
أمير تاج السر
منذ أكثر من أسبوعين وثمة حرب عبثية، شديدة الوطأة، تدور في السودان بين سلطتين عسكريتين طامعتين، دون أن يكون للمواطن العادي البسيط أي دخل ولا رأي فيها، ولا وسيلة دفاع أو حماية منها.
وكانت النتيجة أن وطنا عظيما ممتلئا بالخيرات كلها، وبدلا من أن يزدهر أكثر، جف تماما، وابتدأت مشاوير البحث عن ملجأ، ولقمة عيش، وأمان حتى لو كان مؤقتا، عشرات الناس ماتوا، ولا يعرفون لماذا ماتوا، ومئات الآلاف تركوا مساكنهم التي أسسوها بعد سنوات من الكفاح والتوفير والسفر والاغتراب، لتبقى هكذا بلا حراسة ولا روح. ويتجمع أهلها في المعابر والقرى والأرياف البعيدة، يملؤهم القلق والترقب.
هذه الهرجلة التي حدثت في السودان، ليست جديدة على الدنيا، إنها اعوجاج موجود في طريق الشعوب كلها، قد يحدث يوما، بكل هذه الترهلات التي نشهدها، تماما مثل البراكين الخامدة التي قد تثور بغتة ذات يوم، والناس في العادة لا ينتبهون، الحياة تسير بهم سلسة أحيانا، وقاسية أحيانا، لكنها تسير، حتى يقع حادث ضخم، وكارثي مثل الحرب، لتبدأ تلك الرحلات التي ذكرتها في البحث عن خلاص.
والكتابة الإبداعية مثل غيرها من الأنشطة الإنسانية، تتأثر بلا شك بأجواء مثل تلك، وتستلهم منها، وأحيانا تتنبأ بها، حتى في أكثر أيام السلم رخاء، تجد عملا روائيا يتحدث عن حرب جرت، وتشتت حدث، وموت حصد الأرواح، وبيوت هجرها أهلها، ورزق انقطع تماما، ثم ليأتي يوم، نجد ما رصده الروائي أمامنا بالضبط، كأنما كان موجودا في المستقبل، يسجله بأمانة، ويعود بأفكاره إلى الحاضر ليكتبها.
وأذكر أنني في عام 2009، كتبت نصا عن جماعة متطرفة ستغزو البلاد الآمنة، وتقيم فيها مشانق، لتعليق الأفكار الطيبة والمسالمة، وتجعل من المدن الآمنة، ملاجئ لأكثر أنواع العنف دموية، لأفاجأ بعد سنوات من ذلك أن هذا حدث بالفعل، وكما قلت، كانت قراءة لما سيحدث، كتبتها قبل أن يحدث ذلك، وبالطبع كتب غيري مثل تلك الأفكار عن مواضيع أخرى.
لكن بماذا تلهم الحروب، كتاب الرواية والقصة؟
ماذا يمكن أن يقال في هذه الحالات الاستثنائية في حياة الشعوب، وعادة نكتب عن مدن مزدهرة، وعلاقات عاطفية، وربما حوادث قتل وسلب، لكن في حدود ضيقة، هي الحدود التي تتاح عادة لكتابة ليست صاخبة ولا استثنائية؟
أعتقد وبحسب خبرتي، أن المجتمعات التي تتحدث عنها الكتابة الإبداعية، ستحافظ على كثير من الأبجديات الموجودة أصلا، مع إضافة أحداث وتداعيات الحروب إلى الكتابة، مثلا لن يتغير الحب بين عاشقين في وجود حرب، على العكس قد يزداد ضراوة، وتضاف إليه أحاسيس المأساة، التي تعمق عادة من علاقات الناس ببعضهم، أيضا إحساس الأبوة والأخوة والفقد والضياع، تلك الإنسانية التي تهذب الحياة، لن تتغير أبدا، ويبقى ما تهبه التداعيات من معان جديدة، ما كانت موجودة قبل الحروب، مثل مبنى سقط من قذيفة غادرة، وشارع تلف بالحفر وغزته التجاعيد، وسيارات كانت واقفة أو ماشية ونحرتها القذائف، مثل أغنيات كانت غاصة بالشبع وجاعت، مثل تلاميذ لن يذهبوا إلى المدارس، ولن يغنوا الأناشيد في طوابير الصباح، مثل مرضى كانوا مقيمين في العنايات المركزة في المستشفيات أو تحت أجهزة الغسيل الكلوي، أو حتى في عنابر عادية، لن يعثروا على رعاية، وربما تأتي قذائف غير معنية بالمعاناة، لتقصف معاناتهم وتنهيها، كما حدث عندنا في كثير من المستشفيات التي كانت تعمل في ظروف قاسية، وأخرجها القصف المستمر، وشح الأدوية والأكسجين وعدم وجود كوادر، من الخدمة.
ولأن الحروب مثل الأوبئة، وربما هي جزء من الأوبئة، إن نظرنا إلى إمكانية التدمير الإنساني التي تملكها، والمعايير القاسية التي تطبقها على الفرد الأعزل، يمكننا أن نتحدث عن التوقف القسري لعجلة التنمية، لا زراعة ولا حصاد ولا إنجازات على كل الأصعدة، وشاهدنا ذلك في أيام فيروس كورونا، وقبله في انتشار إيبولا، وحتى الأطراف المتحاربة نفسها لا تستطيع إنجاز شيء، حتى النوم العادي والتقلب الهادئ على الأسرة، لا تستطيع إنجازه.
لكن ما الفائدة من كل ذلك؟
أعني ما الفائدة من تناول الحروب إبداعيا، والناس لا تحتاج في الواقع إلى رواية تحكي لهم مآسيهم، أو قصة تذكرهم بالموت والخراب الذي هو موجود أصلا عندهم، وقريبا منهم، ومن حولهم؟ أعتقد لا فائدة كبرى، وأمامنا عشرات الأعمال التي تحدثت عن الحرب في العراق وسوريا، نقرأها، ونستمتع ببعضها، أو نكتئب من بعضها، لكن لا حرب توقفت فعليا، ولا جلست الأطراف المتنازعة إلى طاولة حوار، يعود بعده السلم الدائم، وعلى الرغم من أن هناك بلادا كانت تفور وهدأت قليلا، لكن لن ينقطع الفوران ولن تنتهي الحروب، ما دام هناك طمع، وهناك سلطة تغمز بعينها لعشاقها، وتدفعهم إلى هذا الطريق.
أخيرا سؤال للحرب نفسها بوصفها وصفة من الشر لا تفوقها أي وصفة أخرى:
لماذا السعي إلى تدمير مستشفى وقتل العاملين فيه، وإحراقهم، والمستشفى ليس طرفا في نزاع من أي نوع، وليس عدوا لأحد ولا أعضاء طاقمه، سلطويين يحلمون بكرسي الحكم، ومناجم الذهب، والأموال المخبأة في الشر؟
نافذة:
المجتمعات التي تتحدث عنها الكتابة الإبداعية ستحافظ على كثير من الأبجديات الموجودة أصلا مع إضافة أحداث وتداعيات الحروب إلى الكتابة