فيروس
عزيز أمعي
قال وهو يتأمل السماء التي هجرتها الغيوم منذ شهور : - يبدو أن السماء لن تمطر على المدى القريب؟ لم تعلق زوجته التي كانت تجلس على كرسي خشبي دائري الشكل، له ثلاث قوائم قصيرة. لم ينتظر منها جوابا، تركها غارقة في صمتها، وهي تقطع الخضر في وعاء حديدي لتعد وجبة الغداء. ساد الصمت، راح كل منهما يفكر في ما يشغل باله، ويؤرق تفكيره. زوجته لم تكن معنية بأمر السماء ولا بأمر الأرض حتى. ما كان يشغل بالها، هو لماذا لم تتمكن ابنتها من الحمل وقد مرت على زواجها أربع سنين. كانت تنتظر أن ترزق وحيدتها بمولودها الأول بفارغ الصبر. كل سنة تنتظر أن يتحقق حلمها لكن دون جدوى. الجفاف الذي كان زوجها لا يفتأ يتبرم منه كل صباح، كان يرحل بها بشكل إشراطي إلى وضع ابنتها المقلق. رحم لم ينبت جنينا بعد. تساءلت أكثر من مرة أين الخلل، هل العيب في ابنتها التي أبت تربة رحمها أن تنبت جنينا، أم أن العيب في زوجها؟ رفعت مرغمة عينيها إلى السماء حيث ينظر زوجها. نعم هذه السنة استثنائية، وتنذر بانحصار المطر في ما تبقى من الشهور التي تنتظر فيها الأرض مياه السماء لتخرج ما في رحمها زرع وبقل وقتاء، فوم وعدس. السماء لا تمطر والأرض تنظر بحزن إلى حقول القمح الممتدة على أديمها، وهي تصفر رويدا رويدا قبل أن تعطي أكلها، وتسعد الفلاح الذي ينتظر الجني الوفير. هي أيضا كانت تنتظر بشوق غامر، أن يخصب رحم فلذة كبدها، كي يمنحها حفيدا تنتظره على أحر من الجمر، لكن دون جدوى. رحم كرحم السماء هذه السنة لا أمل يرجى منه حتى الآن. زوجها الذي كانت غاضبة منه منذ أن فاجأها ذات يوم بأن وزارة التعليم وافقت على تقاعده النسبي، ليقرر مغادرة العاصمة الاقتصادية والعودة إلى قريته ليحرث الأرض التي ورثها عن والده، ويشتري قطيعا من الغنم، وبقرة، وكل الطيور التي عثر عليها في السوق، عشق تربيتها والعناية بها. مزرعة الدواجن التي أجبرت الزوجة على الإقامة فيها، في خريف عمرها، جعلتها تشعر بالغضب بل والمقت لهذا الرجل الذي لم يستفد من تعليمه. نعم لقد كان أستاذا جادا ومجدا بشهادة المسؤولين، لكنه قرر مغادرة مهنة التدريس، لأنه، حسب زعمه، أصبحت المنظومة التعليمية في البلاد كبناء تداعى فيها كل شيء، ولم يبق سوى أن يسقط سقفها على كل من فيها من متعلمين وأساتذة، وكان عليه أن يقفز من السفينة المتهالكة التي كانت قد تسربت إليها مياه العبث وطفقت تغرق. كان إصلاح بيت أبيه في القرية أهون عليه وأقل عناء من مواصلة التدريس. وكان كثيرا ما يردد وهو يبتسم كلما لامته زوجته على ترك وظيفته وإجبارها على مغادرة مدينة الدار البيضاء: إصلاح بيت أبي أهون من الحلم بالمساهمة في إصلاح المؤسسة التعليمية. رمم بيت أبيه، أقام أسسه وكل ما تهالك وتساقط في البناء، ليصبح بعد وقت وجيز بيتا جميلا صالحا للسكن. انتقل إلى البيت رفقة زوجته، وبعد ذلك اشترى خمسة وعشرين رأسا من الشياه، قال لزوجته بالنبرة الساخرة نفسها: - هذا العدد من النعاج الأليفة والمسالمة، مناسب لأستاذ كان يدرس تلاميذ أغلبهم مشاغبون، مشغولون بهواتفهم النقالة، ويعتدون على الأساتذة، ويمقتون تواجدهم في الفصل. كانت زوجته تعرف كيف يفكر، وسواء أ اعترف أم لم يعترف سيظل أستاذا إلى أن يرحل إلى مثواه الأخير. لقد أراد أن يتخلص من القسم. التدريس بالنسبة له لم يعد يجدي نفعا. تغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة عرفها المجتمع. تحولات عالمية أشبه بمد تسونامي يجعل النمط التقليدي للمدرسة من ضرب الماضي. كان مقتنعا كل الاقتناع، في ظل غياب العناية بقيمة الأستاذ في المجتمع، وفي غياب أي تحفيز مادي من وزارة أصبح همها الوحيد الإجهاز على القدرة الشرائية للأساتذة، أن الحل الوحيد هو الرحيل، وفي إقامة مشروع يدر عليه دخلا يعوض ما سيقتطعه مقص الوزارة من معاشه، وربما كسب أكثر. ما أن أطلقت الوزارة سراحه، حتى جاء إلى قريته. كانت أموره تسير وفق ما خطط له، لكن السماء انحسر غيثها هذه السنة، وإن استمر الحال على ما هو عليه، فسيضطر للإنفاق على دواجنه من مدخراته، وربما اضطر للاقتراض. رفعت زوجته رأسها نحوه، رأته يفكر، كانت تقرأ ما يجول بين تلافيف دماغه، وكأنها تقرأ كتابا مفتوحا. قالت لتخرجه من وطأة تفكيره القاتم : -هل تعتقد أن فيروس كورونا حقيقي؟ ابتسم على الرغم منه وقال : -وهل تشكين في حقيقته؟ -نعم، يتحدثون في التلفزيون عن أنه وصل حتى إلى الولايات المتحدة. كيف يتسرب لأقوى دولة في العالم، دون أن يحل ببلادنا؟ ضحك الزوج وقال : -ربما أشفق علينا. وقبل أن ترد الزوجة، سمعت طرقا على الباب. قام زوجها بفتح الباب. دخل زوج ابنتها. حياهم ردت عليه بفتور. كانت السيدة زينب كلما رأت زوج ابنتها الذي يأتي من المدينة للاطمئنان عليهما، إلا وانتظرت أن يحمل لها خبر حمل ابنتها. رأت ملامح وجهه متغيرة. قال واجما: -لدي خبر لكما. ارتج فؤادها في قلبها، وظنت أن ابنتها حامل، وزوجها جاء ليؤكد النبأ السعيد. قالت بلهفة : -أي خبر..؟ قال، بعد تردد قصير : -لقد سجلت بالأمس في بلدنا أول إصابة بفيروس كورونا.