فلسفة الكذب وأنواعه العشرة
بقلم: خالص جلبي
يقول فرانسيس بيكون: «إن خلط الكذب بالصدق مثل خلط الذهب بالفضة، قد يسهل استعماله ولكنه يحط من قيمته».
والقرآن نعى هذا الأسلوب على أهل الكتاب أنهم (يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون)، وهو من أشد أساليب الكذب خفاء. نحن هنا أمام ثلاثة أساليب في تضليل الناس: إخفاء الحقائق وتعتيمها، أو تسخيرها لمن يدفع أكثر، أما ألعنها وأخبثها فهو خلط الصالح بالطالح. هنا يحتاج الأمر إلى تمحيص ونقد وتشغيل الذهن، واستحضار آليات كثيرة لتمييز الحق من الباطل.
والكذب في الواقع ليس واحدا، بل عشرة أصناف، ويعرف باختصار أنه إخبار متعمد بخلاف الواقع. لذلك تعددت صوره كما ذكرنا:
فأما الأول (1) فهو من يتزلف للأقوياء فيمدحهم بما ليس فيهم، ولذلك جاء الحديث: (احثوا التراب في وجوه المداحين).
أما النوع الثاني (2) فهو الخفيف وهو كثير الانتشار بين الناس، بل لقد أحصي علينا أن أحدنا في كل عشر دقائق يكذب على الأقل مرة واحدة في حديثه.
وهذا اللون من الكذب عندما يدعي البعض ما ليس فيهم وهو المبالغة، ولذلك ربط القرآن بين الكذب والمبالغة بلفظ إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. وتروى في هذا قصة جحا عندما زعم أنه بنى مسجدا طوله 20 كيلومترا، وكان قد حذره صديقه من ذلك، فقال: اسعل أو اعطس إذا سمعت مبالغاتي. فلما ذكر الرقم اعترت صاحبه نوبة حساسية رهيبة وعطاس متلاحق، وبدأ في السعال حتى كاد أن يختنق، فالتفت القوم إلى جحا وقالوا له: وكم عرضه؟ قال: متر واحد، صاح الجمهور بصوت واحد: إنه أنبوب وليس مسجدا لقد ضيقته يا جحا. التفت جحا إلى صديقه الذي كان يلملم بقية سعاله، وقال: الله يضيق على من ضيق علي.
وهناك الكذب السياسي (3) وهو الذي نعرفه عن الإذاعات الغربية مثل «بي بي سي»، فهي صادقة تماما، ولكن مثل الأعور أو شبه الأعمى، بمعنى أنها تذكر التافه وتخفي المهم وتعظم الصغير وتصغر الكبير، وهي ما سماها المفكر الأمريكي (نعوم تشومسكي) فبركة الإعلام، فيكفي أن يذكروا خبرا صغيرا يكررونه حتى يتحول إلى طوفان نوح. وحاليا مع عالم الفيديو فنحن نسبح في محيط متلاطم من أمواج التفاهة والكذب.
ومن هذا النوع ما حصل من تدمير تماثيل بوذا بأفغانستان، الذي اتفق معظم علماء الأمة أنه لا يصب في النهاية مع مصلحة المسلمين تحت الآية (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله عدوا فيسبوا الله عدوا بغير علم)، والناس لا يستوعبون لعبة الصراع الفكري التي كتب عنها مالك بن نبي مطولا،
وهكذا هرع الإعلام الغربي في غير نزاهة أو موضوعية أو حياد، فكرر الخبر وضخمه، بحيث أصبحت صورتنا في العالم لا ترضي. فهذا كذب متعمد، ولكن لا يظهر منه الكذب.
والنوع الرابع من الكذب (4) هو المزج الخبيث بين الحقيقة والكذب والاقتصار على بعض الحقيقة، فتظهر نصف الحقيقة وهي ليست حقيقة، كما لو استخدم أحدهم نصف آية مثل (لا تقربوا الصلاة)، أو (يد الله مغلولة) أو (إن الله فقير). فلا يمكن معرفة الحقيقة ما لم يكمل صاحبها (وأنتم سكارى)، أو (غلت أيديهم بما قالوا)، أو (ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق). وقمت أنا شخصيا في قناتي الفكرية «رحلتي في عالم الطب والفكر»، فتحدثت عن خطورة (السوشيال ميديا Social media)، وأن علينا أن نتحرى ما ينشر من فيديوهات خطيرة. وأنا شخصيا (وقعت في مطبات ومقالب، وأنا الذي أوزع الحكمة على الناس) تحت آيتين من القرآن، الأولى التحري عن مصدر الخبر (إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). والقاعدة الثانية ما جاءت في سورة «النساء»: (وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
وهناك خامسا (5) لون خطير من الكذب، عندما يتلون الناس في أخلاقهم فيظهرون خلاف ما يبطنون وهو (النفاق)، وهم عناصر خطيرة مدمرة مثل الجراثيم في الجسم، ولذا كان مصيرهم في الدرك الأسفل من النار.
وهناك (6) عادة إخلاف الوعد وهو النفاق العملي، وهي أخلاق سيئة وكثيرة الانتشار بيننا وبكل أسف، فالألمان أفضل منا بكثير في هذه الأخلاقية. ومنه جاء الحديث أن ثلاث صفات أو أربع تسم المنافق، إذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا تحدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر.
والسابع هو التكتم على الأخبار والكذب للتعمية عليها، وهو ديدن السياسيين، ووصف أحدهم السفير بأنه رجل شريف يكذب لمصلحة بلاده. ولقد صدر كتاب كامل من سلسلة «عالم المعرفة» بعنوان «كذب القادة» جدير بالقراءة.
واللون الثامن هو الافتخار والانتفاج، والله لا يحب كل مختال فخور. وأذكر من أقربائي من كان يزعم أنه يلتقي يوميا بشخصيات خطيرة في مناصب حساسة، فكان خالي (طلعت) يبتسم ويقول باللغة المحلية «البشط طقطق = أعواد السقف، وكانت يومها بيوتا من طين وسقوفا من أعمدة قوية».
ولعل أشنع صور الكذب هي شهادة الزور التي قرنت بالشرك بالله. وما زلت أذكر تلك الحادثة من مدينة بريدة في القصيم بالسعودية، في اليوم الأول من وصولي إليها حين (خبطني) أحدهم من الخلف (سيارتي)، فقفز اثنان ليقولا إنني رجعت إلى الخلف وصدمته، وحين جاء رجل البوليس حكم عليهم أن يدفعوا التعويض، ولكنهم تهربوا وقالوا نريد محاكم شرعية. حين سمع صديقي البيلهي بالخبر قال: هؤلاء كذبة، والمحاكم الإدارية هي التي تحكم. هنا تذكرت الآية: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا). وحين قاموا بتعويض منقوص كانوا يضحكون علي، وما زلت أتذكرهم متألما عن خبث الإنسان وغدره وخبثه ورفضه للحق.
وفي الختام يتكلل البحث بالافتراء (10) الذي هو اختراع قصة لا أصل لها. وإن الله لا يحب كل مسرف كذاب. أو أشد منه حين وصف امتزاج الكذاب بالشر (كذاب أشر). ولقد اجتمعت بطبيب اشتغل معي كان من أقذر من اجتمعت بهم لا يستحق لبس المعطف الطبي، وهذا يعني أنه ليس كل طبيب ملكا، بل قد يكون شيطانا مريدا.