شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصص من زمن معارك نظام الضريبة

حاربتها فرنسا وتسببت في مجازر واغتيالات وعمّرت قرونا

يونس جنوحي

«في سنة 1937 ألغت فرنسا العمل بنظام ضريبة الترتيب في تونس، وهي ضريبة كان قد أقرها العثمانيون، وكان المغرب يعترف بها أيضا. بل كانت تعتبر واحدة من عجائب موظفي المخزن المغربي، حتى أن مؤرخين مغاربة عزوا سبب «السيبة» التي بصمت على سنوات متتالية في المغرب، إلى فرض ضريبة الترتيب وتجاوزات موظفي المخزن في استخلاصها.

ضريبة الترتيب كانت تفرض في حالة الحرب لتوفير موارد إضافية للدولة، أو في سنوات الأزمة لملء خزينة الدولة. وما كان ينفر المغاربة منها، ليس فقط شمولها لكل ما يملكونه، حتى لو كان ماشية هزيلة أو كيسا من الحبوب في سنوات المجاعة، ولكن سبب النفور الأكبر منها كان تغول رجال السلطة، واغتناء أغلبهم من وراء تكليف السلطان لهم بجمعها..

عندما ألغت فرنسا العمل بهذا النظام الضريبي البدائي في تونس، تخوف الأعيان المغاربة من أن يوضع حد لمصادر ثروتهم في المستقبل، وتسببوا في احتجاج على القرار الفرنسي، رغم أن نهاية «الترتيب» كانت في صالح مسار تحديث الإدارة، ودخول عصر نظام الضريبة».

 

++++++++++++++++++++++++++++++

 

عندما أجج إلغاء فرنسا «ضريبة الترتيب» الأوضاع سنة 1937

ما إِنْ وصل خبر إلغاء الإدارة الفرنسية العمل بنظام ضريبة الترتيب في تونس سنة 1937، حتى سارع الوطنيون والمثقفون المغاربة إلى أقلامهم، وكتبوا مقالات متباينة نُشرت حينها في دوريات مختلفة. تباين في الآراء، لكنها لم تذهب حد مباركة سياسة فرنسا، فقد كان المثقفون المغاربة، سواء من الوطنيين أو أصدقاء فرنسا، يحملون دائما مشاعر تخوف بشأن كل جديد تأتي به الإدارة الفرنسية إلى المغرب، وما يمكن أن يجره من مشاكل على الأرض..

أما الأعيان المغاربة، فقد جمّدوا موقفهم، خصوصا وأن أغلبهم كانوا فعلا يستفيدون من ضريبة «الترتيب» المخزنية، بل منهم من كون ثروته الشخصية من وراء تكليفه بجمع هذه الضريبة لصالح خزينة الدولة.

ضريبة الترتيب واحدة من طرق تحصيل الأموال لصالح خزينة الدولة، واشتهرت أكثر مع السلطان عبد العزيز الذي وصل إلى الحكم سنة 1894 خلفا لوالده السلطان الحسن الأول. وعندما تم إقرار هذه الضريبة مجددا، احتج الناس بحكم توالي سنوات الجفاف. إذ إن هذه الضريبة تقوم على أداء ضريبة سنوية لصالح الدولة عن كل رأس من الماشية وحتى عن الدجاج، ومخزون الحبوب، وكل ما له قيمة في حياة مغاربة القرن التاسع عشر!

وما زاد من تأليب الناس ضد ضريبة الترتيب، التجاوزات التي يرتكبها أعوان المخزن والموظفون أثناء جمع هذه الضريبة.

في سنة 1901، كان المغرب يغلي بسبب اقتراح توصل به السلطان المولى عبد العزيز من صديقه الصحافي البريطاني، والتر هاريس. هذا الأخير اقترح على السلطان أن يُنهي ضريبة الترتيب واعتبرها غاية في التخلف، وأن يقر نظام ضريبة مشابه تماما لنظام الضريبة في بريطانيا.

