في البحث عن مظلة القفز من أعلى الجبل
كيف ينظر الواحد منا إلى أخطائه؟ إنها تتشابه في السلوك والعجرفة والأنانية، وعدم الإذعان دائما إلى الحقائق الكامنة على الأرض، لكن تأثيرها يختلف من حالة لأخرى. فالأخطاء التي يرتكبها السياسيون ورجالات الدولة ليست في مثل هفوات عموم الناس، من حيث التداعيات والانعكاسات.. فقد تفلس تجارة أو تسوء علاقات داخل الأسرة أو مجال العمل، لكن الأخطاء في القرارات السياسية يكون مفعولها أكبر على واقع ومستقبل الدول.
لم يخترع العقل البشري فكرة النقد الذاتي والمراجعات الفكرية والسياسية إلا كي يعود إليه وعيه نتيجة الاحتكاك والإلمام بالحقائق وإدراك النقائص، وتجاوز الأسباب التي تؤدي إلى نتائج على قدر الفرضيات. وقديما قالت الحكمة: من جد وجد ومن زرع حصد.
سئل الكاتب المصري توفيق الحكيم عن سر صمته أمام تجاوزات النظام المصري على عهد الزعيم جمال عبد الناصر، فكتب عن «عودة الوعي»، مشيرا إلى ما لحق فئات وتيارات من ظلم وعسف ملأ السجون وكمم الأفواه بدافع «حماية الثورة». وأراد الرئيس المصري محمد أنور السادات التكفير عن موالاته، قبل الانقلاب على الناصرية، فأوحى لمن يكتب سيرته بضمير المتكلم نيابة عن الرئيس المؤمن، الوصف الذي كان يروق له أكثر. ثم استخرج من معين الاقتراحات التي طرحت عليه فكرة مفادها أن 90 في المائة من الحل لأزمة بلاده والشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة الأمريكية. وطرد الخبراء السوفيات سنوات قبل انهيار الحرب الباردة، لكنه دفع ثمن البيض الذي وضعه في سلة واحدة في حادث المنصة الشهير. وكان حظ خلفه أقل مأساوية لأنه أنهى ما بقي من العمر في السجن، مقبرة الحياة.
بين كتابي «التحدي» و«ذاكرة الملك» اختزل الراحل الحسن الثاني كيفية تفكيره ونظرته إلى تطورات الأحداث، من موقع صنعها والسباحة في يمها. وما لم يقله في كتابه الأول باح به في ثانيه على منوال اسمه، لأنه كان تعلم أن التحدي ليس مواجهة الأصوات المعارضة وصنع الخرائط الموالية، بل الانكفاء على الحقائق لتفكيك رموزها بقدر أقل من العناد.. ولو أنه سخر نباهته في السياسة الدولية إلى الواقع المحلي، لتغيرت أمور كثيرة، وهو القائل قبل اندلاع القلاقل والأزمات والحروب التي هزت أركان العالم العربي: «لست متفائلا بالنسبة للمستقبل، وبالنسبة للعالم. فالمشاكل لن تمحى، بل ستتزايد وتتنوع، لأنها تجارية وصناعية وعسكرية وسياسية، وإننا نسمع اليوم دوي المدافع في كل جهة لن تبقى على حالها»
قال ذلك صيف العام 1995، أي قبل أكثر من عقدين من الزمن. ووجدت أنه استدرك المواقف بعد ذلك على الصعيد الداخلي في أكثر من خطاب. عندما وصف الخطأ في السياسة والمواقف بأنه خاصية إنسانية: «ومن الذي لا يغلط؟». بل إنه ألمح بوضوح إلى أن الخطأ مقياس النجاح، ثم استدرك في خطاب عرض فيه إلى تعديل دستور العام 1996، قائلا: «حتى تكون الغلطات الضرورية مأمونة وخفيفة، علينا أن نفتح الأبواب للأجيال الصاعدة، وندخلها إلى مدارس تسيير الأمور العامة».
كان ذلك يعني الإقرار بأن أجيالا لم تنل حقها في التعاقب على التدبير، وفهمت الإشارة بالتلميح الصريح إلى إفساح المجال أمام نخب المعارضة التي أبعدت عقودا عن تدبير الشأن العام. وبعد أن سادت أفكار حول مناهج التدبير والتعاطي مع الملفات الحارقة، خلص الحسن الثاني إلى طرح السؤال المؤرق: «إن تسيير المسائل العامة ليس بالسهل، بل يقتضي أن يبحث المسؤول يوميا عن مرجعيته، ليتساءل عما إذا كانت مرجعيته بالأمس هي التي تصلح لليوم. أم عليه أن يبحث عن مرجعية أخرى لمسايرة النهوض العالمي».
سيتخلص الحسن الثاني من جدلية السؤال أن هناك جوابا واحدا «يأتي من المذاكرة والمحاورة وأخذ الرأي والاستماع إلى النصيحة والاطلاع على الأمور»، أي الإصغاء إلى نبض الشارع الذي تغيبه في كثير من الأحيان تأويلات خاطئة ذات خلفيات انتهازية، أو جاهلة بالحقائق على الأرض». والتقطت على لسان قريب إلى الفقيه الرجراجي الذي كان موضع تقدير كبير، أنه توسط لإنصاف مسؤول نال قسطا من غضب الحسن الثاني، فرد عليه الملك الراحل بما معناه أن دوره أن يفتح عيني على ما لم تبصراه. وعلى رغم الاعتقاد الشائع بأن الحسن الثاني كان ينفرد بالقرارات واتخاذ المواقف التي لا يرغب في أن يجادله أحد في صوابها من خطئها، فقد كان يحبذ الإصغاء إلى تعدد الآراء إزاء القضية الواحدة، وإن كانت في بساطة تدبير صغير.
حدثني الوزير السابق في الشبيبة والرياضة عبد اللطيف السملالي، عن أنه دعي لاجتماع رسمي رأسه الملك الحسن الثاني، كان محوره البحث في كيفية تدبير مرافق المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله، من منطلق نوع من التدبير المفوض، يكون مدخلا لتعميم الإفادة من الأنشطة الرياضية في المركبات العمومية. وكانت تلك بداية تبلور أفكار حول تفويت منشآت عمومية وتخليص القطاعات التابعة للدولة من التدبير الوظيفي الذي يقتل روح المبادرة.
غير أن التراجع عن الخطأ سيتمثل سياسيا في حديث الحسن الثاني عن مخاطر الفراغ في المؤسسة التشريعية، وهو الذي كان وراء إقرار حالة الاستثناء في العام 1965. قال الحسن الثاني بهذا الصدد، حين كان يهم بحل برلمان ما قبل تجربة التناوب الوفاقي: «حينما تكون المسألة متعلقة بمصير البلاد، أكون بطيئا في التفكير، لكن سريعا في الإنجاز». ويقول في فقرة أخرى: «أرانا كالذي وصل إلى قمة جبل وأراد أن يقفز في الهواء، فإذا به يجد أنه نسي ألا مظلة له. فنهايته هي أن يهلك ويحطم مكاسبه»، ويتحدث عن مخاطر الفراغ التشريعي قائلا: «لا يمكنني أبدا أن أسد فراغ الجميع، فالمشاكل التي يعرفها العالم بأسره اليوم أصبحت متشعبة ومتعددة الجوانب. ولا يمكن لبشر أو لمخلوق من المخلوقات أن يقول إنني ألممت بها كلها، ولا يمكن أن يبقى البلد بلا منتخبين، ولا يمكن للمغرب أن يبقى بدون برلمان».
شتان من فرق بين الخطب.