شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصة البند المحذوف من معاهدة الحماية

كشفته رسائل لمولاي عبد الحفيظ واعترافات الفرنسيين بعد وفاته سنة 1937

يونس جنوحي

«فقد تعين إعلامك (..) القساوة التي عوملت بها، والإهانات التي تجرعت غصصها..

بادرنا بالكتب لرجال الدولة الجمهورية أسألهم السلم والصفح عن الذنب الذي ما اقترفناه، بتركهم سبيل أهلنا يمكن لنا نقلهم للشام أو مصر لقربهما من الحرمين الشريفين، والتخلي عن أموالنا وحقوقنا، فلم يفتح الله بشيء.

فجددنا الطلب مرارا فأجبنا شفاهيا لا كتابة بقبول العفو على شرط سكناي بباريز، فأجبناهم باستحالته شرعا، ومنافاته لقصدنا الأول من التخلية عن الملك، ما لم نحد عنه إلا للتمتع بكمال الحرية، فلم يلق جوابنا آذانا مصغية.

ثم وجهنا على أبنائنا بقصد صلة الرحم معهم، فأجبنا بالمنع، فظهر من ذلك أنهم أسارى وإن كانوا في غير حرب، وبموجبه قطعت المسنونة التي أوجهها التي لكم حتى يتبين هل هم أهلي، أم لا. ونفدت لهم من الدراهم التي استحقها بكوني من العائلة الملوكية وبالواجب الشرعية النصف ليكن لهم معه المعيشة».

الكلام هنا للسلطان مولاي عبد الحفيظ في رسالة إلى صديقه القاضي التطواني أحمد الرهوني، بتاريخ 10 شتنبر 1920، يشكو له فيها معاناته مع فرنسا.. في هذا الملف، نعرض القصة الحقيقية للخيانة التي تعرض لها السلطان والاحتيال الفرنسي الذي كلفه مستقبله.

 

محام فرنسي: «لقد فرضنا المعاهدة على السلطان فرضا»

ماذا وقع في الأسبوع الأخير من شهر فبراير 1912؟

استفهام كبير لا يزال، إلى اليوم، يحيط بكواليس توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912.

قبل التوقيع، جرت كواليس طويلة عريضة، اضطر السلطان بموجبها، إلى قبول الشروط الفرنسية.

يقول المحامي الفرنسي الشهير «بول بوتان»، في كتابه «مأساة المغرب»، جملة بليغة: «فرضنا المعاهدة على السلطان فرضا».

هذا المحامي، كان واحدا ممن وثقوا اعتمادا على المراسلات الوزارية الفرنسية الرسمية، لقضية الحماية. ولمح في كتابه أيضا إلى التحريف الذي مارسه بعض العسكريين، بعد توقيع واعتماد الحماية، عندما ألفوا مذكراتهم، وتجنوا على المغرب وعلى السلطان مولاي عبد الحفيظ وبالغوا في تمجيد ما أسموها إنجازات فرنسية عسكرية، في حين أن الأمر يتعلق بتحايل سياسي نبه إليه مولاي عبد الحفيظ، لكن لا أحد انتبه إلى دعواته، خصوصا وأنه كان يقيم خارج المغرب، وتعرض لمضايقات كثيرة من الفرنسيين.

ثم إن ما كتبه السلطان عبد الحفيظ بنفسه، في بعض الرسائل، منها ما هي موجهة إلى مسؤولين فرنسيين، يؤكد هذه الحقيقة. يقول السلطان في واحدة من هذه الرسائل التي نقلها الباحث المغربي محمد العربي الشاوش وتناولها بالبحث والتنقيب: ««إن شرف الإمبراطورية (المغربية) واعتبارها، واحترام تقاليدها، يلزم أن يبقى كما كان في الماضي كاملا غير منقوص، بحيث لا يمس بحال من الأحوال. والحكومة الفرنسية لا تجهل أن السلطة الحاكمة لم تزل موضوعة بين أيدي العائلة العلوية منذ أربعة قرون، فلا بد من أن تحفظ لها هذه الحرمة. واستلفت نظر الحكومة الفرنسية إلى الحقيقة الواقعة، وهي أن المغرب منذ الفتح الإسلامي لم ينضم إلى أية دولة أجنبية كمستعمرة من المستعمرات. وأنه منذ ثلاثة عشر قرنا لم ينقطع عن التمتع باستقلاله التام. ولهذا السبب نفسه لا يمكن أن تعتبر الإمبراطورية الشريفة في المستقبل أرضا مستعمرة». ولعل هذا النص يوحي بما شعر به مولاي عبد الحفيظ من سوء نية فرنسا نحو المغرب وأنه وضعها أمام مسؤولياتها المستقبلية».

