شوف تشوف

الرأي

في رياضة التزلج على جليد سياسي

كيف لبرودة الطقس أن تتحول إلى دفء؟ وكيف للحرارة الملتهبة التي تكتوي بها الأجساد أن تستحيل إلى برودة منعشة؟ لا أروع مما تفعله الطبيعة، إذ يعتاد الإنسان على زمجرتها ونسائمها وتدفق مياهها أو شح أمطارها.
هو نفسه بلحمه وعظمه يعيش في الصحراء لا تثنيه حرارتها ولا زوابعها، كما يقيم مآويه في ألاسكا لا يبالي بصقيعها. وما بين درجات الغلو في السخونة والبرودة والرطوبة وعليل الأجواء، صنع لنفسه نواميس وبوصلات يهتدي بها، يبدي الضجر من لفحات الشمس أو قسوة اندثارها ويقاوم على طريقة حماية عقيدة الحياة.
لو لم يكن للمغرب منتجعه الشتوي الذي تغطيه جبال الأرز بمساحة تفوق مثيلاتها في مناطق عدة، لاضطر لاختراعه، كما في المصايف وسياحة الجبال والوديان وتخوم الصحاري. لكن إيفران الذي غنى المطرب إبراهيم العلمي عن جماله، لم يكن منتجعا فحسب، بل كان أرضية وفاق سياسي، لم يكتب له أن يعمر طويلا.. ليس لأن الطبيعة عاكسته وأرخت بظلالها على مآله، ولكن لأن صناع القرار أخفقوا في نقل الأحلام الكبرى إلى حيز الواقع. بعضهم فعلها جحودا وتنكرا، وبعضهم ساير الأهواء. والبعض يتملكه الحنين إلى سياسة الإجهاز على الفرص السانحة وإضاعتها، بسبق إصرار أو من دونه.
ومنذ اخترعت المشادات والمشاحنات، ومنذ اخترعت الحزبية والسياسية قصة «دكاترة إيفران» التي شملت ترقية رموز في حركة النضال الطلابي في الجامعات، بأساتذته وطلبته، دخل المنتجع كتاب التاريخ من بابه الواسع، ليس على الصعيد المحلي فقط، بل في نطاق إقليمي مغاربي، وعلى واجهة الامتداد العربي والدولي. فقد سطر المنتجع تاريخا آخر، كان حافلا بالأمنيات والتطلعات، ثم انزوى إلى الركن غير الخفي في سجل الأحداث.
قبل أن تكمل عشرية سبعينيات القرن الماضي عقدها، كان اسم إيفران قد ترجم إلى مفردات الوفاق والوئام في أكثر من عاصمة مغاربية. وبعد أن ارتبطت إرهاصات البناء المغاربي بمؤتمر طنجة للزعامات الحزبية في كل من المغرب وتونس والجزائر التي لم تكن استقلت بعد. سيصار إلى الإشارة لأكثر الخطوات جرأة على طريق بداية البناء المغاربي باجتماعات مشهودة استضافها المنتجع الشتوي في إيفران، بعد مرور عشر سنوات بقليل على لقاء طنجة.
ستكون البداية بإبرام معاهدة حسن الجوار وترسيم الحدود بين البلدين الجارين المغرب والجزائر، انطلاقا من روح اتفاق باماكو الذي جاء لوضع حد لحرب الرمال التي دارت رحاها على تخوم صحراوية تابعة للسيادة المغربية، جراء توالي هجمات الجيش الشعبي الجزائري.
كما نص الاتفاق على احترام مجالات التعاون المشترك في استخراج ثروات باطن الأرض، أي حديد أم جبيلات وغيرها في تيندوف وجوارها، سيلتقي وزراء التعليم في البلدان المغاربية، باستثناء موريتانيا، لوضع لبنات التعاون في ترتيب مناهج التعليم، بهدف إعداد أجيال مغاربية مؤمنة بوحدتها، وذات قابلية في الإفادة من التطورات المعرفية المعاصرة.
وسيأتي الدور على وزراء الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة، امتدادا للأهداف نفسها، ثم تلتحق موريتانيا بالركب بعد قمة نواذيبو الثلاثية التي ضمت المغرب والجزائر، وكذا قمة تلمسان. لا ينقض زخم حدث مغاربي، حتى يليه آخر بالحماس والتفاؤل ذاتيهما.
تطلع وزير خارجية الجزائر أحمد الطالب الإبراهيمي، من فوق شاحنة اكتستها أعلام الدول العربية، إلى فضاء في المنتجع الشتوي إيفران، ولا أحد كان باستطاعته استكناه ما يدور في رأسه، وهو يرى قادة الدول العربية يمتطون تلك الشاحنة التي جابت بهم أرجاء البلد، في ختام قمة فاس التي صاغت أول عناوين خيار السلام العربي. فقد ارتبط اسم القمة بمدينة فاس على شطرين، إلا أن إيفران سجلت نفوذا في ختام القمة، إذ لم يدر في خلد أي كان أن القادة العرب سيمتطون شاحنة بدل السيارات الفارهة المسلحة.
قد يكون لهذا السبب استضاف منتجع إيفران أول مباحثات علنية دارت بين الملك الراحل الحسن الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز. فقد آلت إلى إخفاق، لكنها عرت الرغبة الإسرائيلية في معاكسة تيار البحث عن السلام العادل. وبعد أن تعرضت العلاقات بين الرباط ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى خلافات، جراء مصافحة مفخخة للرئيس الراحل ياسر عرفات مع زعيم انفصاليي بوليساريو محمد عبد العزيز في الجزائر، جاء عرفات إلى إيفران يلتمس العذر، إذ كان دائما مساندا للقضية الوطنية بامتياز.
لن ينتهي عقد ثمانينيات القرن الماضي، من دون أن يضع المنتجع الشتوي بصماته على محور العلاقات المغربية – الجزائرية، حيث استضاف القمة التي جمعت الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. ومن تداعياتها الإيجابية أنها أفسحت المجال أمام تأسيس الاتحاد المغاربي، تأسيسا على فترة الوفاق الذي ساد علاقات القطبين الكبيرين في الشمال الإفريقي المغرب والجزائر.
لا أعرف إن كانت بلدية إيفران تضم صورا بمثل هذه الأحداث. لكن التاريخ رصعها بما لا ينفع معه الإهمال أو النسيان. ولكل مدينة أو بلد أو زقاق ما يميزه عن باقي الأمكنة. وأدعو بموسم ماطر لإحياء الزرع والنسل والاستجابة لرغبات هواة التزلج على الجليد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى