قصة طويلة جدا
يونس جنوحي
لا شيء يبقى على حاله. هذا أمر مؤكد. كل شيء يتغير في هذا العالم، إلا المحلات القديمة لبيع الكتب والتحف وأجهزة الراديو تبقى على حالها، ويتجمد عندها الوقت رغم أن بعضها يبيع الساعات.
ربما يجتمع هنا في طنجة، ما لا يجتمع في غيرها من المدن من محلات لبيع الأغراض القديمة، من جهات العالم الأربع، الله وحده يعلم كيف وصلت إلى المغرب واستقرت في محل صغير لا تدخله لا الشمس ولا الطبيب.
بإمكانك هنا اقتناء ساعة يدوية تعود لسنوات الخمسينات، من طراز فرنسي من تلك الطرازات التي كانت متداولة أيام الاستعمار، ومعها وصل من المحل الأصلي الذي بيعت منه قبل ستين سنة. كما يمكن أيضا الحصول على كتب قديمة بلغات كثيرة، هي إرث تُرك مهجورا في المنازل التي كانت ذات زمن في ملكية أوربيين عاشوا في طنجة.
إيطاليون وألمان وهولنديون وحتى روسيون، وبالطبع إنجليز وفرنسيون، شكلوا النواة الأولى للجالية الأوربية التي جعلت مدينة طنجة تستحق لقب «الدولية» الذي بصم تاريخها.
الكتاب بعشرين درهما، وربما أقل. ويمكن أن يحتوي على مذكرات شخصية من الشخصيات الكثيرة التي عاشت هنا وحلمت باستكشاف المغرب، كما يمكن أن يحتوي على مقالات أكاديمية أو دراسة أدبية باللغة الإيطالية وربما حتى وصفات أدوية أو لوائح لا أحد يعلم إلى أي عالم تنتمي. لكنها في الأخير تشكل معا تاريخ شمال المغرب الذي لم يُدون بشكل رسمي.
استوقفتني قصة طريفة لطبيب بريطاني، وجدت كتابا يناقش بعض مقالاته، الموقعة باسم «هاندسون». اقتنيته بعشرة دراهم فقط لا غير. الكتاب يتحدث عن مشروع تقدم به هذا المواطن البريطاني إلى المفوضية البريطانية سنة 1910، يتعلق بمشروع إقامة مستشفى كبير يطل على البحر الأبيض المتوسط لعلاج المرضى المغاربة، مشددا على أن توفير الرعاية الطبية الحديثة لسكان المغرب القدامى، في الشمال على الأقل، من شأنه أن يشكل حماية استباقية للمقيمين الأوربيين ضد الأمراض المُعدية.
لكن الطريف أن صاحب المشروع عبّر أن أسفه لعدم احتضان قنصل بلاده للمشروع، مخبرا إياه أن على الدول الأوربية الأخرى أن تقلق أيضا بشأن السلامة الصحية لمواطنيها وأنه لا يتعين بالضرورة على الإنجليز حماية الجميع، خصوصا «أولئك الألمان».
وعلى ذكر الألمان، توجد حديقة صغيرة، غير بعيد عن ساحة 9 أبريل، تضم قبور مواطنين ألمان لا بد أن قصة دفتهم في مكان عام، يجب أن تكون مثيرة. والأكيد أن السفير الألماني في الرباط لا يعلم أن مواطني بلاده المدفونين في حديقة عمومية تجري هيكلتها مؤخرا، يجاورون عابري السبيل والراغبين في الهجرة السرية والجياع، وأحيانا حتى الراغبين في تدخين لفافة حشيش بعيدا عن أعين المارة. وهكذا يتعين على هؤلاء الموتى أن يسمعوا الموسيقى الرديئة التي تحتوي أحيانا على «كلمات» وضيعة، وحتى نقاشات السماسرة، ويحدث كثيرا أن تُغطى تلك القبور بأطراف الكارتون كما لو أنها مجرد صخور، بينما يتعلق الأمر بشواهد قبور مكتوبة باللغة الألمانية وتحمل أسماء مواطنين ألمان عاشوا في طنجة، في نفس الفترة التي كان فيها الطبيب البريطاني قلقا على صحتهم جميعا!
الموت أطول قصة قصيرة يُمكن أن تُكتب عبر التاريخ. قصة طويلة بكلمة واحدة: «مات». أو «دُفن». وفي انتظار أن تعلم وزارة الثقافة بوجود مثل هذه المحلات التي تنوب عن وزارة بكاملها في رعاية البصمة الثقافية والتاريخية للمدينة، ومثل تلك القبور المنسية في مدينة كل حجر فيها يحمل تاريخا مثيرا، لا نملك إلا أن ننتظر تماما كما انتظر الطبيب بناء ذلك المستشفى الذي لم يُكتب له أن يولد، للأسف.