قاصرون بين مخالب أساقفة
تتكرر في المشهد الدولي منذ عدة عقود فضائح التعديات الجنسية لقساوسة انتهكوا، بلا حسيب ولا رقيب، أعراض قاصرين قصدوا الكنيسة للتربية والعرفان، ليجدوا أنفسهم غنائم بين أيدي أساقفة يبقى مكانهم الطبيعي السجن أو مستشفى الأمراض العقلية.
وبفضل شهادة بعض الضحايا وكذلك النشاط الذي تقوم به جمعيات مناهضة للتحرش الجنسي بالكنيسة الكاثوليكية، أمكن للعدالة أن تتدخل وتقول كلمتها في العديد من الملفات. غير أن هذه الفضائح تندرج في سياق أشمل، إذ تشير المنظمة العالمية للصحة بأن 150 مليون فتاة و73 مليون صبي كانوا ضحايا أعمال عنف جنسية. وسبق للأمم المتحدة أن انتقدت في لهجة قاسية الكنيسة الكاثوليكية، داعية إلى إجراء تحقيقات علنية في وقائع التحرش بالأطفال، من قبل رجال دين كاثوليك في مختلف أنحاء العالم، كما طلبت تقديم المتورطين في تلك الجرائم للمحاكمة. وطلبت لجنة حقوق الطفل في الأمم المتحدة من الفاتيكان أن «يقيل على الفور من وظيفته كل شخص مشبوه بارتكاب تجاوز جنسي وإحالته إلى السلطات القضائية المختصة للتحقيق معه وملاحقته».
صحيح أن البابا فرانسيس خطا خطوة لا يستهان بها في مضمار التنديد والدعوة لمعاقبة الأساقفة المتهمين بالتحرش الجنسي، لكن الدعوات والبيانات العديدة الصادرة عن الفاتيكان لم تضع حدا للسلوكات الشنيعة لرجالات الدين من أساقفة، قساوسة وكرادلة، وهو ما دفع ببعض الجمعيات إلى الحديث عن «تواطؤ إجرامي» للكنيسة مع القساوسة المتهمين. وسبق للبابا في مقابلة مع صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية أن كشف النقاب عن نسبة القساوسة المولعين بممارسة الجنس مع الأطفال، والتي تبلغ 8 آلاف أسقف من مجموع نحو 414 ألفًا في أنحاء العالم يتحرشون بالأطفال، وهي نسبة مذهلة في وسط ديني يفترض في رجالاته الورع والفضيلة وحماية أعراض البشر وبخاصة منهم الأطفال، غير أنه لا تصريحات البابا فرنسيس ولا تنديداته وضعت حدا لهذا النوع من الجرائم، الشيء الذي دفع بالعديد من الجمعيات، كاثوليكية وغيرها، إلى التشكيك في قدرات الفاتيكان على التدخل لوضع حد لهذه الممارسات أو القيام بإصلاحات جذرية مثل نشر أسماء المتحرشين من القساوسة. وقد رفعت بعض من هذه الجمعيات دعاوى قضائية ضد 32 كاهنا، فروا من قبضة العدالة في اتجاه دول أجنبية. ويطرح التحرش بالقاصرين بالأساس مسألة السلطة والتحكم، فأغلب الأساقفة المتحرشين، كاثوليك أو بروتستانت، يشغلون مواقع نافذة في هرم السلطة الدينية، الشيء الذي يحول دون فضح أسرارهم. كما أن السرية التي تحيط بهذه الممارسات سواء من طرف الضحايا أو من طرف الكنيسة حالت دون إجلاء الحقيقة.
في فرنسا، ما زالت تداعيات فضيحة الكاردينال فيليب بارباران، كاردينال مدينة ليون، تشغل الرأي العام الفرنسي، فقد تستر هذا الأخير لمدة طويلة على الفضائح الجنسية لعدة قساوسة مورطين في اغتصابات أطفال. آخر هذه الفضائح القضية التي تورط فيها قسيس عهدت له مهمة تأطير مجموعة أطفال ينتمون إلى جمعية للكشفية. ولم يتردد الأسقف في اغتصاب بعض منهم، كما بقيت شكاوي العائلات لدى المسؤولين على الأبرشية حبرا على ورق إلى أن مست الاتهامات المسؤول الرئيسي عن الأبرشية، الكاردينال فيليب بارباران. كما افتضح أمر أربعة قساوسة آخرين مورطين في انتهاكات جنسية ضد أطفال. وقد أثبتت السلطة القضائية تورطهم، و تم تشكيل هيئة للخبراء تتألف من قاضي، أخصائي نفساني، محلل نفساني، طبيب ومن أبوين لدراسة ومتابعة تصرفات الأساقفة المورطين. ويحصل أن تقول العدالة كلمة الفصل في بعض قضايا التحرش. هكذا اعتقل في بداية 2010 ما لا يقل عن ثلاثين قسيسا بسبب تعديات جنسية على قاصرين ويوجد عشرة منهم في حالة متابعة.
وللتذكير يوجد في فرنسا 20 ألف أسقف كاثوليكي، المشكل أن الكنيسة التي تبقى رهينة مبدأ السرية وعدم البوح، لا تقدر على مراقبة ومتابعة كل القساوسة الذين ينقل بعضهم في الحالات القصوى بينما «تمسح» ذنوب الأغلبية منهم في تكتم تام. يقارب البعض بين التحرش الجنسي بالقاصرين وبين الإجرام الشمولي. يصفه البعض الآخر على أنه إرهاب مقنع، فيما نعته البابا فرنسيس بـ«مرض الجذام». غير أن هذا الداء وبالرغم من النوايا والإرادات الحسنة لاستئصاله، يبقى داء مستداما ومحايثا لذهنية وسلوكات الهيئات الدينية على مختلف مشاربها، انتماءاتها وتوجهاتها، وبالتالي تحتاج محاربته إلى ثورة بيداغوجية وثقافية عميقة.