شوف تشوف

الرأي

قصة صورة

تداولت بعض مواقع التواصل الاجتماعي خلال اليومين الأخيرين صورة لي مع بطل الملاكمة الأسطوري محمد علي كلاي، الذي توفاه الله أمس الأول (السبت 4 يونيو). في الصورة ظهر صاحبنا ممددا على سرير في حين جلست أحادثه وأدون ردوده في نوتة بسطتها على طرف الفراش. والصورة حقيقية وليس فيها أي تركيب أو ادعاء. وقصتها التي سئلت عنها كالتالي: كنت قد اضطررت للانتقال إلى الكويت والالتحاق بمجلة «العربي» بعدما غضب مني الرئيس السادات في منتصف سبعينيات القرن الماضي (وتلك قصة أخرى). آن ذاك اقترحت على الأستاذ أحمد بهاء الدين، رئيس التحرير تطوير استطلاعات المجلة من خلال تقديم أقطار العالم الإسلامي بعدما أنجزت الكثير في التعريف بالعالم العربي. وهو ما تحمس له وشجعني عليه. دفعني ذلك إلى إعداد خطة التنفيذ التي كانت زيارة بنجلاديش ضمن أهدافها. ذلك أنني وجدتها بلدا فقيرا ضم 150 مليون نسمة، واستقل حديثا عن باكستان (عام 1971)، لكننا لم نكن نعرف الكثير عنه.
حين وصلت إلى «دكا» في شهر ديسمبر عام 1971 فوجئت بأن الناس في العاصمة لا يتحدثون إلا عن زيارة مرتقبة لمحمد علي كلاي، الذي كان آنذاك مالئا للدنيا وشاغلا للناس. (لم أكن أعرف أن بنجلاديش عينته قنصلا فخريا لها في شيكاغو) وأثارت دهشتي الترتيبات التي أعدت لاستقباله رسميا وشعبيا. لم تكن الحشود وحدها التي لفتت نظري لكن شكل الجموع التي اصطفت على جانبي الطريق للحفاوة بوصوله ضاعف من شعوري بالدهشة. ذلك أنني ظللت أتساءل وأنا أراقب زحف الآلاف صوب المطار: ما الذي يدفع تلك الجموع الغفيرة التي تعاني الفقر والجوع والمرض لأن تنسى معاناتها وأحزانها، وأن تخرج لاستقبال ذلك البطل الأمريكي القادم من الطرف الآخر للكرة الأرضية. فأكثر الذين خرجوا كانوا حفاة ضامري الجسم، يرتدون ثيابا تستر أجسامهم بالكاد. لكنهم جميعا بدوا في منتهى الحماس والبشاشة، كأنما كانوا ذاهبين لاستقبال عزيز اشتاقوا لرؤيته بعد طول غياب.
سألت أكثر من واحد عن سر تلك الحفاوة، فكان ردهم أن محمد علي نموذج للبطل المسلم الذي لا يقهر. بعضهم امتدح البطولة فيه وكونه لم يهزم في مسيرته، والبعض الآخر حدثني على أخلاقه ومواقفه التي أضافت «النبل» الأخلاقي إلى فضائله.
كان معي زميلي المصور المخضرم أوسكار متري، فقلت له إننا أمام فرصة ذهبية لإجراء حوار مع الرجل. حينئذ سألني أوسكار: هل لك في الملاكمة؟ فقلت إنني كرهتها منذ الصغر. واعتبرتها رياضة غير إنسانية، لكن محمد علي كلاي حببني فيها بعدما حولها من مصارعة بالعضلات إلى فن وثيق الصلة بخفة الظل والذكاء. ورويت له قصة كراهيتي للعبة التي خلاصتها أنني في بداية المرحلة الثانوية بحلوان جربت الملاكمة، وفي أول محاولة لي لكمت الطرف الآخر في وجهه فنزفت أنفه وغرق في الدم. فقررت مخاصمة اللعبة. وكان غريمي زميلا في الدراسة هو وفائي شاكر الذي صار فيما بعد وكيلا لوزارة التجارة وتوفاه الله قبل عامين.
على باب جناحه بالفندق طلبت مقابلته. فرد عليّ مرافقه بأنه متعب للغاية وبرنامجه مزدحم وليس لديه وقت لأي لقاء صحفي، قلت له إنني مصري أعمل مديرا لتحرير مجلة ثقافية كويتية مهمة في العالم العربي، وقد أوفدتني المجلة خصيصا لمقابلته (ولم يكن ذلك صحيحا). غاب الرجل لحظات ثم دعاني وأوسكار متري للدخول عليه، فوجدته مرتديا ثيابه كاملة وممددا على سريره في حين أخفت النظارة عينيه. بعد مقدمة التعريف قلت له هل لاحظت الحشود التي خرجت لاستقبالك، وقبل أن أكمل السؤال قال: هؤلاء مسلمون من أهلي. كان يتكلم بصوت هادئ وقد بدا عليه التعب الشديد بعد الرحلة الطويلة التي قطعها بالطائرة، عقب آخر هزيمة له دفعته إلى الاعتزال بعد ذلك، تبادلنا الحديث الذي نشرته مجلة «العربي» لاحقا. وفي النهاية سألني: هل ستحضر المباراة التي ستقام في الاستاد؟ ــ لم أكن على علم بالخبر فأكدت له أنني سأكون بين الحضور. حين أخذت مكاني بين ألوف المحتشدين. وجدت الرجل يتراقص ويتقافز على الحلبة وهو يسخن نفسه لمواجهة غريمه الذي تصورت أنه سيكون بطل أبطال الملاكمة في بنجلاديش. لكنني فوجئت بصبي نحيف دون الخامسة عشرة من العمر يقف أمامه متحديا. وما أن رآه كلاي حتى اصطنع الرهبة وتراجع خطوتين إلى الوراء كأنما أخذ بظهوره. وحين دق الجرس إيذانا ببدء الحلقة، اندفع الصبي نحوه وظل يكيل له الضربات بيمناه ويسراه، وصاحبنا يرتد إلى الوراء مع كل ضربة ويحني ظهره موحيا بأنه يوشك على السقوط. والناس مندهشون لما يرونه. وبعد قليل تقدم محمد علي نحو الصبي وحمله فجأة على كتفه وهو يضحك ثم ضربه بكفه على مؤخرته كأنما يهدهده ثم طرحه أرضا، وسط قهقهات المشاهدين وتصفيقهم وصفيرهم. رحمه الله وأجزل مثوبته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى