شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

كائنات من ورق.. شخصيات روائية خالدة

تقديم وإعداد: سعيد الباز
ثمة شخصيات روائية لم تكتف بوظيفتها السردية داخل الحبكة الروائية، بل تذهب إلى الاستقلال بنفسها حتّى عن مؤلفها، وتكتسب وجودا خاصا رغم كونها مجرّد كائنات ورقية، وفي أبعد الأحوال شخصيات مستمدّة من واقع المؤلف الذي يلجأ في الكثير من الأحيان إلى أن يسبغ عليها العديد من تفاصيل متخيّلة.
من الشخصيات المثيرة في الرواية العالمية شخصية «زوربا» للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس (1883-1957)Nikos Kazantakis، ذلك العامل الأمّي وصاحب تجارب متعددة في الحياة استطاع أن يمتلك تصورا متكاملا لحياته الخاصة قوامها عشق الحياة وملذاتها إلى حدّ الاستغراق المفرط، فبين الرقص والغناء تصدر عنه أقوال حكيمة وحوارات بليغة، تعبّر عن فلسفته في الحياة من خلال إدراكه الحسّي للوجود الإنساني.
شخصية «سي السيد» أو «السيد أحمد عبد الجواد» في ثلاثية نجيب محفوظ (1911-2006) التي تجاوزت إطارها بوصفها شخصية روائية إلى مفهوم لظاهرة اجتماعية، استطاعت أن ترمز بشكل عام لصورة الرجل الشرقي المتناقضة بين استبداده وورعه الديني والأخلاقي المتزمت، وبين حياته الثانية الليلية المتحررة من كلّ القيود الاجتماعية والأخلاقية.
أمّا رائعة غوستاف فلوبير(1821-1880)Gustave Flaubert «مدام بوفاري» فتناولت شخصية «إيما» المسحورة بعالم الأضواء وحفلات المجتمع المخملي في باريس والحواضر، في حين تعيش في قرية رفقة زوجها الطبيب القنوع بحياته القروية البسيطة، فتصبح أسيرة أوهامها وأحلامها وخياناتها المتكررة. إيما بوفاري تمثل صورة الحلم الجارف والجري وراء الأوهام المستحيلة… لذلك كان فلوبير يقول: «إيما بوفاري هي أنا» للتعبير عن أحلامه العريضة في عالم الإبداع ومحاولته اختراق كلّ الحدود المستحيلة.
أخيرا يعدّ «راسكولنيكوف» أشهر شخصية مجرم في الرواية العالمية، حيث اتّخذها الروائي الروسي فيدور دوستويفسكي (1821-1881) Fiodor Dostoievski في روايته «الجريمة والعقاب» وسيلة لتحليل الجريمة من وجهة نفسية، متقصيا مراحلها وطريقة تفكير الطالب الفقير راسكولنيكوف في قتل المرابية العجوز والاستيلاء على أموالها والاعتراف أخيرا بجريمته. إنّ القراءة النفسية لأطوار هذه الجريمة جعلت من راسكولنيكوف شخصية خالدة في الأدب العالمي، حظيت باهتمام علماء النفس إلى درجة أن سيغموند فرويد يقول عنه: «دوستويفسكي معلم كبير في علم النفس».

«زوربا».. في البحث عن المعنى الحسّي للحياة والوجود
… وفهمت أنّ زوربا هذا هو الرجل الذي أبحث عنه منذ مدّة طويلة دون أن أجده. قلب حيّ. فم واسع نهم. روح خام كبيرة. إنّ معنى كلمات الفنّ، والحبّ، والجمال، والطهارة، والهوى -راح هذا العامل يوضحها لي بكلمات إنسانية كأبسط ما تكون. ونظرت إلى يديه اللتين تعرفان كيف تمسكان بالمعول والسانتوري (آلة موسيقية)- يدان مشققتان، مشوهتان وعصبيتان، وبحذر وحنان، وكأنّهما تخلعان ثياب امرأة، فتحتا الصرّة وأخرجتا منها سانتوري عتيقا صقلته السنون، مع مجموعة من الأوتار، مبطنا بالنحاس والعاج، له طرة من الحرير الأحمر، وراحت الأصابع الطويلة تداعبه كلّه، ببطء، وبانفعال، وكأنّها تداعب امرأة. ثم غلفتاه من جديد كأنّهما تغطيان جسدا حبيبا خشية البرد. وتمتم وهو يضعه بحذر على المقعد: هي ذي آلتي.
… وحرّك في الهواء يده الكبيرة، وقال: حسنا ! تلك قصة أخرى. لنعد إلى قصتنا: أأذهب أم أبقى؟ قرّرْ. فقلت، وأنا أمسك نفسي كي لا ألقي بها بين ذراعيه: زوربا… زوربا. اتفقنا، ستأتي معي. عندي في كريت. وستراقب العمال. وعند المساء سنتمدد كلانا على الرمل. ليس لي في العالم شيء: لا امرأة، ولا أطفال، ولا كلب. ونأكل ونشرب معا. ثمّ ستعزف على السانتوري…
… إذا كنت مستعدا له، فسوف تسمع، شرط أن تكون مستعدا له حقّا، أن أعمل لك، فذلك لك. فأنا رجلك. لكنّ السانتوري شيء آخر. إنّه حيوان وحشي، وهو بحاجة إلى الحرية. إذا كنت مستعدا له فإنني سأعزف، بل سأغني. وسأرقص، كل أنواع الرقص. لكنني أقول لك بصراحة: يجب أن أكون مهيأ. إنّ الحسابات الطيبة تخلق الأصدقاء الطيبين. فإذا أجبرتني، انتهى الأمر. يجب أن تعلم: إنني، بخصوص هذه الأشياء، إنسان.
-إنسان؟ ماذا تعني؟
-ما الغرابة؟ أعني حرّا !
ص 19

… وصمت، وخلع قلنسوته، وحكّ رأسه بعصبية، وشدّ أيضا شاربه وكأنّه يريد انتزاعه. أراد أن يقول شيئا ما لكنّه امتنع. ونظر إليّ من جانب عينه، ثم نظر إليّ ثانية وقرّر. وصرخ وهو يضرب الحجارة بعصاه بعنف: الإنسان بهيمة ! بهيمة كبيرة. إنّ سيادتكم لا تعرف ذلك، وكلّ شيء على ما يبدو كان سهلا بالنسبة لك. لكن اسألني أنا. بهيمة أقول لك ! إذا كنت سيّئا معه احترمك وخافك. وإذا كنت طيّبا فقأ عينيك. حافظ على المسافات، أيها الرئيس، لا تشجع البشر كثيرا، ولا تقل لهم إنّنا جميعا متساوون، وإنّ لنا جميعا الحقوق نفسها. وإلّا فإنّهم سيدوسون حقّك أنت، ويسرقون خبزك ويتركونك تفطس من الجوع. حافظ على المسافات، أيّها الرئيس، من أجل الخير الذي أريده لك. فصرخت غاضبا: لكن ألا تؤمن بشيء إذن؟
كلّا، لا أومن بشيء، كم مرّة يجب أن أقول لك ذلك؟ إنّني لا أؤمن بشيء، ولا بأيّ شخص آخر، بل بزوربا وحده. ليس لأنّ زوربا أفضل من الآخرين، ليس ذلك مطلقا، مطلقا ! إنّه بهيمة هو الآخر. لكنني أؤمن بزوربا لأنّه الوحيد الذي يقع تحت سلطتي، الوحيد الذي أعرفه، وكلّ الآخرين إنّما هم أشباح. إنّني أرى بعينيه، وأسمع بأذنيه، وأهضم بأمعائه. وكل الآخرين، أقول لك أشباح. عندما أموت أنا، فكلّ شيء يموت. إنّ كلّ العالم الزوربي سينهار دفعة واحدة ! فقلت ساخرا: أنت تتحدث بأنانية !
