شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصة مسرح كاريان سنطرال وقمع الفرنسيين للمسرحيات واعتقال مدير الفرقة

حياة في ظِلّ ملِكين

 يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

حتى وإن كانت واقعة مجزرة كاريان سنطرال جرحا لا يندمل من الذاكرة، فإن «ندوبا» أخرى، بحلوها ومُرها، تركت أماراتها في نفوس كل الذين عاشوا في الدار البيضاء قبل الاستقلال.

فكرة اللجان، التي نظمها حزب الاستقلال وأنشطتها داخل «كاريان سنطرال»، كانت عالما مُتكاملا انتشلنا نحن السكان من الاستسلام لتلك الظروف العصيبة التي كنا نعيش فيها وسط ألواح الزنگ ومظاهر البؤس وغياب البنيات التحتية.

كان المرض يتصيد ضحاياه سنويا، لكن خبرة المُسنين، القادمين من كل أنحاء المغرب تقريبا، لعبت دورا كبيرا في مواجهة الأمراض بالطرق التقليدية.

ومن بين ما كنا نروح به عن أنفسنا، ونُبدد به ضجر الأيام وقتامة المشهد، السخرية من مُحيطنا، ثم الانشغال بالمسرح.

 

الفِرقة التي كانت..

للأسف لم يهتم الباحثون بتاريخ مسرح المقاومة، رغم أنه أنجب قامات شامخة وأسماء توارت سريعا إلى الظل، إما بموت أصحابها وهم يدافعون عن استقلال البلاد، وإما بانقضاء أجلهم دون أن يتم تدوين ما عاشوه من أحداث.

ممثلون كالمقاوم عبد الكبير السرغيني، ومحمد بلحرشة، الذي كان مديرا للفرقة. وقد كان رجل تعليم، ويشتغل مُدرسا، ويحظى بتقدير كبير وسط الشبان ولديه خبرة في التأطير.

كانت الأمسيات، التي تُلعب فيها المسرحيات، مشهودة في تاريخ «الكاريان»، ولا تختلف في شيء عن ليالي الأعياد والمناسبات. لا عُذر لأحد من سكان «الكاريان». الجميع يحضرون العروض المسرحية التي كنا نُقيمها في الهواء الطلق، بل إن الحاضرين يتفاعلون مع المسرحية، ويغرقون ضحكا، رغم المآسي المُحيطة بهم، ثم يجهشون بالبكاء، بعد دقائق قليلة فقط، عند مشهد حزين يتعرض المُمثل فيه للظلم أو تُسلب أرضه. فقد كان هذا المقطع، بالضبط، يحاكي ما وقع لأغلبهم في البوادي، عندما سلب المعمرون أراضيهم، واضطروا لتوديع منازلهم الفسيحة والاستقرار «هُنا» وسط الصفيح على هامش الدار البيضاء للعمل في المعامل.

الفُرن الذي اكتريتُه من صاحبه، عند وصولي إلى كاريان سنطرال، كان البؤرة التي انطلقت منها فكرة المسرح. لا أذكر بالضبط السنة التي تأسست فيها هذه الفرقة المسرحية، لكن الأكيد أنها أنشئت ما بين سنتي 1949 و1950.

كل الذين يوجدون معي في الفُرن، من شغيلين وحرفيين، كانوا منخرطين في حزب الاستقلال، وعلى وعي بالقضية الوطنية. وكنا نقضي وقتا طويلا داخل الفرن، وهو ما سمح بأن تتوطد بيننا علاقة مميزة، ونتبادل القفشات والنكات، كلّ حسب خلفيته الثقافية والوسط الذي جاء منه. السوسي والعروبي والشرقي والغربي.. كنا جميعا على قدم المساواة.

لكن السبب الرئيسي وراء تأسيس هذه الفرقة أن النقابة اقترحت أن تتأسس فرقة مسرحية، مهمتها أداء مسرحيات وطنية أمام سكان كاريان سنطرال لرفع منسوب الوعي الوطني لديهم، وتوعيتهم بحقوقهم باعتبارهم عمالا في مصانع أغلبها يملكها أو يُسيرها فرنسيون.

وهؤلاء العمال أغلبهم أميون ولا يعرفون حقوقهم، وتتوصل النقابة دائما بشكايات من قبيل تأخر دفع الأجور أو عدم أدائها كاملة لفائدة العمال.

تيمة «العامل المظلوم»، ولا زلت أذكر هذه العبارة حرفيا، هي الفكرة الأساسية التي تدور أغلب المسرحيات التي «ارتجلناها»، في فلكها.

كانت الفرقة التي أسسناها هي الأولى من نوعها، وتلتها بعد ذلك فرقة مسرحية أخرى شارك فيها شبان آخرون.

 

سكوت.. سوف نبدأ

عندما يُعلن عن توقيت مسرحية جديدة، فإن الزمن يتوقف حرفيا داخل الكاريان، وخارجه أيضا. كان الناس يأتون من أحياء الدار البيضاء الأخرى، درب غلّف ودرب السلطان.. لمشاهدة المسرحية. «هرج» كبير، نجد أنفسنا في قلبه وأغلبنا لم تكن أعمارهم تتجاوز العشرين.

في النهار نكون مطمورين تحت غبار دقيق الفُرن، وفي المساء نعيش النجومية ويحفظ كل سكان «الكاريان» وجوهنا.

أحيانا ألعبُ دور المُعمر الذي جاء ليسلب الفلاح الفقير أرضه، وأحيانا أخرى ألعبُ دور مُعلم يبحث عن زوجة ويأتي ليخطب تلميذة عنده من أهلها. وأحيانا أخرى أؤدي دور موظف الضريبة -«الصنْك»- وأُمنح حقيبة جلدية أحملها أثناء المسرحية، وأؤدي دور هذا الموظف مستعرضا السلطة الكبيرة التي كانت مفوضة له في السوق لاستخلاص الضريبة من الخضارين والجزارين والحرفيين.

لم يكن هناك نص مسرحي، أو تدقيق في الأدوار بالمعنى الاحترافي للمسرح.

كنا نجتمع أياما قبل المسرحية، وأحيانا ليلة فقط قبلها، ونوزع الأدوار ويستعرض كل واحد منا الدور المنوط به. وتبقى «شطارة» كل واحد منا، كل وموهبته ولهجة منطقته، لكي يضفي التوابل على الشخصية التي سوف يلعبها.

المهم أن تؤدي المسرحية دورها التوعوي بمشاكل العمال في المصانع ومشاكل سكان الكاريان.

يتم تحديد المكان الذي سوف نلعب فيه، وغالبا ما يقع الاختيار على أرض شاسعة ملاصقة للكاريان، ويشكل المتفرجون حلقة واسعة، ونلعبُ نحن في الوسط.

وما أن يشيع خبر موعد المسرحية، حتى يأتي كل سكان الكاريان قبل الموعد، ويأتي متفرجون من خارج الكاريان.

والمثير أن المتفرجين كانوا غاية في الرقي، فقد كانوا يصمتون، بل ويتخشعون مع المسرحية من أولها إلى نهايتها. و«تشرئبّ» الأعناق لمتابعة حركات الممثلين طيلة مدة المسرحية.

عندما يلعب بلحرشة دور العامل المظلوم الذي سلب المعمرون أرضه، كان يملك أحاسيس الناس وتعاطفهم. ما أن يبدأ في ترديد عبارة: «حرام».. «حرام».. ويخر أرضا، حتى يجهش الناس بالبكاء. وكان قادرا على أن يُبكي الحاضرين في كل مرة تؤدى فيها هذه المسرحية.

كانت المسرحيات تتضمن دائما مشاهد عن تعرض أحد الممثلين للظلم على يد المُعمرين. والذي يؤدي دور المُعمر اليوم، يؤدي دور المقاوم أو الفلاح المقهور في المسرحية المقبلة. كان هناك تبادل دائم للأدوار. والعجيب أن الناس داخل الكاريان لم يكونوا يحملون ضغينة للممثل الذي يؤدي دور الظالم، عكس ما كنا نتوقعه في المراحل الأولى التي لعبنا فيها المسرح.

وشخصيا أديت مرات كثيرة دور المُعمر الذي يأتي لكي يسلب الناس أراضيهم، وأردد كلمتين بالفرنسية، وأتمشى بين الحاضرين بعجرفة وكأنني «فرنسي»، وفي المسرحية المُقبلة أؤدي دورا آخر «من الضفة الأخرى» تماما.

كنا نتجنب التكرار، ليس حتى لا يملّ المتفرجون، ولكن لكي نعالج أكبر عدد من المواضيع التي تهم سكان الكاريان وتلامس واقعهم المعيش.

لا حاجة طبعا لأقول إننا لم نكن نملك مكبرات صوت. كان «الغوات» وسيلتنا لإيصال مضمون الأدوار التي نلعبها إلى آذان الناس. ولا يمكن أن تمر مسرحية دون أن تتخللها زغاريد النساء. كانت الزغاريد ركنا أساسيا في كل مسرحية، وكأنها فاصل بين الفصول، فصلا بفصل.

ما أن تبدأ المسرحية، حتى ترتفع الزغاريد بين الفينة والأخرى، ويرتفع الصياح تارة بالأمازيغية وتارة أخرى بالدّارجة.

وعندما يظلم الممثل الذي يؤدي دور المُعمر، الممثل الذي يؤدي دور العامل البسيط، يصيح المتفرجون: «الفرانسيس ولد الحرام».. ويعلو الصياح، ثم يعود الهدوء من جديد لكي يتابعوا بقية «أطوار» المسرحية.

كانت هذه أجواء لعب المسرحيات، حاولتُ أن أقرب الأجيال الجديدة منها قدر الإمكان. وآسف كثيرا لأن هذه اللحظات لم تُوثق بالصور. من كان يملك آلة تصوير في ذلك الوقت؟ كان الناس بالكاد يصارعون الحياة للظفر بكسرة خبز، وهمهم إطعام الأفواه الجائعة داخل البراريك. لا تزال وجوه الكثيرين منهم تحضرني الآن، وكانوا يشكلون فعلا أساس الحياة داخل «الكاريان».

 

 

قمع المسرحيات

في إحدى المرات تعرض صالح المسكيني للنفي على يد الفرنسيين، وكان هذا المقاوم يشتغل رئيسا للعُمال في معمل السكر ويحظى بشعبية كبيرة في الكاريان. نُفي إلى منطقة «گلميم»، في إطار حملة الأمن الفرنسي ضد عدد من المقاومين والوطنيين من مختلف الطبقات والانتماءات، وأنجبت زوجته مولودا وزوجها في المنفى، فقررنا جميعا أن نحتفل بالمولود في غياب والده، وأصبح هذا «السبوع» الحدث الأبرز في الكاريان ذلك اليوم. وهذا الابن، الذي وُلد عندما نُفي والده، صار محاميا كبيرا وشق طريقه..

تقرر أن نحتفي به بأداء مسرحية تليق بالمناسبة، وتحيي لدى الناس أهمية العمل النقابي وضرورة الدفاع عن حقوق العمال.

غرق المكان في التصفيق. كانت تلك الأمسية بالضبط واحدة من أكثر الأمسيات تأثيرا في حياتي داخل الكاريان. وبكى المتفرجون عندما ردد الممثلون: «هذا هو الظلم».. «هذا هو الظلم».. إذ استحضروا ما تعرض له رئيس العُمال في معمل السكر.

لكن ما وقع يومها لم يكن في الحسبان. فقد طوق الفرنسيون مكان المسرحية، واعتقلوا مدير فرقتنا، بلحرشة، واقتادوه معهم، وتعرض للضرب. وما أكثر المرات التي تعرض فيها المسكين للضرب على يد البوليس الفرنسي.. لكنه بقي مخلصا للفرقة وبقي «مديرا» دائما.

لم تكن المسرحيات وحدها ما يقمعه الفرنسيون داخل الكاريان، فقد كانوا مُدركين أن الحي كان معقلا للأنشطة النقابية، وأن المسرح لم يكن إلا وجها من أوجه تلك الأنشطة.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى