في المعرفة
عبد الإله بلقزيز
المعرفة فعالية ذهنية إنسانية تتكون من عملية تفكير في موضوع، تتوسل لنفسها وسائل مختلفة من تحليل، أو استقراء، أو استنتاج، أو مقارنة.
وتستخدم لذلك أدوات نظرية (مفاهيم) وعملية (اختبار، استقصاء…). أما ما تتغياه عملية التفكير هذه فبناء إدراكات للظواهر والأشياء، إما نظريا أو تجريبيا. تختلف المعرفة، بهذا المعنى، عن الثقافة (ولو أنها فرع منها) في كونها ليست مصروفة إلى التعبير عن الذات، وإنما إلى التعبير عن رؤية، تصور إلى العالم والأشياء، أو لنقل إنها تنصرف إلى التعبير عن إرادة الإمساك بماهية العالم أو بعلاقات ظواهره، الطبيعية والإنسانية، ببعضها والإمساك بما فيها من قوانين حاكمة. وتُطلق المعرفة على حالتين: على الفاعلية الذهنية التي تتولد منها المعارف كمنتوجات لها، وعلى المنتوج المعرفي نفسه الناجم من تلك الفاعلية.
مكونات عملية المعرفة ثلاثة: الذات العارفة، لما لها من ملكات أو مهارات ومخزون معارف؛ وموضوع المعرفة، الذي يُبنى، ثم وسائط العمل من مفاهيم وأجهزة معرفية تجريبية. المعرفة، هنا، تأخذ شكل عملية تحويل للموضوع المدروس من مادة خام إلى موضوع قابل للدرس.
إن أي موضوع أو ظاهرة غير قابل للدرس والبحث من حيث هو كذلك: كمُدْرَكٍ بأدوات الحس، لأن هذه أدوات ناقصة وأحيانا خادعة. ينبغي بناء الموضوع، كما تعلمنا ذلك إيبيستيمولوجيا غاستون باشلار، كي يصبح موضوعا للمعرفة. والبناء هذا إما يكون نظريا من طريق عملية مَفْهَمَة Conceptualisation الموضوع المدروس، أو يكون تجريبيا من طريق إخضاع الظاهرة المدروسة للملاحظة العلمية؛ الملاحظة التي لا تجري بأدوات الحس، بل بأدوات العلم وتقنياته الدقيقة (نحتاج، مثلا، إلى الميكروسكوب لمعاينة الجراثيم والأجسام الدقيقة، وإلى التلسكوب لمعاينة الأجسام الفضائية البعيدة لأن العين، في الحالين، لا تسعف بملاحظتها).
أكثر الناس يتحدث عن الواقع باستبداه. يقول المؤرخ أو الصحفي، مثلا، إنه ينقل إلى قارئه واقعا حدث في مكان وزمان معلومين. ويزعم أديب بأنه يكتب أدبا واقعيا أو ينتمي إلى مدرسة الواقعية. ويجادل متحدث آخر بأن كلامَهُ نظري وليس واقعيا. ويرفض عالم اجتماع العودة إلى الأصول النظرية لعلم الاجتماع زاعما لنفسه بأنه مشغول بواقع المجتمع لا بمفهوم المجتمع…إلخ. الجامع بين هؤلاء وأشباههم استسهال معنى الواقع كمفهوم، وعدم الانتباه إلى أن الواقع الذي يفترضونه كذلك، أي واقعا، هو محض تمثل أو صورة عنه في الذهن.
ليس الخبر (مادة المؤرخ والصحفي) هو عينه الواقع، إنه صورة عنه متمثلة في الذهن؛ وليس واقع الأديب واقعا، وإنما هو صورة له متمثلة… وهكذا دواليك. ومعنى ذلك أن علاقة الذات بالموضوع (الواقع) مُتَوَسطة، حكما، لا مباشرة. والوسائط بينهما قد تكون الحواس، أو اللغة، أو التصورات – وهي بناءات ذهنية – أو المفاهيم أو أدوات القياس. وكلما دقت الوسائط والأدوات (صارت دقيقة)، تولدت منها معرفةٌ أدق.
المعطى الخارجي، إذن، ليس معطى معرفيا جاهزا، وإنما هو مادة خام أولية يشتغل بها لتحويلها إلى مادة للبحث وإنتاج معرفة عنها. وهكذا فالمعرفة مبنية داخل نظام إيبيستيمي مواز لنظام العالم الخارجي. أما الاختلاف بين نمطين من المعارف (معارف نظرية، معارف تجريبية) فمرده إلى عاملين رئيسين موضوعيين، أو خارجين عن إرادة الذات العارفة: إلى موضوع المعرفة، وإلى أدوات بنائها. قد يكون الموضوع طبيعيا أو من موضوعات الطبيعة، وحينها لا مجال للبحث فيه إلا من طريق إعمال أدوات الاختبار العلمي: من ملاحظة علمية مجهزة، إلى بناء فرضية للبحث، إلى اختبار الفرضية في المختبر العلمي؛ حيث التجربة المختبرية وحدها الفيصل بين صحة الفرضية العلمية أو خطئها. وقد يكون الموضوع إنسانيا: اجتماعيا أو سيكولوجيا أو ثقافيا أو تربويا أو معرفيا…، وحينها لا مجال للبحث فيه مختبريا، بل تصبح أدوات دراسته، حكما، هي المفاهيم ومناهج الدرس الخاصة بكل موضوع. وقد يكون الموضوع مزيجا من هذا وذاك كأن يكون ذهنيا مجردا في العلم (مثل الرياضيات) أو في الفكر (مثل المنطق)، وحينها يفرض أدواته الخاصة من تحليل واستنباط.
هذه مبادئ معروفة في فلسفة العلوم ومناهج المعرفة والإيبيستيمولوجيا. ولكن استدعاءها، هنا، ضروري للقول إن المعرفة لا تقع بالتلقاء، وإنما تخضع لنظام من التفكير صارم. ولذلك ما كل «علم» بشيء معرفة له بالضرورة؛ فما أكثر ما نتلقى يوميا من الإفادات التي لا تنتمي إلى المعرفة.