د. خالد فتحي
… ولكني سأظل دوما أتساءل كلما تذكرت هذه «الكان»، كيف تأتى لهذا المنتخب الساحر المبهر.. منتخبنا، أن يجعل كوت ديفوار تخرج عن بكرة أبيها، وتهتف بأعلى صوتها عاش الملك محمد السادس؟
إنها حقا لمعجزة. شيء يتحدى الوصف، ويقترب من الجنون. فأن يحضر رئيس دولة ببلاد تبعد عن بلاده بعشرات آلاف الكيلومترات في وجدان الناس وفرحهم، أمر دونه إبداع كل الروايات الموغلة في الخيال.
هي العناية الإلهية إذن تلاحظ عيونها هذا المنتخب الموهوب، وتبارك خطواته، وتجنبه كيد الكائدين، وتقوده نحو النصر المؤزر له ولأمته، وإلا ما كان له أن يحصد كل هذا الحب، ويخرج من البيوت كل هؤلاء الذين رفعوا صور نجومه في أبيدجان.
إن منتخبا ينقذ البلد المضيف من توديع «الكان» في الدور الأول، وينقذ بذلك «كان إفريقيا» من أن تذوي وتخبو وهجها، مانحا لها دفقة الحياة لتستمر مفعمة بحماس الجماهير الإيفواربة التي ما كانت لتستمر في التقاطر على الملاعب، لولا تسديدة المايسترو زياش،، لهو منتخب يؤكد يوما بعد يوم، وتظاهرة تلو تظاهرة أنه أيقونة وفخر إفريقيا بأكملها.
إنه القوة الناعمة التي ترفع الراية المغربية خفاقة في الآفاق، وإنه للجدية والمسؤولية وحب الوطن في أبهى تجلياتها…. النموذج المشرف الذي يسير على أقدامه أمام ناظرينا لـ«تمغربيت» ولعبقرية الأمة المغربية، حين يقيض لها الله أن تتفتق، ويحين أوان انبجاسها متدفقة فوارة حابسة لأنظار العالم.
هذه «الكان» صارت مسلسلا مشوقا متشابك الأحداث متنوعا في مشاهده المثيرة، لا ينفك عن المفاجآت، بل عن بذل العبر البليغة التي تفيد على المستوى الجماعي والشخصي كذلك. في هذا المسلسل حاز المغرب دور البطل، قبل أي تتويج على المنصة. فالأهداف قد تحققت والنتائج قد حصلت.
رأينا في «الكان» من ظنوهم صغارا يستأسدون ويقدمون أروع الأداء، وشاهدنا أيضا منتخبات جاءت متغطرسة متعجرفة، فغادرتها مطأطئة متذيلة مجموعاتها، بعد ما خاب رجاؤها ومحقت شخصيتها الكروية محقا.
هذه «الكان» كانت اختبارا لصلابة وذكاء الدول، معارك حامية الوطيس فوق العشب وعلى وسائل الإعلام وبين متاهات وسائل التواصل الاجتماعي، كما لو كانت حربا حقيقية. كل الفرق، حطت الرحال فيها بقضها وقضيضها وتاريخها وحاضرها، حتى لقد صار اللاعبون فيها عنوانا لبلادهم وهيبتها وفيصلا في ما إن كان بالإمكان التعويل عليها في المجالات الأخرى التي تهم قطاعات التنمية وكل ما يتعلق بعيش الناس.
أبرع كاتب سيناريو، وأصدق «منجمة»، لم يكونا ليحدسا أن يفوز فريق (المغرب) بصدارة مجموعته ومدربه مبعد، كأنما أرادوا تحييده، وأرادت له الأقدار أن يملي بدوره بصره من موقع المتفرج بسحر الكوكبة التي ولفتها قريحته.
كما أن لا أحد قدر أنه حين سيخرج المدرب الجزائري لمنتخب تنزانيا من الباب الضيق، بعد تكالبه على المغرب ومنتخبه، سوف يعوضه مدرب اسمه موروكو! يا للإشارة البليغة، فهل من متعظ؟ أكاد أجزم أن من اختاروه فعلوا ذلك تيمنا بالمغرب. لقد عاد المغرب إلى إفريقيا، وأية عودة مظفرة هاته.
ومن قال إن «المرابطين» سيهزمون منتخب الجزائر الذي نصبه الإعلام الرسمي فائزا بـ«الكان»، قبل أن يسافر إلى كوت ديفوار، فأثبتت لهم موريتانيا أن الكرة أصدق أنباء من الأماني، وأن الأقدام لوحدها في تسديداتها الحد بين المهارة والصلف.
رؤوس كثيرة طوحت بها «الكان»، بلماضي الذي
جعلوه يدفع ثمن أخطائهم، وجمال القادري الذي سحل تونس خارج «الكان»، ومدرب كوت ديفوار الذي قد يعوضه مدرب سابق للمنتخب المغربي. الكل يبحث عن الخلطة المغربية، ثم هناك بالمقابل فرق كثيرة أخرى وأحيانا غير متوقعة ستتحول إلى جانب المغرب مثالا ملهما للبناء وتجميع شروط النجاح، كمالي وبوركينافاسو وموريتانيا والرأس الأخضر.
يبدو أن التجربة المغربية بقطر دفعت أغلب دول إفريقيا إلى أن تثق في إمكانياتها، بل إن منتخبات عديدة كانت قد صرحت أنها ستتبنى الاستراتيجية المغربية في الفوز، وبرت بتصريحها. لقد صرنا مدرسة في الكرة.
بقي أن أقول إن ما يقوم به المنتخب المغربي من فتوحات إفريقية هو عينة فقط لوصفات النجاح التي ينتظرها الشعب في كل المجالات. والتي سندها الأول فسح المجال للكفاءة والاستحقاق. فهذه النهضة الكروية ينبغي أن تكون لنا مدخلا للنهضة الشاملة، التي إما أن تكون عابرة لكل القطاعات، وإلا فلن تكون سوى سحابة صيف.
نافذة:
هذه «الكان» صارت مسلسلا مشوقا متشابك الأحداث متنوعا في مشاهده المثيرة لا ينفك عن المفاجآت بل عن بذل العبر البليغة التي تفيد على المستوى الجماعي والشخصي كذلك