إنّني لا أستطيع شيئا، أيّها الرئيس ! الأمر هكذا: إذا أكلت فولا فإنّني أتحدث عن الفول، وأنا زوربا، إذن فأنا أتحدث على طريقة زوربا.
لم أقل شيئا. كنت أحسّ بكلمات زوربا وكأنّها صفعات سوط. إنّني أعجب لقوته هذه، ولمقدرته على احتقار البشر إلى هذا الحدّ، وفي نفس الوقت لوجود مثل هذه الرغبة عنده في أن يعيش ويعمل معهم. أمّا أنا، فإنّني إمّا أن أصبح ناسكا، وإمّا أن أزيّن البشر بريش زائف كي أستطيع أن أتحملهم. والتفت زوربا ونظر إليّ. وعلى ضوء النجوم، تبينت وجهه الذي شقته ابتسامة حتى أذنيه.
ص 60 ص 61

«سي السيّد».. تناقضات الرجل الشرقي
… أمّا السيّد فكان أحرص ما يكون على وقاره وحزمه، وما يصدر عنه من لطف فخلسة يصدر، وربّما جرت على شفتيه ابتسامة عريضة –في جلسته هذه- لذكرى طافت به من ذكريات سهرته السعيدة فسرعان ما ينتبه إلى نفسه، ويطبق شفتيه، ويسترق إلى زوجه نظرة فيجدها كعادتها بين يديه خافضة العينين، فيطمئن ويعود إلى ذكرياته. والحقّ أنّ سهرته لم تكن تنتهي بعودته إلى بيته، ولكنّها تواصل حياتها في ذكرياته، وفي قلبه الذي يجذبها إليه بقوة نهم إلى مسرّات الحياة لا يروى، وكأنّه لا يزال يرى مجالس الأنس تزيّنه النخبة المختارة من أصدقائه وأصفيائه، ويتوسطه بدر من البدور التي تطلع في سماء حياته حينا بعد حين، وما برحت تطنّ في أذنيه الدعابات واللطائف والنكات التي تجود قريحته بدورها إذا هزّه السكر والطرب، وهذه الملح خاصّة يراجعها في عناية واهتمام ينضحان بالعجب والزهو، ويتذكر أثرها في النفوس وما لاقت من نجاح وابتهاج جعلاه الحبيب الأوّل لكل نفس، ولا عجب فإنّه كثيرا ما يشعر بأنّ الدور الذي يلعبه في سهرته من الخطورة كأنّه أمل الحياة المنشودة، وكأنّ حياته العملية بجملتها ضرورة يؤديها في سبيل الفوز بساعات مترعة بالشراب والضحك والغناء والعشق يقضيها بين صحبه وخلصائه.
«بين القصرين» ص 15

… وتقلّب السيد أحمد عبد الجواد على جنبيه ثم فتح عينيه، وسرعان ما قطب حانقا على الصوت الذي أزعج منامه، ولكنه كظم حنقه لأنّه كان يعلم أنّه يجب أن يستيقظ، وتلقى أوّل إحساس يتلقاه عادة عقب استيقاظه وهو ثقل الرأس فقاومه بقوة إرادته وجلس في فراشه وإن كانت تغلبه الرغبة في معاودة النوم. ولم تكن لياليه الصاخبة لتمنعه واجب النهار. فهو يستيقظ في هذه الساعة الباكرة مهما تأخر به وقت النوم حتّى يتسنى له الذهاب إلى متجره قبل الثامنة، ثم له في القيلولة فسحة من وقت يعتاض بها عمّا فاته من نوم، ويستعيد نشاطه للسهرة الجديدة. لهذا كان وقت استيقاظه أسوأ أوقات يومه جميعا، يغادر الفراش مترنحا من الإعياء والدوار، ويستقبل حياة عاطلة من حلو الذكريات ولطيف المشاعر وكأنّها تستحيل دقّا في الدماغ والجفون.
… ومع أنّ السيّد أحمد كان في الدور الأعلى بمفرده إلّا أن أمينة لم تدعه في حاجة إلى إنسان. وجد على الخوان طبق فنجان مملوءا حلبة ليغيّر ريقه عليها، وذهب إلى الحمام فتطاير إلى أنفه عرف البخور الطيب، وألفى على الكرسي ثيابا نظيفة مرتبة في عناية، فاستحم بالماء البارد كعادته كلّ صباح، عادة لا ينقطع عنها صيفا أو شتاء، ثم عاد إلى حجرته مستجدا حيوية ونشاطا، ثم جاء بسجادة الصلاة، وكانت مطوية على مسند الكنبة، فبسطها وأدّى فريضة الصبح، صلّى بوجه خاشع، وهو غير الوجه الباسم المشرق الذي يلقى به أصحابه، وغير الوجه الحازم الصارم الذي يواجه به آل بيته، هذا وجه خافض الجناح تقطر التقوى والحب والرجاء من قسماته المتراخية التي ألانها التزلف والتودد والاستغفار. لم يكن يصلي صلاة آلية قوامها التلاوة والقيام والسجود، ولكن صلاة عاطفة وشعور وإحساس يؤديها بنفس الحماس الذي ينفضه على ألوان الحياة التي يتقلّب فيها جميعا، كما يعمل فيتفانى في عمله، ويصادق فيفرط في مودته، ويعشق فيذوب في عشقه، ويسكر فيغرق في سكره. مخلصا صادقا في كل حال، هكذا كانت الفريضة حجة روحية يطوف فيها برحاب المولى، حتّى إذا انفتل عن صلاته تربع وبسط راحتيه وراح يدعو الله أن يكلأه برعايته ويغفر له ويبارك في ذريته وتجارته.
«بين القصرين» ص 20 ص 21 ص 22 ص 23

«مدام بوفاري».. في السعي وراء بريق الأوهام
… ثم تأخذ في التركيز شيئا فشيئا، فتردّد لنفسها وهي تفترش الحشائش التي كانت تعبث بها بطرف مظلتها: «فيا إلهي ! لماذا تزوجت؟» وكانت تسائل نفسها أيضا: «أو لم المصادفات طريقا آخر تدفعها فيه لتلتقي برجل آخر؟» ثم تمضي في تخيّل الأحداث التي كانت تترتب على ذلك… الأحداث التي لم تقع، والحياة التي تغاير حياتها الحالية، والزوج الذي لم تعرفه… فلا مراء في أنّ الأزواج ليسوا جميعا مثل زوجها ! كان من الممكن أن يكون زوجها جميلا، مرحا، أنيقا، جذابا، مثل أولئك الأزواج الذين ولابد قد حظيت بهم زميلاتها في الدير ! ترى ماذا تفعل أولئك الزميلات الآن في المدينة، وسط ضجيج الشوارع، وأضواء المسارح، وصخب المراقص؟ إنّهن ولا ريب يحظين بحياة يتفتح بها القلب، وتنتعش الحواس… أمّا هي، فإنّ حياتها باردة كالمخزن الرطب الذي أوتي نافذة شمالية ! والملل؟ ! ذلك العنكبوت الصامت الذي كان يغزل نسيجه في الظلال، في كلّ ركن من أركان قلبها !
وتذكرت أيام توزيع الجوائز –في أثناء الدراسة- حين كانت تصعد إلى المنصة لتتسلم نصيبها من التيجان الصغيرة، وقد بدت بديعة بشعرها المجدول، وثوبها الأسود… وكان السادة ينحنون ليسمعوها عبارات التهنئة، إذا ما عادت إلى مكانها… ويطلون من نوافذ العربات التي تملأ صحن الدير ليودعوها عند انصرافها ! كما كان مدرس الموسيقى يحييها إذ يمر بها حاملا قيثارته… أواه ! لكم أصبح كلّ هذا بعيدا… آهٍ، لشدّ ما بعد !
«مدام بوفاري» ص 64 ص 65

… وابتاعت خريطة لباريس، فكانت تتابع بأصبعها معالمها، وتقوم بجولات وهمية في أحيائها: تسير في الشوارع الكبيرة، وتقف عند الأماكن التي تتقاطع عندها خطوط الشوارع أمام المربعات البيضاء التي تمثل المنازل… حتّى إذا تعبت عيناها، أطبقت أجفانهما… وإذ ذاك، كانت ترى على صفحة الظلام صور المشاعل والرياح تعبث بألسنتها، وأبواب العربات تفتح في صخب أمام أبهاء المسارح !
واشتركت في صحيفة «لاكوريي» النسوية ومجلة «سيلف» الاجتماعية، وأخذت تلتهم ما كان ينشر فيهما، دون أن تغفل كلمة من أنباء حفلات العرض الأوّل للمسرحيات، وحفلات السباق والسهرات… وكانت تهتم بظهور مغنية جديدة، أو افتتاح متجر ! وأخذت تتعرف كذلك على الأزياء الحديثة، وتحفظ عناوين أمهر الحائكين والحائكات، والأيام التي اعتاد المجتمع الباريسي أن يخرج فيها للنزهة في الغابة، أو السهر في الأوبرا ! وقرأت لبلزاك وجورج صاند وهي تنشد إشباعا وهميا لمطامعها الشخصية ! وبلغ من شغفها هذا أن كانت تحمل كتابها معها إلى المائدة وتقلّب صفحاته، بينما يكون زوجها شارل منهمكا في الأكل والحديث… وكانت ذكرى «الفيكونت» لا تفتأ تعاودها في أثناء قراءاتها، فتقارن بينها وبين الشخصيات التي تصادفها في الروايات. على أنّ الدائرة التي كانت تحيط بشخصيته راحت تتسع شيئا فشيئا… وأخذت هالة الرواء، التي أحاطته بها، تفارقه رويدا رويدا لتمتد إلى مسافات أبعد، حيث تضيء أحلاما أخرى !
وهكذا باتت «إيما» ترى باريس أكثر اتّساعا من المحيط، وقد راحت تتألق أمام عينيها في جو قرمزي !
«مدام بوفاري» ص 76 ص 77

فيودور دوستويفسكي.. راسكولنيكوف وسؤال الجريمة
… على أنّ هذه الأمور كلّها تفاصيل لم يكن راسكولنيكوف قد فكّر فيها فعلا بعد. لقد كان راسكولنيكوف يفكّر في الشيء الأساسي، ويرجئ التفكير في التفاصيل إلى اللحظة التي يكتمل فيها اقتناعه. ولكن كان يلوح له أن هذه اللحظة لن تجيء قط، أو ذلك ما كان يعتقد به راسكولينكوف في قرارة نفسه. كان لا يتخيّل مثلا أنّه في لحظة معيّنة سوف يكفّ عن التفكير. وسوف ينهض، وسوف يذهب إلى هناك، بكلّ بساطة ! فحتّى زيارته الأخيرة للعجوز (وهي الزيارة التي استهدف منها دراسة المكان وقام بها على سبيل التمرين)، حتّى هذه الزيارة لم تكن في الواقع إلّا محاولة، ولم يكن فيها جد. كلّ ما هنالك أنّه قال لنفسه: «والله… سأذهب، وسأحاول، سأحقق ما أحلم به على الأقل، ثم لم يسعه بعد ذلك فورا إلّا أن يبصق ويولي هاربا وقد امتلأ اشمئزازا أمام نفسه. ولكن كان يبدو أنّه قد أوغل في التحليل إلى النهاية، وأنّه حلّ المشكلة الأخلاقية التي تطرحها هذه القضية. لقد كان منطقه حادا قاطعا كسكين مسنونة، ولم يبق لفكره أيّ اعتراض واعٍ يمكن أن يقدمه. غير أنّه لم يكن واثقا بنفسه فكان يلتمس اعتراضات من الخارج، على نحو غامض وعنيد، كأنّ شخصا قد أمسكه من يده وأخذ يجره معصوب العينين، بقوة خارقة، جرّا لا فكاك له منه… في أوّل الأمر (منذ مدّة طويلة) كان هنالك سؤال يشغل باله كثيرا، وهو: لماذا تنكشف جميع الجرائم بسهولة ويسر؟ لماذا يُعثر على آثار جميع المجرمين تقريبا في غير عناء؟ وقد توصل راسكولنيكوف شيئا فشيئا إلى نتائج متنوعة شائقة. قال لنفسه إنّ السبب الأساسي في ذلك لا يرجع إلى استحالة إخفاء الجريمة استحالة مادية بقدر ما يرجع إلى المجرم نفسه. فجميع المجرمين إنّما يشعرون، لحظة تنفيذهم جريمتهم، بنوع من انهيار الإرادة وفقدان الرأي السديد، فإذا بالإرادة والرأي يحلّ محلّهما طيش صبياني تماما، في الوقت الذي يكون فيه المرء أحوج ما يكون إلى العقل والحكمة والحذر. كان راسكولنيكوف مقتنعا بأن غياب الرأي السديد وانهيار الإرادة الصلبة يستوليان على الإنسان كما يستولي عليه مرض من الأمراض وينموان مزيدا من النمو شيئا بعد شيء ثم يبلغان ذروتهما قبيل تنفيذ الجريمة. وكان مقتنعا بأنّهما يلبثان على هذه المرحلة عند ارتكاب الجريمة، ويلبثان عليها بعد ارتكاب الجريمة بزمن يختلف طوله باختلاف الأفراد، ثم يزولان كما تزول جميع الأمراض. أمّا هذا التساؤل: «هل المرض هو الذي يولد الجريمة، أم أنّ الجريمة يصاحبها دائما، بحكم طبيعتها، شيء من مرض؟» فتلك مسألة لم يشعر راسكولنيكوف أنّه قادر على حلّها.
فلما انتهى إلى هذه النتائج ارتأى أنّ أمثال هذه الاضطرابات المرضية لا يمكن أن تعتريه هو، واعتقد بأنّه سيظل محافظا على سلامة الرأي وقوة الإرادة طوال تنفيذ خطته، وذلك لسبب وحيد هو أنّ ما ينوي القيام به «ليس جريمة»… لندع جانبا طريقة وصوله إلى هذه النتيجة، فلقد استبقنا منذ الآن أشياء كثيرة… وحسبنا أن نضيف إلى ما ذكرناه، أنّ المصاعب الواقعية والعقبات المادية لم يكن لها في ذهنه إلّا دور ثانوي. كان يقول لنفسه: «سوف يكفيني أن أظلّ مسيطرا على إرادتي وعلى فكري حتى تذلل جميع هذه الصعاب متى أزف الوقت وأصبح عليّ أن أدقق في أيسر تفاصيل القضية… «، ولكن القضية لم تبدأ، فكان اقتناع راسكولنيكوف بأنّ قراراته حاسمة يضعف شيئا بعد شيء. حتّى إذا أزفت الساعة، جرت جميع الأمور على غير ما تنبأ به، بل تكاد أن تكون مفاجئة، حتى لكأنّه لم يتنبأ بشيء يوما من الأيام.
«الجريمة والعقاب» ص 119 ص 120 ص 121

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى