شوف تشوف

الرأي

كيف تصاب الحضارات بالعقم؟ (2/2)

إذن مع فهم أعمق لفلسفة المرض، نخرج بقانون صارم، أشد حدة من مشرط الجراحين، هو أن العامل الداخلي هو الذي يبدأ في عملية توليد الحدث وتهيئته وتوليده بعد ذلك، وإبرازه إلى الوجود، ويبقى العنصر الخارجي هو الذي يكشف الغطاء عن التفاعل الداخلي، ويشير إليه، ويدلل عليه، ويقول هذا هو.
هذا القانون يخضع له الوجود المخلوق بكل شرائحه و مستوياته، فورقة الشجرة تسقط بسبب ضعف ارتباطها بالغصن، والمرض يحدث بسبب ضعف أو انهيار الجهاز المناعي. والفرد يختل بسبب أوهامه الداخلية، والمجنون المصاب بالبارانويا يظن أن الناس كلهم يتآمرون عليه، كما هو الحال عند كثير من الساسة والمفكرين بكل اتجاهاتهم في العالم العربي، الذين يبحثون عن أكباش الفداء، تفسر واقع المسلمين والعرب غير السار والذي لا يبعث على البهجة، وهكذا فإن أكباش (الصهيونية) و(الاستعمار) و(قوى التدخل الخارجي) و(الرأسمالية العالمية) و(الماسونية) و(النورانيين) و(القوى الخفية) و(المنظمات السرية) و(الحركات التبشيرية) و(حكومة العالم الخفية)، وإذا لم يبق في الجعبة شيء فالشيطان جاهز لنصب عليه كل مصائبنا التي نفعلها بأيدينا، وكل الكوارث التي نسعى إليها بأقدامنا، وإذا أعيت كل التفسيرات فهناك التفسير الذي يُخَرِّس الجميع فلنقل القدر والحظ، ولا مانع من إدخال إرادة الله، التي شاءت أن تنزل كفة المسلمين وترفع غيرهم!
فلسفة القرآن في مرض ظلم النفس: لكن ليس هناك استعداد ولو للحظة واحدة للرجوع إلى فلسفة القرآن التي تنص على أن ما يحدث هو (من عند أنفسكم) وأن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وأن ظلم النفس هو المناخ الملائم والمهيئ لكل المصائب اللاحقة، وأن علينا أن نعتاد وندرب أنفسنا ألا نلوم أحداً، بل أن نرجع فنلوم أنفسنا دوما لأن هذا هو مفتاح الحل، وتكوين مثل هذا الخلق، والوصول لتشكيل نفسية من هذا النوع جعلها الله موازية في الثقل ليوم القيامة (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوَّامة). فإذا كانت القيامة هي للفصل بين الناس وبين الإنسان وعمله، فإن النفس المراجعة المنضبطة التي اعتادت النقد الذاتي هي المرشحة للنجاح في ذلك اليوم العصيب.
إن الفرق بين الشيطان الذي دخل اللعنة الأبدية وآدم الذي نال رحمة الله هو التوبة، وفلسفة التوبة تعني القدرة على المراجعة والاعتراف بالخطأ (رب إني ظلمت نفسي)، في حين أن لوم الآخرين هو طريق الشيطان الذي برأ نفسه وألقى اللوم على رب العزة أنه هو الذي أغواه (بما أغويتني). هذا الطريق الضلالي والمفضي إلى اللاتوبة والمغلق هو الاستعداد للوم الآخرين، وإلقاء التبعة على ما يحدث من مصائب على الآخرين، بل الاستعداد لقلب قوانين الكون وعدم الاعتراف للحظة أن هناك ولو (احتمال) أن تكون ذواتنا المنتفخة قد أخطأت، كما يروى عن ذلك المؤذن الذي حضر للمسجد صلاة الصبح والناس منصرفون، فلما سئل عن سبب تأخره قال : أنا حضرت حسب الوقت ولكن الشمس أشرقت اليوم باكرا؟!. كذلك فإن العائلة تتفكك بالنزاع الداخلي، والدول تسقط بالعفن والمرض الذي ينخر من الداخل، والامبراطوريات تموت بعللها الداخلية قبل كل شيء.
قصة موت النبي سليمان ومنسأته: فإذا جاء كمال أتاتورك ليوزع بطاقات (النعوة) ولقراءة (الفاتحة) على روح الدولة العثمانية، فهو لا يمثل أكثر من (دابة الأرض) التي قضمت عصا سليمان وهو ميت فانهارت الجثة، فاحتفل الجن بموته عليه السلام (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل مِنْسَأَته فلما خرَّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين). والحضارات تسقط ليس بالهجوم الخارجي بل بالانتحار الداخلي، والمرض الطويل الذي يسلمها إلى الموت في النهاية، وعندما تموت الأبقار فتصبح جيفاً، وتسقط على الأرض تأتي الغربان فتقعد عليها، فنعرف الموت من تسلط الغربان أكثر من الجثة المستلقية!.
هذه هي البانوراما الكبرى في صعود الأمم وسقوطها، هذا هو قانون التاريخ الذي لا يستجيب للبكاء والأنين، ولا يتوقف على الصراخ والعويل: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين).
علة انهيار الحضارات بالانتحار الداخلي: عند دراسة قيام الحضارات ثم انهيارها يرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أن الحضارة تبدأ بأقلية مبدعة تسوق الناس على أنغام المزمار بآلية المحاكاة، وتتوقف لتنهار بعد ذلك، عندما تتحول تلك الأقلية المبدعة إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بالسوط، وينشق المجتمع عند ذلك إلى طبقات، ويصاب بالمرض الفرعوني. الذي لعنه الله في القرآن. وحتى يمكن فهم هذه الظاهرة المروعة أكثر من تاريخنا؛ وهو يهوي تحت السيف المغولي، فإن التاريخ ينقل لنا قصصاً لا تكاد تصدق، سواء من مستوى القيادة، أو مستوى الأمة، بين اتصالات مريبة من السلطان العباسي (الناصر لدين الله) الذي راسل جنكيزخان يدعوه لغزو بلاد خوارزم، لتخليصه من منافسه هناك (جلال الدين)، والذي كان يخشى من زحفه باتجاه بغداد، فجاءه طوفان يأجوج ومأجوج بعد ذلك ليعدم ولده المستعصم وأحفاده وحفيداته. أو في نفس حكايات (جلال الدين) الذي كان مغرماً بطواشي له (خادم خصي) فعندما مات فقد عقله وامتنع عن الطعام والشراب، وأنكر موته، وحمل تابوته على رقاب قواد الجيش. أو في استعدادات الخليفة العباسي لمجابهة الحصار المغولي وهو مضطجع لجارية تلعب بين يديه وتضحكه، والنبال المغولية تتساقط على دار الخلافة كزخ المطر، ثم يصحو الخليفة حينما تقتل هذه المحظية بين يديه بسهم جاءها من بعض الشبابيك!، ويعقب ابن كثير على الحادثة بين الحقيقة والأسطورة فيقول أن السهم كان مكتوباً عليه: (إذا أراد الله إنفاذ قضائه أذهب من ذوي العقول عقولهم!). أو في قصة التتري الذي أمسك مسلماً ليذبحه، فلما أضجعه للذبح، استدرك أن سيفه قد سقط منه، فأمره بالبقاء حيث هو، ثم غاب الجندي التتري سويعة وعاد وهو لا يكاد يصدق، فالمسلم مازال ينتظر الذبح لأن غريزة التمسك بالحياة قد تلاشت، فأمة من هذا النوع لا يحتفظ بها التاريخ، ولا يوفرها الجنس البشري بل يمشي القانون الإلهي (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
يعقب (ويل ديورانت) على الاجتياح المغولي في أسبابه الدفينة البعيدة فيقول: (واجتمع الانغماس البيقوري في الملذات، والهزال الجسمي والعقلي، وخور العزيمة والعجز الحربي، والانقسام الديني، والالتجاء إلى المراسم الغامضة الخفية، والفساد السياسي والفوضى الشاملة.. اجتمعت هذه العوامل كلها وائتلفت لتحطيم كل شيء في الدولة قبل الغزو الخارجي. لقد كان هذا كله – لا تبدل المناخ – هو الذي بدل آسية الغربية من زعامتها على العالم فقراً مدقعاً، وخراباً شاملاً. وأحل محل مئات المدن العامرة المثقفة في الشام وأرض الجزيرة وفارس والقفقاس والتركستان ما تعانيه في الوقت الحاضر من فقر ومرض وركود.
ومن الوقائع الغريبة التي وردت في تاريخ ابن الأثير، المجلد 12: ولقد حكى لي عنهم (المسلمون والمغول) حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتل به، فقال له : ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به. وحكى لي رجل قال : كنت ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وأمرنا ليكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا؛ فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى