شوف تشوف

الرأيالرئيسية

فهل أنتم منتهون

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

قامت أمريكا عام 1919م بخطوة نسيها الناس منذ أمد بعيد، وهي الإقدام على «تحريم الكحول»، الذي أخذ لقب قانون «فولستيد Volsted»، حيث أطلقت صيحة جماهيرية «يجب القضاء على الكحول»!

 وسماها الناس يومها سنوات الجفاف، واستمر هذا القانون ساري المفعول حتى سقط عام 1933، أي بعد 14 عاما من الانطلاق به، ولم تجرب أمريكا بعدها مثل هذه التجربة الأليمة، في إصدار قوانين غير قابلة للتطبيق، جهلا بالنفوس ومدى طاقتها، ولم يحرم الإسلام الخمر منذ أول لحظة، بل بعد تأسيس طويل لها، لمعرفته أن النفس الإنسانية التي تعودت على شيء يصعب فطامها عنه، فكيف بمعاقرة الخمرة.

كان خلف القانون الأمريكي قطاع كبير من الناس، وخاصة التيار النسوي الملتزم، وهو درس من التاريخ جدير بالتأمل، وقد قرأته بالتفصيل منذ أمد طويل عند أبي الأعلى المودودي، وكيف كانت المخالفة فيه باهظة التكاليف التي تراوحت من العقوبات المالية حتى الجرائم، بل وأحكام الإعدام. حتى رأيته بالتفصيل مع فيلم مثير على قناة «ديسكفري»، التي تتحفني دوما بمعلومات موثقة ومصورة من كل حقول المعرفة.

وقصة تحريم الخمر في أمريكا قصة عجيبة، لأن هذه الأمة الناشئة رأت من مضار الخمر الشيء الكثير، وقالت إنه حري بها كأمة في مقدمة الأمم، أن لا تسيطر عليها مثل هذه العادة القبيحة، وفعلا أقدمت أمريكا على هذه الخطوة بجسارة، وفي مغامرة كبرى ثبت فشلها لاحقا. والسؤال لماذا فشلت في أمريكا ونجحت في يثرب، قبل 1400 عام؟

نحن نعلم أنه وفي جو التحريم ينشط التيار العكسي، فإن أردت شهرة قلم أو كتاب فقم بتحريمه، وسلمان رشدي منحه الخميني ذكرا في العالمين، وأصبح يستقبل مثل رؤساء الجمهوريات، وبلغ ريع كتابه «آيات شيطانية» ملايين الجنيهات.

ومع تحريم الخمر نشطت عصابات رهيبة، اشتهرت منها ثلاث عصابات، كانت الأولى في شيكاغو وتعود أصولها إلى إيطاليا، ورأينا ذلك في فيلم «العراب»، ذي الأصل الصقلي (Godfather)، وتجارته بالخمر الحرام.

 أما الثانية فقادها رجل ذو بأس شديد، وله وجه مفزع، ينحدر من أصول إيرلندية، اشتهر في القضاء الأمريكي باسم «آل كابوني». وأما العصابة الثالثة في غرب شيكاغو فكان يقودها الإيرلندي باغز، واستفاد الكل من قانون تحريم الخمر، فجمعوا ثروات هائلة من مال السحت، وقفزت إلى واجهة الأحداث عصابات مدربة من القتلة، واشتد تهريب الخمر من كندا، فشرب الناس الخمر بالحرام أكثر من الحلال، وكله حرام.

واستفادت كندا وخسرت أمريكا، وكان التهريب يمر في جنح الظلام عبر البحيرات العظمى، واستنفرت أمريكا نفسها في كل سواحلها لتمنع تجارة الخمر، التي راجت أكثر من ذي قبل، وتضاعفت أسعار الكحول أضعافا مضاعفة، وهو ما يذكرني بورق السجائر الشامي الذي كان يباع عندنا في القامشلي – مدينتي المقرودة في المملكة الأسدية- وتحرمه الدولة.

