قصة سفر شقيق الخطابي إلى فرنسا وبدء استعمال إسبانيا للقنابل المسمومة ومحاولة اغتيال الأمير

وجد في المراكز المختلفة نحو مائة وخمسين من المدافع مختلفة العيار والبعض منها من الطراز القديم، والكثير من عيار خمسة وسبعين ومدافع الجبل ونحو خمسين من الميترايوز وما يقرب من 6000 من قرطوس المدافع المختلفة، وبعض الملايين من القرطوس الرقيق للبنادق موسير وعدد من الأخبية، ونحو عشرة آلاف من البنادق موسير. ولكن لم يجتمع هذا العدد عندنا لأن الريفيين حازوا ذلك لأنفسهم. وعلى كل بقي هذا العدد كله وذخائر أخرى في الريف واستهلك في الدفاع عن الريف على وجه الإجمال. نعم يلزم أن نقول إن أكثر البنادق كان مستخدما فلم يعد صالحا لتسديد الرمي ومفعوله كان ضعيفا. هذه هي الحقيقة في نكبة أنوال وأسبابها فلنترك الحكم للقارئ في فهم من يتحمل المسؤولية.

رجوع الإسبنيول إلى الريف وإنشاء الخط الغربي

بينما كنا ننتظر المخابرة مع إسبانيا بعد نكبة أنوال في المفاهمة وكيفية تأسيس صلح على أساس معقول، إذ وردت الجرائد بلهجة شديدة حملت إسبانيا كلها على وجوب انتقام سريع ولزوم احتلال أجدير واسترجاع الأسارى بالقوة وتأكد عندنا ذلك بصفة لا تحتمل الريب واستدعت الرديف الأول لتجريد حملة قوية تربو على مائة وخمسين ألف مقاتل مسلحة بجميع الآلات العصرية والمدافع الضخمة، وأنزلت فعلا الآلاف من الجيش معززا بالطيارات العديدة. ورأيت مع ذلك أن عدد المقاتلين من الريفيين لا يقدر على مقاومة جزء واحد من تلك القوة، أسرعنا إلى إنشاء خط غربي لمشاغلة الإسبنيول من تلك الجهة، وقد كانت غمارة أرسلت بعثة من الرؤساء تطلب النجدة من الريف بعد نكبة أنوال، فانتهزنا هاته الفرصة وذب الأخ مع 1000 مقاتل من الريفيين إلى غمارة التي كانت لا تطيق وحدها الوقوف في وجه الإسبان فيما إذا هاجمهم من تلك الجهة، بما كان فيهم من الاختلاف وتغلب الحزب الإسباني الذي كان فيهم. وعند وصول الأخ لهاته القوة تقدم لقاع سراس لإنشاء خط تجاه المركز الإسبنيولي وقضى على حزب الخونة بالتشتيت، فجرت هنالك معارك دموية جدا لأن الجيش الإسبنيولي خرج إليهم عندنا من تلك المراكز. ولكن لم يكن عنده هجوم مفيد من تلك الجهة التي كنا نخافها ونخشى عاقبتها إذا تغلب في تلك الواجهة، إذ يكون الريف مهددا من جهتين. ولما رأينا أن لا هجوم عنده في تلك النواحي، ومن جهة أخرى كانت غمارة لا تزال مختلفة الكلمة بسبب الارتشاء من الإسبنيول أقفل الأخ راجعا من الريف الغربي. أما الإسبنيول فوجه جميع عنايته إلى الريف فأخذ يسترجع تلك المراكز واحدا بعد آخر وتغلب على القبائل التي كانت ثائرة عليه وصار يهدد الريف نفسه.

