يونس جنوحي
السلطات البوسنية ترفض السماح للإسباني المغربي عبد القادر هركاسي ورفيقه الإسباني المسلم عبد الله هرنانديس بعبور الحدود البوسنية مصحوبين بالخيول.
الرحالة يقطعان منذ أكتوبر الماضي رحلة الحج على ظهر الخيل متبعين بذلك مراحل ومحطات رحلة الحج الأندلسية كما وثقها مخطوط يعود لسنة 1491 ميلادية!
قطعا حتى الآن 3000 كيلومتر ووصلا إلى بلدان شرق أوروبا المسلمة، لكن توقف الرحلة الآن على الحدود البوسنية لا بد أن يشكل تهديدا على الموعد النهائي للوصول إلى مكة مع بداية موسم الحج تماما. وكل يوم تأخير سيؤثر على توقيت المراحل الأخرى المتبقية من الرحلة.
السلطات البوسنية لم تمنع المواطنين الإسبانيين من دخول ترابها. اقتصر المنع فقط على الخيول. والسبب، الذي قيل لهما في الجمارك، أن هناك أوراقا ناقصة في جوازات الخيول للسماح لها بدخول التراب البوسني.
من المفارقات المريرة، حقا، أن عبد القادر هركاسي عندما انفردنا بمحاورته، في نهاية دجنبر الماضي، على صفحات «الأخبار» كان متفائلا جدا ويعقد أملا كبيرا على حسن ضيافة مسلمي أوروبا الشرقية وكرمهم، خصوصا وأن الوصول إلى هناك يتزامن مع اشتداد موجات البرد القارس وتراكم الثلوج.
عندما سألتُ عبد القادر، وكان وقتها فوق التراب الإيطالي، عن مدى استعداده لمواجهة الثلوج وبرد أوروبا القارس، رد متفائلا بأن حساباته مع عبد الله، الباحث الأكاديمي العاشق للمخطوطات الإسلامية، تؤكد أن فترة يناير وفبراير سوف تجده في منطقة البوسنة والهرسك، وأنه يعول على حسن استقبال مسلمي البلد وضيافتهم. لكن يبدو أن مشكلة المسلمين مع الحدود أعمق مما قد يتصوره رحالة في القرن الحادي والعشرين!
وفي الوقت الذي فتح الإسبان المتدينون أبواب الكنائس في القرى الصغيرة أمام الحاجين لقضاء الليل بدل إقامة الخيام في الغابات، ها هو هركاسي يحاول استيعاب تعقيدات الجمارك ومشاكل الحدود، وقد تصادفه مشاكل أخرى الله وحده يعلمها.
قطع الرحالة، الذي يفتخر بأصول والدته الطنجاوية ويعتز بأجواء حي البرانص، حدود معظم الدول الأوروبية التي تقع في خط إسبانيا عند الاتجاه شرقا نحو تركيا. ولم يسأله أحد عن جواز سفره. كل ما يجده، على الحدود، لوحة معدنية تحمل شعار الاتحاد الأوروبي واسم الدولة التي تستقبله، ويمضي في طريقه ببساطة.
يوميا يقطع هركاسي ما بين ثلاثين وخمسين كيلومترا، وهي مسافة معقولة فوق ظهر الخيل. وهو ما يعني أنه يجب توفير ظروف ملائمة للمبيت وتوفير حاجيات الخيول والسهر على بقائها مستعدة لقطع ما تبقى من الرحلة قبل استبدالها عندما تصبح غير قادرة على المواصلة.
قبل قرون خلت، كان أجدادنا يعانون في رحلات الحج من جرف التيار للسفن. وحدث في أيام المولى إسماعيل، الذي توفي سنة 1727، أن جرف التيار سفينة للحجاج المغاربة ووقعوا أسرى في مارسيليا بعد أن كانوا متجهين إلى مصر عبر البحر المتوسط. بدل أن يواصلوا الرحلة شرقا، جرفهم التيار إلى أقصى الشمال واعتُقلوا من طرف البحارة الفرنسيين وبقوا في الأسر قرابة ثلاثين عاما إلى أن حررهم مولاي إسماعيل في صفقة مع لويس الرابع عشر.
الرحالة القدامى عانوا من صعوبات عبور مناطق عدم الاستقرار السياسي قبل خمسة قرون، وفي الأندلس كانوا يُخفون إسلامهم ولا يتحدثون عن وجهتهم الحقيقية إلى الحج إلا عندما يغادرون أوروبا تماما.
ها نحن اليوم أمام شاب من أحفاد ابن بطوطة، قرر رفقة أستاذه الإسباني الذي اعتنق الإسلام منذ 1988 ونذر على نفسه الحج على طريقة الأندلسيين القدامى، أن يعيدا «رحلة الحج» إلى الحياة في زمن الجواز الأوروبي ونظام تحديد المواقع وثورة الهواتف النقالة.. لكن صعوبات العصور الوسطى لا تزال قادرة على جعلك تتجمد على الحدود بسبب ورقة ناقصة!