وأقبل الناس في أمريكا على دلق هذا السم في أحشائهم ـ كما ذكرنا ـ تحت القانون النفسي «كل ممنوع مرغوب»، وبسبب تمكن العادة الطويلة من تناول الكحول بين الأوروبيين.

وفي يوم العشاق فالنتين في فبراير من عام 1919م حدثت مجزرة مروعة في شيكاغو؛ فقد أراد أفراد عصابة آل كابوني التخلص من منافسهم باغز؛ فكلفوا قاتلا محترفا، هو «ماكدون جيبالدي» بتصفيته، واعتمدت الخطة على استدراج خصومهم، أن يبيعوهم خمرا بسعر مناسب، ثم جاء أربعة من القتلة بلباس الشرطة، إلى شارع «نورث كلارك» بحجة أنها حملة مباغتة من الشرطة، لمن يبيع الخمر سرا، ولكنهم حصدوهم بالرشاشات؛ فأطلقوا على ستة منهم 70 طلقة في 30 ثانية، وكان الإيرلندي رئيس العصابة محظوظا، فعند رؤيته الشرطة على باب وكره، انسل وفارق المكان، ولم يكن القاتل المحترف «ماكدون جيبالدي» المكلف بقتل باغز المذكور يعرفه؛ فظنه مع المقتولين، ولكنه نجا بالصدفة. وكذلك تفعل الأقدار كما حصل مع مصرع علي رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم، ونجاة معاوية حين ضربه الخارجي على استه فقطع نسله ونجا معاوية، أما الداهية «عمرو بن العاص» فشم الرائحة فأرسل رئيس شرطته، فقتل الشرطي ونجا عمرو، كما نجا في معركة صفين مع خدعة رفع القرآن على رؤوس الرماح، ولم يكن يهمهم القرآن بقدر كرسي الحكم والصولجان.

أما نهاية كلا العصابتين فكانت أن مات آل كابوني في السجن عام 1931م، واعتقل باغز ومات في السجن بعد عشر سنوات أسيرا مقيدا.

وتذكر الوقائع أنه في ظل تحريم الخمر بدأ الناس يصنعون الخمر سرا، وافتتح أكثر من مائة ألف محل إضافي سري، وثبت أن القوانين من فوق غير مفيدة، في اقتلاع هذه العادة السيئة من الشعب الأمريكي، مع كل معرفتهم أنها ضارة. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.

وبعد أكثر من عقد من السنين من تحريم الخمر في الولايات المتحدة الأمريكية، واعتقال مئات الآلاف، وموت عشرات من الناس في المخالفات القانونية، لم تنجح الخطة، واضطر المشرع الأمريكي إلى أن يتراجع عن القانون فأباح شرب الخمر من جديد، كما هو الحال في السلاح الذي يباع في  المحلات مثل بيع الخضر.

والإسلام نجح في اقتلاع عادة الخمر من المجتمع الجاهلي؛ لأنه تحول إلى مجتمع إسلامي جديد بتربية جديدة، ومن هنا أمكنه التخلص من الخمر، وإلى الأبد. ولا توجد عندنا في مجتمعنا الإسلامي مشكلة ملحة معه، خلافا للمجتمعات الأوروبية. ويعتبر المؤرخ البريطاني توينبي أن الإسلام يشكل حاجة إنسانية، ويمكن أن يؤدي دورا في جوانب شتى، منها تخليص الجنس البشري من مرض الكحول، الذي يجب القضاء عليه. مع هذا فالشحرور الشامي، صاحب كتاب «القرآن والكتاب»، أفاد بأن الآية لا تنص على التحريم بل الاجتناب، والاجتناب أشد في التحريم بعدم الاقتراب مطلقا، ولكننا مع الفقهاء الجدد نلعب مع الشياطين. وإنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟

 

نافذة:

الإسلام نجح في اقتلاع عادة الخمر من المجتمع الجاهلي لأنه تحول إلى مجتمع إسلامي جديد بتربية جديدة ومن هنا أمكنه التخلص من الخمر وإلى الأبد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى