فليكس فينيون.. رائد القصة القصيرة جدا
ترجمة وتقديم: سعيد الباز
الناقد والصحفي الفرنسي فليكس فينيون Félix Fénéon (1861-1944) ظاهرة أدبية نادرة الحدوث. فهو، كما يقال عادة، ملأ الدنيا وشغل ناس الأدب والفن في فرنسا طوال عقود عديدة أغنى فيها الساحة الثقافية الفرنسية بالكثير من المقالات الصحفية في مجال الفنون التشكيلية والنقد الأدبي، دون أن يترك وراءه كتابا منشورا، فكل أعماله تمّ تجميعها في كتب صدرت بعد وفاته. عرف فليكس فينيون بمواكبته للحركة التشكيلية، فقد كان قريبا من المدرسة الانطباعية وما تطور عنها من تيارات حديثة، فإليه يرجع الفضل في صياغة مصطلح المدرسة الانطباعية الجديدة فضلا عن تحليلاته النقدية التي تمّ اعتمادها من قبل كلّ التيارات الحديثة خلال القرن العشرين. في المجال الأدبي كان من السباقين إلى نشر العملين الوحيدين للشاعر الفرنسي آرثور رامبو والتعريف بقيمته الشعرية، إضافة إلى الكثير من الشعراء والكتاب الشباب مثل أبولينير.. أمّا على المستوى السياسي، فقد كان منتميا إلى التيار الفوضوي رغم كونه موظفا في وزارة الحرب، هذا التيار الذي كان يدعو إلى ممارسة العنف الثوري والقيام بعمليات إرهابية ضد الدولة، ما عرضه إلى الاعتقال ومحاكمته مع مجموعة من الفوضويين في محاكمة شهيرة سميت “محاكمة الثلاثين”. أثناء هذه المحاكمة اكتسب فينيون شهرة كبيرة حيث تناقلت كبريات الصحف إجاباته لرئيس المحكمة التي استطاع فيها أن يفند كل الادعاءات ويسقطها الواحد تلو الآخر. كان الشاعر ستيفان مالارمي من الشهود اللامعين والداعمين لفليكس فينيون ما أجبر المحكمة على تبرئته رغم ثبوت وجود أجهزة قابلة لصنع متفجرات في مكتبه بوزارة الحرب. بعد هذه المحاكمة ابتعد فليكس عن الفوضويين وإن ظل بقية حياته متعاطفا مع الشيوعيين. اشتهر فينيون، أيضا، صحفيا لامعا أدار العديد من المجلات والصحف، ومن خلال عمله الصحفي ابتكر هذا النوع الأدبي الجديد، فقد كان مكلفا بعمود مختصر يتناول الحوادث التي تقع ليقدمها بصياغة مبتكرة. اختار فينيون لهذا الشكل اسم قصص في ثلاثة أسطر بشكل مجازي أما في الواقع فهي قصة من سطر واحد يتشكل من ثلاث لحظات، اللحظة الأولى الحدث واللحظة الثانية ذروته واللحظة الأخيرة نهايته، لكن فينيون لم يتقيد تماما بهذا التقسيم، فمقدرته على توظيف تقنية الحذف والإيجاز مكنته من تحقيق ما يسمى عند إدغار آلان بو “وحدة الأثر”. لقد نجحت القصص القصيرة جدا لفليكس فينيون وتتبعها آلاف القراء في فرنسا، وطغت هذه الشهرة على باقي إنجازاته النقدية والأدبية.. لا ننسى أن جائزة فينيون للشباب تنسب إليه، فبعد وفاته قررت زوجته تخصيص كل ثروة زوجها لهذه الجائزة عرفانا بما قدمه في مجال تشجيع الكتاب المبدعين الشباب.
نقترح في هذا الملف، في البداية، نماذج من قصصه القصيرة جدا وأخيرا إجاباته خلال المحاكمة الشهيرة.
قصص في ثلاثة أسطر
1
Verniot المتسول السبعيني من كليشي مات جوعا. 2000 فرنك كانت مخفية في فراشه. لكن لا ينبغي تعميم الأمر.
2
تبادل في مقهى بشارع فونتين، Lenoir وAtanis بخصوص زوجتيهما الغائبتين بعض الطلقات من الرصاص.
3
ثلاثة سكيرين من مدينة ليون انهالوا بالضرب على الآنسة Anselmet، مديرة حانة، تدخل عشيقها فأطلق النار، قتل واحدا وأصابه بجروح.
4
في محطة Vélizy كنّا، لكن القطار مازال قيد السير. السيدة «جيغر» غير الصبورة كسّرت ساقيها.
5
انفجار غاز في بيت Larrieu من بوردو، أصيب بجروح، شعر حماته احترق، السقف انهار.
6
في Oyonnax الآنسة كوتي 18 سنة، لغاية الانتقام رمت السيد بسنار 25 سنة بماء النار. الحبّ بطبيعة الحال.
7
تم تقديم شكاية من قبل الطبيب الإيراني جاي خان ضد مواطنه الذي سرق منه تاجا.
8
الممرضة Élise Bachmann التي كان يوم السماح لها بالخروج أمس، ظهرت مجنونة في الشارع.
9
مبتهجا صاح القاتل Lebret: كنت سأحصل على أكثر! المحكوم عليه في مدينة روين بالمؤبد مع الأشغال الشاقة.
10
الطبيب المكلف بتشريح جثة الآنسة Cuzin من مارسيليا التي ماتت في ظروف غامضة خلص إلى: الانتحار خنقا.
11
معتبرا ابنته (19 سنة) قليلة التقشف، الساعاتي stéphanoisJallat قتلها. صحيح بقي له أحد عشر أولادا آخرين.
12
في حريق وجيز في Cambronne (في مترو الأنفاق) أصيب رجل الإطفاء بشظايا زجاج ومدير المحطة بحروق في العين.
13
غيور مثل زوج، طعن Louis Dubé في شارع فلاندر عشيقته Florence Prévost.
14
هل قتل Onofrias Scarcello أحدا في «شارم» بالمارن العليا يوم الخامس من يونيو؟ في كلّ الأحوال لقد تم إلقاء القبض عليه في محطة ديجون.
15
بسكين جبن قتل Coste في ضواحي مارسيليا أخته، مثله بقالة، بداعي المنافسة.
16
بدلا من 175000 فرنك في الصندوق الاحتياطي المودعة لدى قابض الضرائب المباشرة في سوسة(تونس)، لا شيء.
17
السيدة فورنيي، السيد فوازان، السيد سيرتيو شنقوا أنفسهم. إنهاك عصبي، سرطان، بطالة.
18
في مقبرة des Essarts-le-Roi دفن السيد غوتيي بناته الثلاث. يريد استخراجهن. جثة ناقصة.
19
الزوجان Audouy من مدينة نانت المتزوجان منذ ثلاثة أشهر، انتحرا بواسطة مادة لودانوم والزرنيخ ومسدس.
20
لم يعد هناك إله من أجل السكارى: Kersilie من سان جرمان، الذي كان يحسب النافذة بابا، قد مات.
من محاكمة فليكس فينيون الشهيرة
رئيس المحكمة: هل أنت فوضوي سيدي فينيون؟
فليكس فينيون: أنا من بورغينيون ولدت في توران.
رئيس المحكمة: أكنت أيضا صديقا حميما لفوضوي آخر أجنبي، كامبفمايير؟
فليكس فينيون: آه، حميم، هذه كلمات قوية جدا، إضافة إلى أنّ كامبفمايير لا يتكلم سوى الألمانية، وأنا الفرنسية، محادثتنا ليس في وسعها أن تكون خطيرة للغاية. (ضحك)
رئيس المحكمة: في التحقيق، رفضت إعطاء معلومات عن «ماتا» و«أورتيز» (متهمان معه في نفس القضية).
فليكس فينيون: ما كان يهمني هو ألّا أقول شيئا بإمكانه أن يعرّضهما للخطر، وسأتصرف على نفس النحو تجاهكم سيدي الرئيس، إذا ما اعترضتكم نفس الحالة.
رئيس المحكمة: لقد ثبت أنك قد حوطت نفسك بكوهين وأورتيز (متهمان معه في نفس القضية).
فليكس فينيون: لتحوّط شخصا ما، يحتاج الأمر على الأقل إلى ثلاثة أشخاص. (انفجار الضحك)
رئيس المحكمة: لقد شوهدت وأنت تتحدث إلى فوضويين خلف عمود إنارة.
فليكس فينيون: هل بإمكانكم سيدي الرئيس أن تخبروني، أين يوجد خلف عمود الإنارة؟ (يتعالى الضحك ويطول، فيأمر الرئيس بالتزام النظام خلال الجلسة).
رئيس المحكمة: تمّ العثور في مكتبك بوزارة الحرب على أحد عشر صاعقا مفجرا وزجاجة من الزئبق، من أين أتيت بها؟
فليكس فينيون: كان والدي قد توفي منذ زمن قليل، وفي دلو من الفحم أثناء نقل أغراض البيت عثرت على هذه الأنابيب، ولم أكن أعلم أنّها صواعق للتفجير.
رئيس المحكمة: صرحت والدتك أثناء التحقيق بأن والدك كان قد عثر عليها في الشارع.
فليكس فينيون: هذا من الممكن جدّا.
رئيس المحكمة: هذا غير ممكن، لا نعثر على صواعق التفجير في الشارع.
فليكس فينيون: سألني قاضي التحقيق كيف تأتى هذا الأمر، بدلا من أن تحملها إلى الوزارة لماذا لم ترم بها من النافذة، هذا يدلّ على أنّ من الممكن جدا العثور عليها في الطريق العام. (ضحك)
رئيس المحكمة: ما كان على أبيك أن يحتفظ بهذه الأشياء، لقد كان موظفا في بنك فرنسا، ولا نرى ماذا كان بإمكانه أن يفعل بها.
فليكس فينيون: لا أعتقد بالفعل أنه كان عليه استخدامها، أكثر من ابنه الموظف في وزارة الحرب.
رئيس المحكمة: هذه زجاجة من الزئبق عثر عليها أيضا في مكتبك. هل تعرفت عليها.
فليكس فينيون: هي زجاجة بالفعل مشابهة، ولا أعيرها أيّة أهمية.
رئيس المحكمة: أنت تعلم أن الزئبق يستخدم لصنع متفجرات خطيرة.
فليكس فينيون: يستخدم أيضا في صنع ميزان الحرارة وميزان قياس الضغط الجوي وأجهزة أخرى. (ضحك)