في ذكرى رحيل الحسن الثاني..
لا يمكن لشخص يعايش العنف إلا أن يصبح عنيفا، حتى ولو تجذرت كل العواطف الجياشة بقلبه. كما لا يمكن لشخص فقد الكثير من الأعداء إلا أن ينعزل أخيرا حتى ولو تجمهر كل عالم الأصحاب من حوله، لكن العزلة بالرغم من بطلان معانيها تجعل المعزول يمد يديه لأول من يمد يده له.
لحظة موت الحسن الثاني، أو بالأحرى نصف اليوم الصباحي الذي قضاه استعدادا لذهاب مسائي أبدي، كانت قاسية وشديدة على ذويه. ولأن الملك طوق نفسه بالسريالية والقدسية، فقد تحول يوم وفاته إلى ملحمة «يوغرطية» لدرجة قال قائل بأنه ترجل كل المسافة بين قصره والمستشفى لوحده، بعدما أراد لنفسه أن يكون دوما على صهوة جواد «نابوليوني».
لقد لمّح لها كلما سنحت له الفرص، عبر محادثات صحفية عابرة، وظل يكشف عن شيء من ضيق أنفاس حيال عدم إنصاف الناس له ولحكمته. كيف لا وهو يعترف بطيبوبة خلقية ومرح خلقي وافر الظلال، كان فرحا من صوره الشبابية الأولى، فاصطدم أمام هول الخيانة والغدر.
«الملك المغدور» كانت ربما الصفة الأكثر فتكا به والتي صارع مرارا من أجل محوها فكان مشوار حياته مسخرا لاسترجاع الثقة بالولاءات واختبار واستباق إرهاصات الخيانات المحتملة.
كما أن هواجس «الحتف أو الاختفاء أو النفي أو القضاء» ألزمته تكثيف الحضور بالتفريط في طقوس القوة.. هذه المتلازمة ما بين التوجس بالخيانة وارتداء عباءة القوة جعلت صوره الذهنية أكثر غموضا، فدارت حوله جماعات خائفة لتطوقه بالعزلة في قوته.
اعترف الحسن الثاني بأن أعز صديق ملازم لوحدته هو الكتاب. واعترف بأنه لو لم يكن ملكا لكان عازفا موسيقيا. والكل يعلم كم كان ولوعا بالعزف والطرب لا يخفي في ولعه شيئا ولا ينقص منه ومن هيبته شيء.
كتب أشعارا وقيل إنه كان وراء ألحان وكلمات غنائية، كما مثل أدوارا وقيل إنه وجه إبداعات مسرحية. بين الفن والسلطة، بين الحرية المطلقة والانضباط التام، بين الاستسلام لمرونة التلقائية وانسيابية الدعابة والامساء ببطش الطقوسية وصرامة شكلانيتها القروسطية. كان الحسن الثاني يعيش ويتنفس. لا يستطيع أبرع مؤرخ لحكم الحسن الثاني أن يدلنا إلى لحظات إعجابه بخصومه، فلكل الحكام الأقوياء شيء من حيرة أمام معارضيهم، سجنه لعبد الرحيم بوعبيد بميسور كان معاتبة لخصم شهم أكثر منها عقابا لشخص متمرد. إرساله لابن عمه لإقناع بن بركة بالعودة الأخيرة كان ربما مفعما بالخوف على الرجل أكثر من الخوف منه. زيارته لليوسفي في المستشفى كانت مودة حقيقية أكثر من صورة مزيفة لتناوب مزيف وحتى اليوسفي لم يسقط أبدا إيقاع الاحترام للرجل حتى وقد مرت بينهما عقود من المسايفة.
كأي زعيم كانت للحسن الثاني نقاط قوة ونقاط ضعف.
أولا الصحراء واسترجاعها، بحيث لم يكن إلا جديا عندما وضع عرشه كقربان في حالة فشل المسيرة الخضراء. وكان شديد القسوة والغضب عندما علم بأن إرهاصات الغدر آتية من أكبر قواد الحرب الموثوق بهم، والصحراء هي الوحيدة التي جعلته يزمجر مرات كثير في وجه شعبه ليتركه يدبر في هدوء قضيتها، والصحراء كانت وراء سجنه للعديد من الساسة الذين كان يحترمهم.
ثانيها، أخوه مولاي عبد الله، الذي لم يشاركه مراسيم تتويجه على العرش، ولم يجاريه طوال حياته نمط مجازفاته مع خصومه وأنداده وذويه، وهو الأمير الذي عرضه الملك للنفي مرارا وتكرارا ويقال إن بينهما كانت تعشش ملامات حول إرث الوالد وتدبيره. لقطة نحيب الحسن الثاني على جثمان أخيه التقطها الشعب وفهم عمقها ومغزاها، وربما أشد معنى وميضا هو أنه بعدما دفن أخاه، دق آخر مسمار على نعش أكثر الأشخاص جدارة بالثقة.
ثالث نقط ضعفه هي تلك الصور الأليمة التي عاشها وهو يرى من محاولات انقلابية قال عنها الحسن الثاني إنها لم تكن في الصميم إلا محاولات بشعة في الفتك به وبأولاده، لأن للانقلابات، وهو الذي عاصر الانقلاب على شاه إيران، أعرافا وطقوسا تحفظ للملوك شيئا من كرامة إنسانية، وهو الذي أفلت من انقلابات دموية كادت تعصف بحياته وبشكل بشع.
صوره وهو يجر الأسد، رئيس سوريا السابق، من ذراعيه، ويأكل الحمام مع ملكة إنجلترا والخبز الحافي مع جنود التخوم الجنوبية ويدف على البندير وفي فمه سيجارة ويقف متكئا على عرش أجداده بطريقة وبابتسامة شبابيتين.. كلها تجعلنا نتفق من دون مواربة على أن العالم عايش ملكا خاصا ترك بصمته في سجل التاريخ إلى الأبد.