة ومشاهدات. لكن المشكل أن مشاهدات أدب الرحلة برع فيها المغاربة منذ قرون، وإذا أدرجناها في صنف الرواية فإن أول رواية مغربية قد تعود إلى أزيد من قرنين.
حكى لي أحد الأصدقاء يوما أن طالبا في سلك الدكتوراه في الآداب، أنجز عرضا بطلب من الأستاذ المشرف عن شخصيات أدبية بصمت ساحة الأدب المشترك بين المغرب وإسبانيا وفرنسا. وبما أن هذا الطالب نسي تماما التكليف العلمي الذي طُلب منه، فقد بادر في الساعات الأخيرة قبل العرض إلى تأليف شخصية خيالية وتناولها بالتحليل وأطلق عليها اسم «فرناندو». ووصفه بأنه أحد الكتاب الإسبان الذين كتبوا عن المغرب وأنه كان يتحدث العربية.
الغرابة تكمن في أن الأستاذ أخذ الكلمة بعد انتهاء الطالب الباحث من مداخلته، وتحدث عن تقنية السرد في أدب هذا الـ «فرناندو» وكأنه شخصية حقيقية فعلا. ولو أننا في بلد يصون الأرشيف ويوثق للأدب والكتابة عموما، لما تجرأ أحد ما على اختراع الشخصيات. والمرة المقبلة قد يخترع أحد ما شخصية مغربية!