ودليل آخر على خطورة معاهدة الحماية، وحقيقة التدليس والخداع الذي تعرض له السلطان أثناء توقيعها، يقول الباحث المغربي عبد الله العمراني في مؤلفه: «صور من ماضي الحماية»، وهو ينقل نصا فرنسيا تناقله الفرنسيون من محاضر جلسات البرلمان الفرنسي، بعد توقيع معاهدة الحماية بأشهر، جاء فيه ما يلي:

«.. وأخيرا أظهرت صك الحماية، وطلبت من السلطان أن يمضيه، فإذا أبى وماطل وهدد بالتنازل عن العرش، لم تقبل تنازله إلا بعد الإمضاء، وأخيرا، وفي الثلاثين من مارس 1912 أمضى الصك. وبعد أقل من أربعة أشهر (29 يوليوز) قام نائب برلماني في مجلس النواب الفرنسي ووصف اتفاقية الحامية بأنها «الاتفاقية الخطيرة، اتفاقية التدليس والغش والخداع»، وزاد فقرأ على النواب احتجاجا قويا صارما صادرا عن مولاي عبد الحفيظ، جاء فيه: «نؤكد أنه لم يسبق أن وقعت استشارة جلالتنا من قبل، ومن المعلوم أن المغرب دولة ذات مميزات تامة السيادة، ولا يمكن تحديد مصير سبعة ملايين من المسلمين دون النظر بعين الاعتبار إلى مشاعرهم السلالية والدينية، والواقع أن جنابنا الشريف يمثل شعبا لم يسبق استعماره قط، كما أنه لم يكن خاضعا لأي سلطة أجنبية، ولا مستعبدا من طرفها، ويتعلق الأمر بإمبراطورية ظلت متمتعة بكامل الاستقلال منذ قرون وأجيال».

قصة البند المحذوف من معاهدة الحماية والخيانة التي تعرض لها السلطان

لم يعد منكرا إذن أن السلطان وقع على اتفاقية الحماية يوم 30 مارس 1912، دون أن يكون مدركا لمضامينها كاملة، وأن ما عُرض عليه لم يكن ما تم الاتفاق معه عليه مسبقا. بل إنه خاطب الفرنسيين، كما يشهد الأرشيف، وأكد لهم ألا أحد استشار معه بخصوص ما جاء في المعاهدة، وأن هناك بنودا شدد على إرفاقها بنص الاتفاقية، تبخرت من النص، رغم أنه تلقى وعودا بتضمينها.

ومن أهم هذه البنود، أن تكون الحماية محددة بمدة تبدأ فيها وتنتهي، وألا تُترك مفتوحة.

أولى المؤامرات التي تعرض لها السلطان عبد الحفيظ، عندما فتح الباب أمام بعثة فرنسية جاءت لتبحث معه في قصر فاس، إمكانية إبرام اتفاق عسكري بين المغرب وفرنسا سنة 1911.

وكما سوف نتعرض لهذه النقطة لاحقا بالتفصيل في هذا الملف، فقد ظهر منذ البداية أن هناك سوء نية فرنسية وراء كل ما وقع.

يقول محمد المكي الناصري في مقالة له عن معاهدة الحماية بعنوان «معاهدة الحماية كما يرويها الأجانب»، ما يلي: «إن جلالة السلطان في جميع الظروف السابقة، سواء في فاس أو في باريس، وفي محادثاته الخاصة مع الجنرال مواني أعلن أنه إنما استدعى الجنود الفرنسيين ليعيدوا الأمن إلى فاس، وليساعدوا على حفظ الجاليات الأوروبية، وأعلن جلالته أنه مغتبط بالمعونة الخالصة التي قدمتها إليه فرنسا بالمساعدة التي بذلتها في ظروف شاقة، لكن جلالته أعلن في الوقت نفسه استمراره في عهدته السياسية على أساس عقد الجزيرة الخضراء، الذي يقوم في أساسه على مبدأ ثلاثي: أولا سيادة السلطان ونفوذه، وثانيا استقلال المغرب ووحدته، وثالثا المساواة الاقتصادية بين جميع الأمم، ولقد كانت في كل مناسبة سوف تبقى مخلصة له على الدوام».

اعتماد المكي الناصري على المراجع الأجنبية، أعطى صورة في ثلاثينيات القرن الماضي عما وقع للمولى عبد الحفيظ. إذ إن أفرادا من النخب المغربية، لم ينتبهوا إلى «المأساة» التي وقعت إلا بعد رحيل المولى عبد الحفيظ عن الحياة وهو في منفاه سنة 1937، ولم يعرف أغلبهم بقصة البند المحذوف، إلا بعد رحيل المولى عبد الحفيظ بسنوات. رغم أن هذا السلطان ظل ينادي في عدد من الرسائل، بضرورة إيصال ما وقع يوم 30 مارس 1912 إلى الأمة الإسلامية وكل دول العالم، للتعريف بالمؤامرة التي أدت إلى دخول فرنسا إلى المغرب بتلك الطريقة.

سبق للمولى عبد الحفيظ أن أرسل وزيره المقري إلى باريس، من أجل العمل على إجلاء القوات الفرنسية. وسبب إرسال السلطان وزيره إلى فرنسا، أن الفرنسيين كانوا قد وقعوا اتفاقا مع المغرب سنة 1910، بالضبط يوم 23 فبراير، أي سنتين قبل الحماية، يقضي بانسحاب وحدات الجيش الفرنسي من وجدة والدار البيضاء بشروط. لكن فرنسا لم تُبد أي استعداد للوفاء بهذا الالتزام وظلت قواتها حاضرة في المغرب، وبل وعُززت بوحدات إضافية!

انتبه السلطان إلى مناورة فرنسا مبكرا، لكن العُزلة التي عاشها، خصوصا في محيطه القريب، وانسحاب علماء القرويين والمدني الكلاوي الذين شجعوه على إدارة شؤون المغرب وفق اتفاق يقضي بقطع العلاقات مع الأوروبيين «الكفار»، كلها مسامير دقت على نعش تصور المولى عبد الحفيظ لمغرب 1912.

فرنسا كذبت على مولاي عبد الحفيظ.. ووزير خارجيته نفى طلب الحماية

منذ قرار بسط القوات الفرنسية والإسبانية في الدار البيضاء، بعد قصفها الشهير سنة 1907، لعبت فرنسا أولى مناوراتها مع مولاي عبد الحفيظ، بأن عممت بعض الصحف الفرنسية أن السلطان مولاي عبد الحفيظ قد راسل فرنسا وطلب منها إبقاء قواتها في الدار البيضاء وعدم إجلاء باخرة فرنسية كانت إلى جانب بارجة إسبانية، تؤمنان معا المكان، بموجب اتفاق إسباني فرنسي.

وبغرض تنظيم شروط بقاء القوات الفرنسية والإسبانية في الدار البيضاء المهدمة بالقصف الفرنسي الشهير، توجه وفد عسكري رفيع إلى فاس للقاء السلطان مولاي عبد الحفيظ. وهنا، اغتنمت الصحف المقربة من الحكومة الفرنسية الموقف، وأشاعت أن السلطان طلب من القوات الفرنسية بسط نفوذها على المغرب كاملا، وتوفير الحماية للسلطة. في حين أن النقطة الحقيقية التي جرت مناقشتها، وما زالت نصوصها وعناصرها متوفرة في الأرشيف الرسمي الفرنسي، تتعلق أساسا بتنظيم مخطط للانسحاب العسكري الفرنسي من الدار البيضاء، والذي لن يتحقق إلا بعد الانتهاء أولا من تكوين وتأطير جيش مغربي قادر عسكريا على حماية المدينة وتأمين المسالك، وضمان عدم وقوع تمرد قبَلي مستقبلا.

يقول الباحث المغربي محمد العربي الشاوش، الذي سبق له إعداد مرجع بحثي هام في تاريخ معاهدة الحماية وكواليسها، والذي نُشر سنة 1985 بعنوان «أسرار من موقف المولى عبد الحفيظ من معاهدة فاس»، إن السلطان عبد الحفيظ بادر إلى تكذيب الإشاعة الفرنسية تكذيبا قاطعا، حتى أنه كلف وزير خارجيته، الحاج محمد المقري، وطلب من المسؤولين الفرنسيين أن يُنشر التكذيب لكي يطلع عليه الرأي العام الفرنسي والدولي. وتكلفت وكالة الأنباء الفرنسية وقتها بنشر التصريح الذي نقله وزير الخارجية على لسان السلطان، والذي جاء فيه أن جلالة السلطان يقدر المساعدة الفرنسية، لكنه «يعلن في الوقت نفسه عن استمرار العلاقات المغربية الفرنسية على أساس معاهدة الجزيرة الخضراء». هذا التصريح تناقلته الصحف الفرنسية، لما له من تداعيات. فقد كانت شروط معاهدة الجزيرة الخضراء التي تعود إلى سنة 1906، واضحة في هذا الباب، واعترفت للمغرب بسيادته ووحدته الترابية منذ ذلك التاريخ.

رفض المولى عبد الحفيظ لما جاء في الصحافة الفرنسية من إشاعات بخصوص طلبه الحماية من فرنسا، كان في الحقيقة تمهيدا فرنسيا لجس نبض السلطان أولا، ثم الرأي العام الدولي ثانيا. وكان واضحا، من خلال الرد الرسمي الذي تلاه وزير الخارجية المقري، أن السلطان كان في البداية ضد الحماية. وهو ما يؤكده ما نُقل عنه على لسان عدد من العلماء المغاربة، أنه رفض شروط معاهدة الحماية ولم يوقع عليها إلا مكرها.

كما أن مؤلفات المولى عبد الحفيظ ورسائله إلى العلماء، وما أكثرها، ذكر فيها أنه يرفض دائما الاستعمار، وعدّد مشاكل المغرب ونقط ضعفه وتغول السيبة وانتشار التمرد في عدد من ربوع المغرب، وبسببها جميعا تقوت حظوظ فرنسا لتوقيع المعاهدة بالصورة التي خرجت بها في الأخير.

 

 

عُزلة السلطان التي لم يتحدث عنها أحد

من غرائبيات التاريخ، أن السلطان عبد الحفيظ أصبح وحيدا في قصره بفاس، خلال الأشهر القليلة التي سبقت التوقيع على معاهدة الحماية. كل الذين كانوا حلفاءه عندما جاء إلى الحكم من مراكش، جلسوا يتفرجون. وباستثناء بعض العلماء الذين سجلوا موقفهم مكتوبا، فإن أعيان السلطة الحقيقيين لم يتحركوا للتحالف مع السلطان ضد فرنسا. كانوا جميعا يعلمون أن الأمر يهدد سلطتهم وسط القبائل، باستثناء القادة الذين أعلنوا موقفهم الرافض للاستعمار واستعدادهم لمواجهة جيش فرنسا. لكن أغلبهم كانوا في حالة تمرد ضد المخزن، في الشمال والجنوب أيضا.

تبعات انتقال السلطة من مولاي عبد العزيز إلى أخيه السلطان الجديد، وبعض المشاكل التي تركها المولى الحسن الأول، كلها تحكمت في رسم خريطة العلاقات الداخلية في المغرب قبل 1912، وأثرت كثيرا في موقف المولى عبد الحفيظ.

علماء القرويين الذين دعموا وصوله إلى السلطة، وشددوا أثناء مبايعته في فاس على ضرورة وقوفه ضد الاستعمار، لم يكونوا يتوفرون على رؤية واضحة بشأن إمكانيات فرنسا العسكرية، ولم يدرسوا جيدا حدود إمكانيات المغرب، وإنما شددوا فقط على ضرورة مواجهة فرنسا وعدم فتح الباب أمام القوى الأوروبية لكي تتوغل داخل المغرب.

في حين أن السياق العام وقتها كان عنوانه الأبرز هو المنافسة الأجنبية، خصوصا بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا، على احتلال المغرب.

لم يجد المولى عبد الحفيظ بدا من التواصل مع الممثلين الدبلوماسيين لهذه الدول، أثناء زياراتهم إلى قصره في فاس. ضغط رهيب كان يعيش السلطان تحت وطأته، في حين أن علماء القرويين لم يلعبوا دورا ملموسا في جعل قبائل المغرب كلها تتوحد تحت راية السلطان، بل تواصلت الانقسامات. وهذا التحليل تبناه عدد من المؤرخين المغاربة، وكان وصفهم لحالة الضعف التي يعرفها المغرب وقتها، دقيقا.

أحد الكتاب الأجانب الذين تطرقوا بالتفصيل إلى حالة المغرب قبل توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912، الكاتب الأسكتلندي «گافين ماكسويل» في كتابه الذي صدر نهاية ستينيات القرن الماضي بعنوان: «Lords of the Atlas». في هذا الكتاب تطرق الكاتب إلى تاريخ عائلة گلاوة والدور الذي لعبه المدني الكلاوي في مساعدة مولاي عبد الحفيظ، الذي كان يعيش في مراكش ويمثل والده المولى الحسن الأول فيها، باعتباره خليفة سلطانيا. ومن المفارقات التاريخية أيضا أن المدني الكلاوي هو الذي جمع كلمة العلماء في مراكش، ووفر الدعم العسكري لمولاي عبد الحفيظ لكي يدخل فاس العاصمة، ويلتقي بعلماء القرويين لترتيب البيعة. إلا أن المدني الكلاوي، زعيم الأطلس، انقلب في مواقفه، بعد توقيع الحماية، وتحالف مع فرنسا وقاتل قبائل مغربية رافضة للاستعمار، وخاض حروبا مع الجيش الفرنسي!

يقول ماكسويل في وصف أجواء المغرب مع وصول المدني الكلاوي إلى رئاسة قبائل الأطلس، إنه في سنة 1893 عاد المولى الحسن الأول من حملة تأديبية ضد منطقة الجنوب، للقضاء على تمرد بعض القبائل، وعين الزعيم المدني الكلاوي على تلك القبائل.

هنا بدأ المدني الكلاوي، فترته الذهبية، خصوصا وأن علاقة صداقة متينة جمعته بالمولى عبد الحفيظ الذي كان وقتها مقيما بمراكش ممثلا لوالده السلطان. كان المدني الكلاوي محافظا للغاية، لكن الأخ التهامي لم ينشأ في ظل الأخ الأكبر، وحاول الانسلال بشخصيته من ظل أخيه، سيما وأن سنة 1908 شكلت منعطفا حاسما لنسف معتقدات المحافظين المغاربة الذين كانوا يعتقدون أن القصر عليه أن يقاطع فرنسا نهائيا، وأن السلطان يجب عليه ألا يفتح باب الحوار مع الفرنسيين. وهو الأمر الذي كان مستحيلا تماما.

شعر المولى عبد الحفيظ أن القوة الشعبية التي أوصلته إلى العرش لكي يقطع العلاقات مع الأجانب تماما ويطردهم من المغرب تبقى مستحيلة، خصوصا وأن الدولة كانت تعاني من الإفلاس. كان المدني الكلاوي يهمس في أذن المولى عبد الحفيظ: «يا مولاي نحن معك. العلماء والشيوخ لا يريدون أن يروا الأوروبيين داخل القصر».

فرضت الأحداث اللاحقة نفسها، وأصبح المغرب بعد مقتل الطبيب الفرنسي الدكتور «موشامب» في مراكش، واحتلال فرنسا رسميا لمدينة وجدة سنة 1907، التي تم فيها قصف مدينة الدار البيضاء بقسوة، ضعيفا أكثر من أي وقت مضى. كان المدني الكلاوي، كبير عائلة كلاوة، والداعم الشعبي الأكبر لسلطة المولى عبد الحفيظ يتابع كيف أن المغرب أصبح تماما في عنق الزجاجة.

هذه الخلاصة التي يخرج بها القارئ لفقرات مسترسلة وصف فيها «ماكسويل» حالة مغرب ما قبل الحماية، تكشف إلى أي حد صار المولى عبد الحفيظ وحيدا في مواجهة فرنسا، بعد أن التفت الأغلبية حوله لكي يصل إلى السلطة بهدف محاربتها.

 

 

السلطان عبد الحفيظ استقال من منصبه حتى لا يوقع على الحماية

جاء الفرنسيون إذن إلى القصر الملكي في فاس، وطلبوا لقاء السلطان بهدف توقيع معاهدة عسكرية لتدبير أمن الدار البيضاء، في ظل وجود قوات فرنسية وإسبانية مرابطة في مياه المغرب. واستمرت مناوراتهم طوال النصف الأخير من سنة 1911.

هذه الاتفاقية العسكرية تسببت لاحقا في التضييق على المغرب دبلوماسيا وسياسيا. بعد فشل خطة تعميم خبر مطالبة السلطان لفرنسا بحماية المغرب، وتكذيب السلطان نفسه الخبر والحرص على نشره في وكالة الأنباء الفرنسية.

أرسل الفرنسيون بعد ذلك السفير «يوجين رينو»، لكي يلتقي بالمولى عبد الحفيظ، في أوائل أيام مارس سنة 1912 -أي أقل من شهر على التوقيع الفعلي على معاهدة الحماية في 30 مارس 1912- وتولى رجل ثقة السلطان «قدور بن غبريط» مهمة الترجمة أثناء المقابلة الساخنة. فقد كان السفير يعرض على السلطان فكرة صياغة نص معاهدة تتولى فرنسا بموجبها حماية مصالح السلطان، لكن الأخير لم يقبل الفكرة، بل وهدد أمام إصرار السفير بالاستقالة.

هنا، يوضح الباحث المغربي محمد العربي الشاوش، في بحثه الذي أشرنا إليه سلفا:

«غير أن جلالته لم يقتنع بنظرية الحماية وعارض بشدة، بل هدد بالاستقالة أمام إصرار السفير الفرنسي على إقناعه بوجهة النظر الفرنسية. وأمام هذا الموقف ندرك قسوة الإكراه الذي مارسته الدبلوماسية الفرنسية على مولاي عبد الحفيظ، معززة بالقوة العسكرية المرابطة في فاس.
كان السفير رينو يقدر أن استقالة السلطان إحباط لمهمته الاستعمارية، ولذلك مارس كل الضغوط لبقائه في الحكم، مع مواصلة المحادثات في موضوع الحماية. ودامت جلسة يوم 29 مارس 1912 ست ساعات (من السادسة مساء إلى الثانية عشرة ليلا) بالقصر الملكي بفاس. وفي صباح 30 مارس تم توقيع معاهدة الحماية في ظروف غامضة، وفي جو يشعر بالإكراه والابتزاز. وقد أعرب عن ذلك الكاتب الفرنسي روبير رينار في ما نقله عنه الكاتب الإنجليزي «روم لاندو»، في كتابه «تاريخ المغرب في القرن العشرين». قال: «إن السيد رينو قاد هذه المفاوضات المضنية باللجوء إلى الوعد مرة وإلى الوعيد أخرى، وبفضل أسلوبه هذا انتهت المفاوضات التي طال أمدها بالنجاح وتوجت بتوقيع المعاهدة».

اعترف باحثون فرنسيون لاحقا بأن السلطان عبد الحفيظ تعرض فعلا لابتزاز ممنهج من طرف فرنسا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل مورست على السلطان مضايقات شتى، قبل مغادرته قصر فاس في غشت 1912، ومغادرته المغرب نهائيا.

احتج السلطان على عدم إدراج بند تمسك به كثيرا يتعلق بضرورة تحديد مدة الحماية، وعدم تركها مفتوحة أمام أي تأويل فرنسي من شأنه أن يتحكم في مستقبل المغرب. قصة هذا البند الذي لم يضمنه الفرنسيون، رغم إصرار المولى عبد الحفيظ عليه، تداولها باحثون فرنسيون ومغاربة، لكنها لم تحظ بالعناية اللائقة، خصوصا أن محاضر موقف المولى عبد الحفيظ أثناء المناقشات التي سبقت التوقيع لم تُسجل كاملة، وهو ما أشار إليه من اطلعوا على رسائل مولاي عبد الحفيظ التي وضح فيها أنه تعرض للخيانة أثناء التفاوض معه، وأن فرنسا حرصت على الإساءة إليه بعد التوقيع ولم تحترم شروطه.

 

رسالة مولاي عبد الحفيظ إلى صديقه الوزير تكشف الظلم الذي طاله

كان المولى عبد الحفيظ يحتفظ لنفسه بأصدقاء من طينة العلماء، ربطته بهم صداقة متينة منذ كان أميرا أيام والده السلطان المولى الحسن الأول، كانت السياسة آخر ما جمعه بهم. واستمرت علاقتهم به حتى بعد أن غادر فاس واتجه إلى منفاه بين فرنسا وإسبانيا، قبل وفاته سنة 1937 في الخارج، وإعادة جثمانه بحرا، ثم برا، لكي يدفن في جنازة مهيبة في مقبرة أجداده بفاس.

أحد هؤلاء الأصدقاء القلائل – لم يكن عددهم يتجاوز خمسة أشخاص- هو العالم التطواني الكبير أحمد الرهوني، الذي اشتغل قاضيا ووزيرا للعدل أيضا.

في هذه الرسالة التي كتبها المولى عبد الحفيظ من منفاه، بخط يده، يتحدث السلطان السابق عن ظروف إقامته خارج المغرب وما عاشه بعد مغادرة المغرب من طنجة، أسابيع بعد التوقيع على الحماية.

وهذا نص الرسالة التي احتفظ بها القاضي التطواني في أرشيفه، وربما ما كان أمرها ليُعرف اليوم، لولا احتفاظ القاضي بأرشيف رسائله ومخطوطاته في مكتبته الشخصية، قبل وفاته سنة 1953:

 

«الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه

محبنا الأعز الأرضى الفقيه العلامة وزير العدلية بالثغر التطواني السيد أحمد الرهوني،

سلام عليكم ورحمة الله.

وبعد،

فقد تعين إعلامك بأن موجب مفارقتنا ثغر طنجة عندما ظهرت الحرب الأورباوية القساوة التي عوملت بها، والإهانات التي تجرعت غصصها، ولم أزل مدة الانتقال من ذلك الثغر أتجرع ألم الهجرة، لأن شأنها عظيم، وأنتظر انفراج الأزمة بانتهاء الحرب الأورباوية، ولما انتهت وخلصت قابت من قوب، وظن كل مبتل أن الفرج مرقوب، بادرنا بالكتب لرجال الدولة الجمهورية أسألهم السلم والصفح عن الذنب الذي ما اقترفناه، بتركهم سبيل أهلنا يمكن لنا نقلهم للشام أو مصر لقربهما من الحرمين الشريفين، والتخلي عن أموالنا وحقوقنا، فلم يفتح الله بشيء. فجددنا الطلب مرارا فأجبنا شفاهيا لا كتابة بقبول العفو على شرط سكناي بباريز، فأجبناهم باستحالته شرعا، ومنافاته لقصدنا الأول من التخلية عن الملك، ما لم نحد عنه إلا للتمتع بكمال الحرية، فلم يلق جوابنا آذانا مصغية. فطلبنا منهم رفع المسألة للشرع، فرفض قبول حكم الرفع. ومن ذلك تبين لي أنني أنفخ في غير ضرم، وأن سعيي لا يأتي إلا بما هو أطم.
ثم وجهنا على أبنائنا بقصد صلة الرحم معهم، فأجبنا بالمنع، فظهر من ذلك أنهم أسارى وإن كانوا في غير حرب، وبموجبه قطعت المسنونة التي أوجهها التي لكم حتى يتبين هل هم أهلي، أم لا. ونفدت لهم من الدراهم التي استحقها بكوني من العائلة الملوكية وبالواجب الشرعية النصف ليكن لهم معه المعيشة.
وأشهدكم وليبلغ الشاهد الغائب، لأن الله جعلكم «أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا»، إنني ما أتيت بجريمة شرعية توجب استحلال مالي، ومفارقة أهلي وتركي عرضة للضياع، لأني أقر لله بالوحدانية، ولرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة وكمال التبليغ، وفي الحديث «فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، وإني أحفظ حق القيام بالطلب في ما أخذ مني قبل وبعد، لأن سيادتكم كانت تسمع في التصريح بعدم القبول عند إلا شهادة على البيع وأبرأ من كل دعوى تجعل سلما لمنعي ما ذكر.
وسأكتب لسائر المسلمين بالأنحاء بشرح هذه القضية، والقصد بيانها لا النكاية أوجب الانتقام، لا أنا أهل البيت وكل بنا البلا، كما علمتم. لأن الجامعة الإسلامية والأخوة الدينية تلزمني بالتصريح دون التلويح، وتبيح لي إظهار ما كان السبب في مفارقتي الأهل من غير ذنب يبيح. وأعلمناكم لئلا يبلغكم الخبر على غير وجهه ممن لهم الغرض في تحريف الكلم عن مواضعه وعليكم السلام ورحمة الله. في 27 ذو الحجة 1338 (10 شتنبر 1920)

عبد الحفيظ».

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى