كتاب ترامب
عندما يتم الحديث عن استعمال الدين في السياسة غالبا ما تتوجه الأنظار نحو الملتحين من قادة الإسلام السياسي في الدول العربية والإسلامية، والحال أن أكبر حزب يستغل الدين في السياسة هو الحزب الجمهوري الأمريكي.
ولعل خروج ترامب من مخبئه بالبيت الأبيض ومشيه نحو كنيسة الرؤساء لكي يقف أمامها شاهرا نسخة من الإنجيل هي الصورة التي تلخص ببلاغة هذا الاستغلال للدين لإعطاء الشرعية لخيار العنف الذي قرر اتخاذه كحل للتظاهرات التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد مقتل مواطن أسود على يد رجال شرطة بيض.
وإذا كان ترامب لا يدع مناسبة تمر دون الحث على الصلاة من أجل رفع البلاء عن الأمة الأمريكية والعالم، مبشرًا في الطريق أنه مختار من الله لتحمل هذه المسؤولية، فإن جورج بوش قبله برر اجتياحه للعراق بأن الله هو الذي أوحى إليه بخوض تلك الحرب الصليبية ضد شعب منهك بسنوات طويلة من الحصار، قبل أن يتضح أن من أوحى له بذلك ليس سوى شيطان رجيم اسمه ديك تشيني. أنصح بمشاهدة فيلم vice الذي جسد فيه ببراعة كبيرة كريستيان بيل دور ديك تشيني نائب جورج بوش، فهو يشرح الأسباب الحقيقية لغزو العراق.
الدين حاضر في أمريكا في كل مكان، عندما سافرت إلى الولايات المتحدة أول مرة ضمن برنامج الزيارات السنوية التي تنظمها الخارجية الأمريكية كنت أجد في دولاب السرير بكل الفنادق التي نزلنا بها نسخة من الإنجيل. وأول شيء يصنعه الرئيس المنتخب هو أن يضع يده فوق الإنجيل ويؤدي القسم.
وفي كل المحاكم هناك عندهم جملة كبيرة تجدها مكتوبة على كل جدران قاعاتها تقول: بالله نؤمن In God We Trust ، وهي الجملة نفسها التي نجدها مكتوبة في عملة الدولار الورقية.
وبما أن الإله الوحيد الذي يسبح بحمده غالبية الأمريكيين هو الدولار فإننا نفهم بسهولة معنى أن يكون ترامب قد اختاره هذا الإله لتقلد المسؤولية.
الكنائس هناك شركات كبرى تؤدي الضرائب والقساوسة نجوم لديهم جرائدهم ومجلاتهم وقنواتهم التلفزيونية التي يتابعها الملايين وتدر المليارات على المساهمين فيها. ينظمون حفلات دينية يحضرها عشرات الآلاف ويتابع بثها المباشر مئات الملايين عبر العالم، خصوصا في بلدان أمريكا اللاتينية.
الأمريكيون أيضا لديهم أصوليوهم الذين يعيشون مثلما كان يعيش أسلافهم، وهم أيضا طوائف منها المورمونية والأميش وشهود خيبر وكنيسة المسيح، رجالهم يلبسون ثيابا متشابهة ونساؤهم محجبات ويحرمون سياقة السيارات واستعمال الهاتف والمعدات التكنولوجية، يتزوجون بأكثر من امرأة ويعيشون منعزلين في محميات بعيدة عن المدنية. يشتغلون ويصلون وينجبون الأطفال ويسلون أنفسهم بالعادات الشعبية المتوارثة عن أجدادهم.
عندما شاهدت ترامب يرفع الإنجيل في وجه خصومه كما لو أنه يريد أن يصرعهم في جلسة إخراج الجن exorcisme، تذكرت فيلم “كتاب إيلي ” The Book of Eli، الذي لعب فيه دور البطولة دينزل واشنطن، والذي يحكي قصة ناج أسود من تداعيات حرب نووية دمرت الولايات المتحدة الأمريكية يجتاز مغامرات كثيرة لكي يوصل كتابا إلى الأجيال القادمة متحديا الشرير كارنيجي ورجاله الذين يعيشون على السرقة والنهب.
بعد مغامرات كثيرة سيموت إيلي بعدما سيسطو الشرير كارينجي على النسخة الوحيدة من الكتاب الذي أفلت من الدمار والذي ليس سوى الإنجيل. لكن قبل أن يموت إيلي سيقوم باستظهار الكتاب لقائد فرقة موسيقية والذي سينسخه ويشرع في طبعه. أما النسخة التي سطا عليها الشرير كارنيجي فقد اكتشف عندما فتحها أنها مكتوبة بطريقة براي الخاصة بالعميان.
وفي إشارة لا تخلو من دلاله عندما أنهى رئيس الفرقة الموسيقية طباعة نسخة الإنجيل وضعها في رف مكتبته جنب التوراة والزبور والقرآن، كدلالة على أن الإيمان بغض النظر عن الديانات السماوية التي يصدر عنها سيستمر حتى بعد دمار نووي.
رسالة الفيلم هي أن إيلي الأسود البشرة هو من سينقذ الكتاب، بينما رسالة ترامب وهو يحمل الكتاب أمام كنسية الرؤساء هي أن الكنيسة الأنغليكانية التي ينتمي إليها هي التي ستنقذ وتحكم العالم.
علينا أن نعرف أن إقدام ترامب على قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة إسرائيل كان استجابة لهذه القناعة التي تؤمن بها طائفةٌ كبيرةٌ من الشعب الأمريكي.
للكنسية الأنغليكانية تأثير قوي على ترامب وهي من كانت وراء اتخاذه قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. فالمسيحيون الإنجيليون يشكلون كتلة انتخابية وازنةً في السياسة الأمريكية، وكان لهم الفضل في إيصال ترامب إلى البيت الأبيض.
ومقابل ذلك وعدهم ترامب أثناء حملته الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمةً لدولة اليهود، وبناء على هذا الوعد صوت له 80 بالمائة من المسيحيين الإنجيليين.
لذلك فإعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل كان دافعه الخوف من فقدان قاعدته الانتخابية المكونة من المسيحيين المتطرفين الذين يؤمنون بنبوءة «نهاية الزمن» التي تقوم على سيطرة اليهود على القدس بالكامل، واندلاع الحروب، وظهور المسيح، فلا يبقى أمام اليهود إلا دخول الدين المسيحي، أو الموت من غضب الله، وفقاً للنبوءة المزعومة.
وبالنسبة للطائفة الإنجيلية، فإن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس هو بداية «نهاية الزمن».
فهؤلاء الصليبيون الجدد يعملون على تطبيق النبوءات الموجودة في توراتهم ويزعمون أنهم ينفذون أمراً إلاهياً للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح كما زعموا، وأنها لن تتم حسب اعتقادهم إلا بعد تحقق ثلاثة أمور:
أولًا، إقامة دولة إسرائيل المنصوص عليها في التوراة التي عندهم من النيل إلى الفرات وتجميع يهود العالم فيها .
ثانيا، وقوع معركة كبرى بين قوى الخير المشكلة من البروتستانت اليهود وبين الشر الذي يمثله العرب والمسلمون، وتسمى هذه المعركة حسب معتقداتهم معركة هرمجيدون والتي يعتقدون أنه سيُباد فيها ملايين البشر.
ثالثًا، هدم وتدمير المسجد الأقصى لتتسنى إعادة بناء الهيكل اليهودي مكانه، للتعجيل بخروج المسيح.
علينا أن نعرف أن الإيمان بهذه العقيدة لم يبدأ مع الحلم الصهيوني أو الوعد البلفوري بدولة لليهود في فلسطين، بل إن جذوره الأولى تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، أي في ذروة حركة الإصلاح البروتستانتي، ثم في مطلع القرن التاسع عشر، حين روّج أمثال أزا ماكفارلاند لنظرية مفادها أنّ اضمحلال الإمبراطورية العثمانية سيعجل بظهور الدولة اليهودية المنشودة.
وهكذا فليس اعتباطًا أن المرتين الوحيدتين اللتين غادر فيها ترامب مخبأه خلال اليومين السابقين كانتا من أجل الذهاب إلى الكنيسة الأنغليكانية. فهو يخاطب ناخبيه، وعندما يهدد بإرسال الجيش لسحق الإرهابيين في الشوارع فهو لا يفعل غير إطفاء النار بصب الزيت عليها، وهذا النوع من الخطاب هو ما يرفع شعبيته لدى ناخبيه ويقوي إيمانهم بكونه الرجل صاحب الكتاب.