ذهابي لورغة ومقصودي منه

لما رأينا أن الإسبنيول يصرح بالانتقام وبالقوة المشار إليهما سابقا، خطر ببالنا أن نطلب نجدة من القبائل الجنوبية المجاورة مثل بني عمرت ومجاوريهم. وحيث إن تلك القبائل كانت ألعوبة بيد عبد المالك الذي كان يصرح بعداوة فرنسا والريفيين ويصرح بمصافاة إسبانيا ذهبنا فعلا في قوة تناهز 800 مقاتل. ولما وصلنا بني عمرت وجدنا نفوذ عبد المالك يقوى شيئا فشيئا وحاولنا إقناع هاته القبيلة ورؤسائها بسوء نية عبد المالك وأن عداوة فرنسا تجلب عليهم النقم وأنه من الواجب أن ننضم ونتحد للدفاع عن الريف المهدد من الإسبنيول، فساعدوا بعض المساعدة ولكن صرحوا بأن عبد المالك يأتيه المال من الإسبنيول وأنه يحول دون هاته الأمنية، فقلنا لهم لا تمكن المفاهمة مع عبد المالك نفسه، فأجابوا بنعم. وتقدمنا لمرنيسة وتفاهمنا أولا مع عمر بن حميدو المرنيسي لما كانت له من السيطرة على حزب من قبائل ورغة، فاقتنع ظاهرا ولكن أضمر الشر. ثم تقدمنا إلى سيدي علي بن داود حيث كان عبد المالك مقيما فامتنع عن المفاهمة معنا معتمدا على عمر بن حميدو الذي كان يعلم حقيقته وصار يروج هناك أننا نعمل بإيعاز من الفرنسويين، واستدل على ذلك بما صرحنا لهم من وجوب حسن المعاملة مع الفرنسيين ولزوم السكينة والتقرب إلى حكام المراكز، فكان هذا الترويج سبب إخفاق المساعي. نعم من جهة أخرى كنت أرى أن نتقرب من الفرنسويين ونصرح لهم بمقصودنا حتى يطلعوا على حقيقة الأمر وحتى يتسنى لنا طلب المساعدة والتسامح فانتهزت وجودي بورغة للاقتراب من المراكز وطلب الملاقاة مع بعض الحكام المجاورين، ولكن الظروف تغيرت سريعا من ورائنا في ورغة نفسها بخدمة عبد المالك وورود الخبر بتهديد الإسبان لخط دفاعنا في الخط الشرقي، فأسرعنا للرجوع ورأيت من الرزانة ألا أقتنع بأقوال المخبرين على حالة ورغة وأن أقف على ذلك بنفسي، فجعلنا طريق الرجوع على عمر بن حميدو، ولكن هذا لما رآنا نازلين على حدود بلاد مرنيسة أخبر عبد المالك حينا، فقدم هذا وأشياعه وعمر بن حميدو نفسه وأوقدوا نار الفتنة فأقفلنا راجعين إلى الخط الشرقي تاركين ورغة وما يتعلق بها. وفي الحين هجمت قوات مليلية على الخط الشرقي فاحتلته من غير مقاومة فاضطررنا إلى إنشاء خط جديد ووقف هجوم الإسبنيول.

سفر الأخ إلى باريز لمقابلة الحكومة الفرنسوية

اقترح علي الأخ أن يذهب إلى باريس بقصد المفاهمة مع حكومة باريس وإقناعها بالمصلحة الكبيرة التي لفرنسا في مساعدة الريفيين ولو بالمساعدة الأدبية، فاستصوبت هذا الرأي ووافقته، ولكن على شرط أن أخفي ذلك عن كل أحد، حتى عن الذي رافقه. فذهب عن طريق المغرب مختفيا إلى الجزائر ثم ركب البابور، وقد شعر الأخ بمساعدة خفية في الركوب من الجزائر وذلك في عهد الرجل العامل المسيو ستيك، الأمر الذي نشطه في مهمته. ولما وصل لباريس لم يجد قبولا رسميا ومكث هناك ينتظر ستة أشهر، وذلك على ما تحقق أن إسبانيا احتجت على وجوده بباريس فلم تساعدها الحكومة الفرنسوية على ذلك، ولكن لم نجد سبيلا إلى إسعاف الأخ في مهمته. وقد كان السيد أحمد بهلول واسطة بين الأخ ووزارة الخارجية وعمل جهده لمصلحة فرنسا إذاك وتلاقى الأخ بالمسيو بانلوفي بصفة غير رسمية، بل بصفته رئيس الحزب فقط. ودار بينهما حديث أعجب الأخ تعطفه نحو الريف. وهنا انتهت مهمة الأخ فرجع على طريقه إلى الريف.

معركة تفرسيت

لما كان المقصود الأهم عندنا هو الدفاع عن الريف من هجوم الإسبان وكانت إسبانيا عازمة على غزو الريف غير أنها كانت تتردد في كيفية الوسائل التي توصلها إلى غايتها، فطورا تختار السلاح المجرد وتارة تختار توليد المشاكل الداخلية واستمالة رؤساء القبائل بالمال ونشر المنشورات والاختلاقات وتأخير الاحتلال للفرص المناسبة، ونحن نعلم ذلك يقينا بواسطة جرائدها. كنا لا نألوا جهدا في تحميل إسبانيا الخسائر المادية التي تبعثها على قبول الصلح معنا، فرأينا من المناسب إنشاء قتال في تفرسيت، فوقعت معركة من غير استعداد بل بالصدفة لأن فرقة من حراسة الريفيين ذهبت لقطع التوريد عن الإسبان في حدود تفرسيت وتلاقى الفريقان ودامت المعركة ثلاثة أيام بتوارد النجدات من الطرفين، إذ ظن الإسبنيول أن الريفيين أرادوا القيام بهجوم عام. وفي هاته المعركة أخذ الإسبنيول يضربون بالقنابل المدفعية المسمومة وأرسلوا ابن سعيد للمخابرة في قطع البارود، ولكن كان ذلك دسيسة فقط، لأنني، بعد يوم من وصوله، أتاني شاب من أجدير بقارورة من السم واثنتين من القنابل اليدوية وأخبرني أن حاكم جزيرة النكور بمحضر إدريس بن سعيد دفع له ذلك بقصد جعل الديناميت للبيت الذي أنام فيه أو جعل ذلك السم في طعام آكله، وقال لي إنه دفع له عشرة دورو وبندقية وخمسين من القرطوس وقاوله بمبلغ من المال كبير إذا نفذ هاته المهمة، وكذبته وحسبت أن القارورة ليس فيها سم فجربته في إطعامه لحيوان فسقط في الحين. وقد كان إدريس لا يزال في جزيرة النكور فاستدعيته فتمنع أولا ثم أتى إلي، ولم أسأله عن ذلك لكن تحققت أن ذلك كان ولا شك فيه، فأطلقته بعد أن بحثته في قصده من هذا السفر وأخبرني أنه لأجل قطع البارود، فقلت له إن المعركة انتهت من دون مخابرة لأن الإسبنيول أخذ يضرب بالسم فذهب إلى الجزيرة ولم تمر له خمسة عشر يوما حتى سمعنا أنه قتله الإسبنيول ولم نعلم السبب.

عبد المالك

كان فاتنا أن نتكلم عن عبد المالك والوالد في ما يرجع لاختلاف نظريهما على خط مستقيم، وذلك لأن نظرية الوالد أيام إقامة عبد المالك في جزناية مدة الحرب الكبرى هي الإشارة على عبد المالك بالتخلي عن هذا العمل وركوب هذا المركب الخشن الذي ليس وراءه سوى الندم، وأن يوجه عنايته إلى التوازر مع الوالد في إصلاح الريف، وحتى تعهد له بأن يتوسط له في المستقبل مع دولة فرنسا في ما يرجع للأمان على شخصه إن هو ساعده. كرر عليه هاته النظرية مرتين فلم ير منه قبولا ولا رضى، بل بغضه في الحين وصرح له بأنه لا سبيل له لهذا العمل، فرجع الوالد من جزناية وانقطعت المخابرة بينهما من ذلك العهد.