كانت هذه الخطة الإصلاحية، أول محاولة لتحديث نظام الضريبة المغربية على الإطلاق. لكن وزراء الدولة والأعيان وقفوا في وجه هذا المقترح، حتى أن السلطان اكتشف بداية محاولات لاغتيال صديقه الصحافي في قلب فاس، وغادر «هاريس» العاصمة فارا نحو طنجة لكي ينجو بحياته.

هذه الواقعة كشفت إلى أي حد لم يكن المستفيدون من نظام الضريبة مستعدين للتخلي عن امتيازاتهم، رغم الإصلاحات التي تأتي من هرم السلطة، ولو كان صاحبها السلطان شخصيا.

ولم تكن محاولة السلطان الشاب المولى عبد العزيز هي الأولى بهذا الخصوص، فقد سبقه أجداده السلاطين إلى محاولات أخرى، بعضها كان أكثر حزما، لكن الأمور لم تكن تعتدل إلا لتُنذر بقدوم الأسوأ.

مع مجيء الحماية الفرنسية، جرت معارك إدارية طاحنة لكي يتم تحديث نظام الضريبة. ليس حبا في المغاربة بطبيعة الحال، ولكن رغبة من فرنسا في الحصول على صورة واضحة بشأن المالية المغربية، وتسهيل الوصول إلى الموارد المالية لفرض ضرائب عصرية على المغاربة.

 

 

 

عندما كان قطع رأس موظفي الضرائب «حادثة شُغل»

«انضم إليّ عدد كبير من الناس في تلك الأيام. وازدادت ثروتي، لكني لم آخذ أي شيء من الفقراء. بل منحتهم الكثير وصرت مباركا بفضلهم. أسديت خدمات لبعض الكبار، وأصبح لدي أصدقاء كثر، حتى في صفوف الباشوات والوزراء. لكن سكان القرى لم يكونوا قادرين على ترك أسوار قراهم، كانوا يرون الريسوني في كل ظل.

بفضل توزيعي للمال، رغم أنف قوات السلطان وجنوده، اشتريت الأراضي، وأصبحت لدي مزارع في أماكن كثيرة، لكنها كانت دائما باسم عائلتي. في أحد الأيام جاء جامع للضرائب إلى أخي وقال له:

هذا المنزل ليس في ملكيتك فعلا، لقد اشتراه مولاي أحمد، وإذا علم المخزن هذا الأمر فإنهم سوف يصادرونه منك. اعطني بعض الماشية والخراف، ولن أقول لهم أي شيء. وحدث أنني جئت إلى المنزل في الوقت نفسه الذي كان فيه أخي يتجادل معه. عندما أخبروني بما يقع، ذهبت إلى جامع الضرائب وشرحت له الشرع المتعلق بالميراث، واستشهدت بآيات من القرآن الكريم وأقوال الأئمة الأربعة. وبعد ذلك، عندما رأيتُ أنه لم يقتنع، قطعت رأسه وأرسلته في سلة من الفواكه إلى سيدي عبد الرحمن. حاكم طنجة بدأ يتساءل ما إن كان رأسه شخصيا سوف يُقطع لاحقا».

الكلام هنا للشريف الريسولي، المتمرد الذي حكم منطقة جبالة وحارب الجيش والإسبان وأثار جدلا كبيرا لعقود إلى حدود الحرب الإسبانية على الريف، أواسط عشرينيات القرن الماضي.

الريسولي حكى هذه الواقعة للكاتبة «روزيتا فوربس»، والتي دونتها في كتابها عن حياته «سلطان جبالة»، الذي صدر سنة 1924، والذي نقلنا مضامينه في ترجمة حصرية.

هذه الواقعة، تأكد فعلا حدوثها في مصادر أخرى، ووقعت حوادث مشابهة لها في كثير من المناسبات، وأقدم عليها قواد آخرون من مناطق أخرى. وكلها تؤكد أن عملية قطع رأس موظف الضريبة أثناء مزاولته لمهمته، لم تكن إلا حادثة شغل. إذ كانت عملية جمع الضرائب محفوفة بالمخاطر.

هذا الواقع، كان يهيمن على الحياة العامة في المغرب، في كثير من المحطات التاريخية التي اتسمت بعدم الاستقرار السياسي. وعندما جاءت الحماية سنة 1912، كان الفرنسيون يفضلون الابتعاد قدر الإمكان عن المساس بنظام الضريبة على الطريقة المغربية.

ورغم أن عددا من السلاطين أمثال المولى إسماعيل والمولى محمد الرابع والمولى سليمان وأيضا مع المولى الحسن الأول، حاولوا تطويق الخزانة بعلماء أجلاء لا يتهاونون في التشديد على ظروف ومقدار استخلاص الضرائب، سيما في سنوات الجفاف، إلا أن بعض المحطات التاريخية عرفت تسيبا حقيقيا في مجال جمع الضرائب وتحصيلها. باحثون مغاربة عزوا الأمر إلى تغول القواد والباشوات، ومحاولة بعض من أوكلت إليهم مهمة جمع الضرائب، الاغتناء من وراء جمعها، وهو ما جعل محطات كثيرة تنتهي بطرق مأساوية، تماما مثل القصة أعلاه.

 

باحث بريطاني دقق في ضرائب الحماية على المغاربة والفرنسيين

في كتابه «Morocco Today»، الذي صدر سنة 1953 يثير الباحث البريطاني برنارد نيومان مسألة استخلاص الإدارة الفرنسية للضرائب في المغرب، ونقل الاحتجاجات التي صاغها الوطنيون، أثناء لقائه ببعضهم، إلى مسامع المسؤولين الإداريين الفرنسيين، والتي كان مفادها أن فرنسا تفرض على المغاربة ضرائب أكبر مما تفرضه على رعاياها الفرنسيين فوق التراب المغربي.

يقول بهذا الصدد: «التقيتُ رئيس قسم آخر، لكنه كان أكثر تحفظا وأكثر فعالية أيضا. وقد رفعتُ إليه شكاية أخرى يتداولها الوطنيون، مفادها أن المغاربة مُثقلون بالضرائب أكثر من الفرنسيين. مرر لي ببساطة كشفا بالميزانية، وجلستُ أقرأه على مهل.

هناك 850000 فلاح مغربي يدفعون 89،7 عبارة عن ضريبة «الترتيب» المخزنية، بينما 6500 معمر فرنسي، يدفعون النسبة الباقية. (لقد رأينا كيف أنهم يحصلون على خصم من الضرائب، عندما يقتنون الآلات، هذا إن كان يُطبق، لكنهم لا يزالون يدفعون أكثر بكثير من المغاربة، لأن مزارعهم أوسع بكثير). 98،6 بالمئة من مدخول الضرائب، يدفعه الأوروبيون. والوحيدون الذين يدفعونها هم الأجراء، وهم في الغالب يعملون في الخدمة المدنية، بحيث يصعب عليهم تجنب دفعها. من الواضح أن إمكانية فرض ضريبة دخل شاملة، سوف يكون أمرا غاية في الأهمية، على الرغم من أن هذا الإجراء يبقى أحد أعدل جميع الإجراءات المُلزمة. لقد وُجد أنه من الصعب استخلاص مثل هذه الضريبة في فرنسا، أما في المغرب فهذا الأمر سوف يبدو مستحيلا.

في واحدة من المدن المغربية، مالك الأرض ومُستأجرها، كلاهما يدفعان ضريبة خاصة تعادل ضريبة «الترتيب». و54 بالمئة من الإيصالات تأتي من الأوروبيين. هناك ضريبة تجارية أيضا، وهي عبارة عن ترخيص تُحدد قيمته اعتمادا على الأرباح البديلة على ضريبة الدخل، و69،4 بالمئة من إجمالي هذه الضريبة يدفعها الأوروبيون وحدهم.

قال لي موظف في الضرائب، في وقت لاحق: «لا، هذا لا يعني أن الأوروبيين يربحون 69،4 بالمئة من إجمالي الأرباح التجارية في المغرب، بل يعني أن المغاربة يتموقعون أفضل، لتجنب الضرائب. ليس لديهم من يُحرجهم، مثل مُدققي الحسابات الذين يلاحقون الفرنسيين».

وعندما تحدث نيومان مع أحد موظفي الضرائب الفرنسيين المقيمين في الرباط، بخصوص مسألة التمييز في الاستخلاص الضريبي وإضعاف العُملة المغربية، رد هذا الموظف بالقول:

«- نعم، إن وجهة النظر هذه، صحيحة بطريقة ما. إن الأمر كله يتوقف على مسألة العُملة. الاقتصاد المغربي مُرتبط باقتصاد فرنسا. وهناك نقص حاد جدا في العملة الأجنبية، خصوصا الدولار. يجب علينا أن نتوفر على تحكم في العملة، كما هو الأمر عندكم في بريطانيا، حيث تتوفرون على نظام الحصص أو «الكوطا» أو ما يشبهه. من الأمور المسلم بها، أنه يتم تجميد جزء من تجارتك تقوم بتجميد الواردات غير الضرورية التي تستهلك العملة الأجنبية.

وهكذا فإن حوالي 45 بالمئة من الصادرات المغربية تذهب في الوقت الحاضر إلى فرنسا، بقيمة تصل إلى 73 مليار فرنك. و65 بالمئة من واردات المغرب تأتي من فرنسا، بقيمة تصل إلى 140 مليار فرنك فرنسي».

-«وكيف يتم تحقيق التوازن إذن؟».

-«فرنسا تتكلف بهذا الأمر. كل سنة يكون هناك عجز، نتكلف نحنُ بتسديده».

-«هل يعرف المغاربة هذا الأمر؟».

-«لا أظن ذلك. بعضهم لا يرغبون في معرفة هذا الأمر، لكن يجب عليهم أن يعلموا»».

 

 

أجواء عملية جمع الضرائب عند الخْليفة المتوكي سنة 1952

دائما مع الباحث البريطاني برنارد نيومان، فهذا الأخير، يُعتبر الباحث الأبرز الذي دقق في تفاصيل مظاهر الحياة المغربية ما بين 1912 و1952، السنة التي زار فيها المغرب. إذ عاد منذ تاريخ زيارته إلى المغرب – وكانت تلك زيارته الأولى والأخيرة- إلى النبش في تاريخ المغرب، ودقق أكثر في محطات مهمة من تاريخ الحماية الفرنسية، واعتمد على الرواية الشفهية لكبار موظفي الإقامة العامة، والذين حكوا له كواليس بداية هيمنة الإدارة الفرنسية في المغرب.

في رحلته عبر ربوع المغرب، وصل برنارد نيومان إلى نفوذ قبيلة الخْليفة «المتوكي»، وهو أحد أشهر الذين تعاملوا مع المخزن في أيام السلطان محمد بن يوسف، ومع إدارة الحماية الفرنسية التي كانت ترى في القواد ومن معهم في السلم الإداري المخزني، أعوانا لتطبيق الطرق القديمة، قبل استبدالها بالتعاملات الإدارية لاحقا. يقول برنارد نيومان وهو يصف أجواء لقائه بالخليفة المتوكي وحضوره جلسة دفع القرويين والفلاحين للضرائب:

«جاء رجل آخر، يحمل شكاية. تمتد أرضه بين الحدود الفاصلة بين ملكيتين تابعتين لقبيلتين مختلفتين، وفُرضت عليه ضريبة من كلا القبيلتين!

أعطاه السيد «م. روبرت» ورقة من شأنها أن تُصحح الأمور. لم يكن لدى الحماية الفرنسية بطل أكثر حظا من الفلاح السعيد.

الواقعة كانت بمثابة تذكير بأن ذلك اليوم، هو موعد جمع الضرائب من قبيلة «أولاد معطى» المجاورة.

ضغطنا على السيارة، على طول طريق وعرة غير معبدة وعبر الوادي، وصولا إلى القرية الرئيسية.

كان المسؤول عنها هو الخْليفة سي الحاج حسن المتوكي، وهو شيخ جليل وكريم يستحق الاحترام نظرا إلى شخصيته، وأيضا لأنه ذهب إلى مكة، التي يشير إليها لقب «الحاج» في اسمه.

نظام فرض الضرائب بسيط، ويجب فعلا أن يكون كذلك، إن كان سيتم قبوله في منطقة نائية.

هناك ضريبة رئيسية تُفرض على كل رجل. 640 فرنكا في السنة (بعملية حسابية تقريبية فإن قيمة جنيه إسترليني واحد قد تصل إلى 1000 فرنك). ومع ذلك، من الممكن الإعفاء من هذه الضريبة، مقابل التطوع للعمل أربعة أيام.

كان مهما رفع قيمة المعايير المحلية، التي يختار معظم الرجال الآن دفعها نقدا.

الشكل الثاني لتحصيل الضرائب، هو «الترتيب». وهي ضريبة في طور التطوير، وتمثل نظيرا بسيطا للضريبة على الدخل، التي تستند إلى المِلكية -الملكية التي تتعلق بالحيوانات والمحاصيل الزراعية، وليس على المنازل أو محتويات الحقول أو الأشجار.

جلس «الخْليفة» أمام طاولة، في فناء منزله جلس عشرات الرجال القرفصاء على الأرض، وبطبيعة الحال لم يكن هناك داع للاستعجال.

كل رجل عندما يحين دوره، يذهب إلى الطاولة ويصرح بثروته. قام مفتش، سبق له إجراء تحقيق أولي، بتفحص التصريح. لكني لاحظتُ أنه ولا مرة طعن في أي تصريح. إن الفلاح الأمازيغي صادق وصريح أساسا، ثم حُسب مقدار الضريبة على الحيوانات.

على سبيل الاهتمام، دونتُ مقدار المبالغ المؤداة، والتي لم تكن كبيرة. مقابل كل جَمَل، دفع الرجل 150 فرنكا، ومقابل كل بغل، دفع 180، ومقابل كل حصان دفع 90، و25 فرنكا مقابل كل حمار، و280 مقابل كل بقرة، و180 مقابل كل عِجل، 60 فرنكا مقابل كل خروف، و25 مقابل كل رأس ماعز.

سوف تتضح أهمية البقرة في اقتصاد المناطق النائية.

بخصوص محاصيل الذرة، كانت الضريبة 70 فرنكا عن كل مئة كيلوغرام. وإذا لم يكن هناك محصول، لا تكون هناك ضريبة. منهجية فرض الضرائب كانت تمثيلا عادلا لثروة الفلاح. وعلى نفس القدر من الأهمية، تُقبل الضريبة، ما دامت عادلة، من قبل الأشخاص المعنيين بها.

كان متوسط المبلغ أقل من 3000 فرنك.

انتهى ملف دافعي الضرائب. بسط خدم الخْليفة الزرابي والوسائد فوق الفناء الطيني، وظهر الشاي المنعنع الذي لا مفر منه، مرفوقا باللوز والجوز.

 

 

 

 

طلب الإعفاء وتوريث المناصب.. معركة كسر العظام بـ«دار الضريبة»

كثيرا ما انشغل الباحثون المغاربة بمسألة جمع الضرائب في تاريخ المغرب، وأصولها وحتى أسماء الشخصيات التي اغتنت من وراء ممارسة هذه المسؤوليات.

الباحث المغربي محمد بياض، أحد الباحثين والمؤرخين الذين أسهموا في نبش أرشيف الوثائق والمراسلات، بعد اطلاعه على أرشيف أجنبي مهم يوثق لحقبة من تاريخ المخزن المغربي.

يقول د. بياض في تحليله: «ينطلق القائد في رهاناته من استغلال قوته ونفوذه المدعم من طرف المخزن المركزي، فيحتجز أموال الجبايات ويفرض مختلف أنواع السخرات والإتاوات، فيرفل في نعيم داخل بلاطه على الطراز السلطاني لا يعدم حاشية، ولا جواري، ولا عبيد، ولا مظاهر زينة ومباهاة أو خيرات لا يجرؤ أحد على عدها، قبل التنكيل به بعد إخفاقه في ما أوكل إليه من مهام. أو تمرد قبلي ناتج عن إمعان زائد عن حده في الشطط، فبقدر ما كان عنف القواد قويا كان العنف المضاد الذي يولده أقوى. فسلطتهم وإن مكنتهم من حياة الترف والجاه، فإنها لم تؤمن لهم دوام الحال، إذ لم يكن غريبا أن ينتقل العون من القيادة إلى السجن، ثم منه إلى القيادة مجددا. بل يبدو أن هذه خاصية عامة لتعامل المخزن مع معاونيه».

بعض هؤلاء المخزنيين جرى الانتقام منهم، رغم أهمية المناصب التي كانوا يشغلونها، إما بسبب الفساد أثناء عملية جمع الضرائب، أو بسبب امتناعهم عن المشاركة في عمليات نهب الضرائب وإلحاق الخسائر بخزينة الدولة.

وتوجد في أرشيف الرسائل المخزنية، رسالة تكشف الوجه الآخر لمعاناة واحد من خدام الدولة.

الرسالة، التي كُتبت سنة 1885 منسوبة إلى الأمين بن التهامي المديوني، وهو أحد الذين اشتغلوا في «دار الضريبة»، ويشتكي فيها إلى السلطان الحسن الأول مباشرة من المضايقات التي طالته.

وجاء فيها:

«وبعدُ فإني أنهي إلى علم مولانا الشريف أني رجل وحداني ولي أولاد صغار لم يسعني التسوف عليهم وما حضرت مجلس مولانا العالي بالله عند تعيين الأمناء والأشياخ لقبيلتنا حتى وافاني الظهير بالخدمة الشريفة مع جملة من تعيين الأمناء والأشياخ. فعليه، فقد بذلت مجهودي في خدمة مولانا وما قصرت في ما أمرت به من الجانب العالي بالله، حتى ضيعت أولادي في ما لا بد منه من المؤن والكسوة وغير ذلك، سيما أني رجل أمي لا أفقه في الكتابة والتقييد والحساب وما يحتاج إليه الكناش. ولا قدرت على الخدمة. وعليه، فنطلب من سيادة مولانا الإمام أن يريحني من هذه الخطة ويمنحني مقابلة أولادي وأنا في حرم الله والنبي.. (..) وأن تمتعني بالأمان دام الله عزك. وأطلب من مولانا الإمام أن يمن علي بظهير شريف فيه التوقير لي ولأخي عبد الفضيل، وبه وجب إعلام مولانا نصره الله..».

يمكن القول إذن إن طلب إعفاء هذا المخزني، لا يمكن إلا أن يكون نهاية لمجده في سلك المخزن. لم تكن الاستقالة معمولا به، ولم يكن حتى موظفو المخزن يعرفونها. المناصب المخزنية لا يُستقال منها، وهذه قاعدة جرى بها العمل منذ القدم.

وبتحليل الأحداث التاريخية لتلك الفترة، يتضح جليا أن صراع توريث المناصب، خصوصا في مجال استخلاص الضرائب، كان يتحكم في التعيينات والإعفاءات. وأحيانا، كما في هذه الحالة، يكون طلب الإعفاء أقل الخسائر التي قد يتكبدها المسؤول في سلك المخزن.

 

عندما حذر المولى الحسن الأول معاونيه من عقوبة الفساد

عُرف عن السلطان المولى الحسن الأول اهتمامه باللغة العربية وكتابته لخطبه بنفسه. إن هذا السلطان العلوي الذي توفي سنة 1894، وترك المغرب في وضع ممانعة ضد التدخل الأجنبي المباشر، وتسبب في تأخر الفرنسيين في التغلغل إلى البلاد، كان يقضي أغلب أشهر السنة متنقلا فوق حصانه ما بين مراكش وفاس، ووصل إلى الصحراء عندما بايعته القبائل بيعتها الشهيرة، التي تُعتبر الآن أحد أقوى الأدلة التاريخية والدبلوماسية على سيادة المغرب على الصحراء.

كان السلطان محاطا بثلة من الأسماء الوازنة في العلوم الشرعية، وأوكل إليهم القضاء والفتوى وتنظيم تحصيل الضرائب وجمع الزكاة. وفي عهده أيضا، عاش علماء القرويين جدالات سياسية كبرى، بعد أن خصص لهم كراسي في مجالسه الاستشارية.

في واحدة من الخطب النادرة المنسوبة للمولى الحسن الأول، والتي جمعها كل من المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، وأيضا عبد الكريم الفيلالي في موسوعته عن تاريخ المغرب، خاطب المولى الحسن الأول كبار المسؤولين في دولته، في سياق حرج، يتعلق بمسألة الفساد في القضاء واختفاء أموال الضرائب، وتوصله بشكايات تتعلق بتعسف بعض من يمثلونه، خصوصا القضاة، وغضهم الطرف عن الشكايات التي يتوصلون بها ضد الموظفين أثناء تحصيل الضرائب من القبائل. لقد كان الأمر يشبه انقلابا مصغرا داخل الدولة، تواطأ فيه بعض موظفي العدلية مع جباة الضرائب. فثار المولى الحسن الأول ضدهم جميعا في رسالته إليهم، والتي يمكن اعتبارها بداية حملة تطهيرية في عهده:

«وبعد.

فقد بلغنا من أخبار متعاضدة، وطرق عن التحامل متباعدة، أن خطة القضاء والإفتاء صارت ملعبا ومتجرا. لا يعرف أصحابها فيها سآمة ولا ضجرا، وأن الرشا فيها تقبض سرا وعلانية، والأحكام تصدر بنية وبلا نية. قد عدل فيها عن منهاج العدل، من غير اكتراث بتأنيب ولا عذل، والحقوق نزلت بمعرض الضياع، والمراتب المعظمة بهذه البقاع. صارت كسراب بقاعٍ. وأن بعض القضاة حمله ما حمله إلى التطاول للدعاوى البعيدة منه واستجلاب القضايا المصروفة عنه. مع العلم بأن من صرفت عنه قضية، قد صرفت عنه بلية، لو لم يكن الغرض الدنيوي الذي أغراه، والشره الذي استحوذ عليه وأغواه، حتى ظهرت على القضاة أمارات الغنى والرفاهية، هذا مع أننا بالغنا في اختياركم لتطهير الصحيفة وإبعاد ساحة الشريعة من الأمور الشنيعة المخيفة، واختبرنا وخبرنا وانتقينا وأبقينا، ولكن صدق الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم: «الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة». إني لأفتح عيني حين أفتحها فلا أرى أحدا. فإذا كان أهل العلم تصدر عنهم هذه الفعال، فأي شيء تركوه للجهال، وإذا كان منصب الشريعة تحاز به الدراهم وتبدو من جانبه الرفيع هذه الأباطيل، فأي ملام يتوجه على عامة الناس، على اختلاف الأنواع والأجناس.

واعلموا أننا بحول الله لا نزال نبحث عن أحوالكم بالتنقيب والتنقير، ونعاملكم بالتحذير قبل التعزير، وباللين ثم الجد، وبالصفح ثم الحد، لأن الله كلفنا بكم، وسائلنا عنكم. وأمور الشريعة عندنا أهم من كل مهم. وما على هذا من مزيد، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى