عندما كان المغرب مسرحا لسقوط أخطر شبكات التجسس
القصة المنسية لعمليات نازية لشراء ممتلكات بطنجة سنة 1940

يونس جنوحي
«في سنة 1941 اعترض موظف في مصلحة «أمن الراديو» البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، أمواجا غريبة ورسائل مشفرة قادمة من طنجة.
بعدما فتح البريطانيين تحقيقا في الموضوع، اكتشفوا أن الأمر يتعلق برسائل لا سلكية مشفرة ألمانية قادمة من طنجة الدولية، وموجهة إلى رادارات ألمانية فوق التراب الأوروبي.
خطط البريطانيون لنسف «عش» المخابرات النازية المقام في طنجة، وعينوا فريقا خاصا لهذا الهدف. هذا الفريق كشف مخططات نازية للتجسس في طنجة وجبل طارق، وظلت العملية محاطة بالسرية ولم يُسمح بالاطلاع على مضامين أرشيفها، إلا في السنوات الأخيرة».
الألمان خططوا لوضع رادارات بالمغرب للتجسس على سفن الحلفاء
في سنة 1941، أنهى عملاء النازية الألمان آخر لمساتهم على شبكة تجسس كانت طنجة الدولية مسرحا لها.
العملية كانت عبارة عن بناء وتشييد مخبئ في قلب طنجة، يتردد عليه مجندون نازيون، متخصصون في رصد تحركات السفن المملوكة لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، وفرنسا بدرجة ثانية.
الجواسيس الألمان الذين نشطوا في هذه الشبكة كانوا مدربين، وحاصلين على الضوء الأخضر لبذل أي مجهود داخل طنجة لحماية سرية العملية، حتى لو اقتضى الأمر اغتيال شخصيات، أو تصفية أعداء محتملين من شأنهم إفشال المخطط أو التشويش على العملية، حتى لو كانوا مغاربة.
الصحافي «نيك نيتر» كان أول من حقق في هذه القصة، ونشر معطيات دقيقة ومثيرة عن طبيعة العملية، تداولتها صحف أجنبية متخصصة في تاريخ الحرب العالمية الثانية وأرشيف النازية.
يقول هذا الصحافي الاستقصائي إن أمن الراديو البريطاني، الذي كان يراقب الاتصالات اللاسلكية المشفرة في فترة الحرب العالمية، رصد مراسلات مشفرة غريبة صادرة من طنجة، وتعقبها ليكشف مصدرها، ونجح البريطانيون في تحديد موقعها، الذي ظهر أنه في قلب مدينة طنجة، ثم نجح البريطانيون مرة أخرى في تفكيك مضامين الرسائل.
أظهرت هذه الرسائل أن مقر المخابرات النازية ينسق مع عملائه في طنجة، وهم ألمان أيضا ولم يكن بينهم أي أجنبي، لاقتناء عقارات باسم هؤلاء المجندين الألمان، من بينها منازل في قلب طنجة، بالإضافة إلى عقارات أخرى عبارة عن بقع أرضية شاسعة واقعة بمحاذاة البحر المتوسط خارج طنجة، بهدف تحويلها لاحقا إلى مراكز للمراقبة النازية للشواطئ المغربية، في قلب التراب المغربي.
ارتباطا بالموضوع، كشف لاحقا وجود مخطط لبناء محطة إذاعية على ساحل شمال إفريقيا. وكان مخططا أن يتم اقتناء أرض في المنطقة الجبلية المطلة على طنجة، باسم جاسوس ألماني يعيش في طنجة، على أن يُبنى فوقها مركز للبث وتشيد في قلبها بناية إذاعة سرية. وقد كُشف الموضوع برصد البريطانيين لعملية ألمانية، تهم اقتناء معدات تقنية خاصة بالبث على الموجات الطويلة.
هذه العقارات التي اقتناها الجواسيس الألمان، كان الهدف منها وضع لاقطات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، موجهة في اتجاه البحر، لالتقاط تحركات السفن التي تمر بين جبل طارق وطنجة الدولية، وتحويل المعطيات التي تُسجل عنها إلى مقر المخابرات النازية.
عملية الإنزال الأمريكية الشهيرة التي جرت سنة 1943 في الشواطئ المغربية، ما كانت لتنجح لو لم يفكك البريطانيون والأمريكيون شبكة الجواسيس النازية في طنجة. فقد كانت السرية الكاملة رهانا على إنجاح الإنزال الأمريكي التاريخي. ولو امتلك الألمان فعلا لاقطات الأشعة تحت الحمراء في طنجة، لكان سهلا على النازية رصد تحركات السفن الأمريكية، ساعات قبل وصولها إلى المغرب، من خلال اختراق موجات الاتصال التي ربطت بين السفن والمسؤولين العسكريين الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة الدولية خلال تلك الفترة.
«عش الجواسيس» أو «فيلا» شارع لافاليز في طنجة
ينقل الصحافي والباحث «نيك نيتر» معطيات شديدة الأهمية بخصوص فيلا مدينة طنجة، حولتها النازية إلى مقر للتجسس خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وجرى تجهيزها سنة 1940 لكي تكون مقرا لعمليات الجواسيس النازيين في قلب مدينة طنجة الدولية.
جاء في التحقيق الذي باشره هذا الصحافي، وكشف فيه معطيات مهمة من وثائق الأرشيف الاستخباراتي الأمريكي والبريطاني أيضا:
«في أبريل 1941، أرسلت هيئة العمليات الخاصة البريطانية فريقا مكونا من تسعة عشر ضابطا وسبعة رقباء، جميعهم مدربون تدريبا عاليا على حرب العصابات والتخريب والمتفجرات والأسلحة النارية والتدريب على النجاة، واستخدام أجهزة الراديو في الميدان، إلى جبل طارق. كانت مهمتهم تأخير وعرقلة تقدم العدو، إذا قررت ألمانيا غزو إسبانيا تمهيدا للاستيلاء على جبل طارق. أطلق على العملية اسم Relator»».
كان فريق العملية متمركزا في فيلا «لورديس» في جبل طارق، وكان يجلس على 10000 رطل من الجلجنيت و700 رطل من المتفجرات البلاستيكية، ناهيك عن الأسلحة المتنوعة.
وفي الوقت نفسه، كان فريق مكتب العلاقات العامة في جبل طارق ينتظر اتخاذ أي إجراء. وكان إدوارد وارتون تايجار، ممثلهم الوحيد في طنجة، ملحقا بالقنصلية العامة كموظف تشفير.
قام فريق ريلاتور في جبل طارق بتصنيع قنبلة بلاستيكية متفجرة تزن 36 رطلا، وتسليمها إلى وارتون تايجار عبر القنوات الدبلوماسية. وانتظر الأمر لتنفيذ عملية فاليز.
وأخيرا، في 9 يناير 1942، وافق السير صموئيل هوار على المهمة على مضض.
في ليلة العاشر من يناير 1942، قام عميلان من عملاء العمليات الخاصة جندهما وارتون تايجار – شيوعي إسباني ونادل يهودي – بزرع المتفجرات تحت أعمدة الفيلا. وهربا أسفل مسار الجرف، قبل لحظات من وقوع انفجار هائل. انهارت الفيلا في البحر، مما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، بما في ذلك بحار يوناني وزوجته».
العملية التي عرفت لاحقا باسم عملية «فاليز» نسبة إلى الفيلا، جعلت بريطانيا ترسم خريطة واضحة لتحركات جواسيس ألمانيا. ورغم أن الفيلا لم تُنسف في النهاية كما كان مخططا له، إلا أن الألمان خففوا من أنشطتهم، بعد اتضاح وصول الفريق السري البريطاني لإفشال النشاط النازي في مجال التجسس.
العملية كانت شجرة تخفي غابة من محاولات التجسس النازي، في قلب طنجة الدولية وجبل طارق.
ورغم أن أطوار العملية جرت في طنجة، إلا أنها عرفت في التاريخ باسم عملية جبل طارق، رغم أن الفريق لم يتخذ من جبل طارق سوى مركز لترتيب الصفوف قبل الانطلاق إلى طنجة.
هذه الصفحات السوداء من تاريخ عمليات النازية السرية في قلب طنجة الدولية وجبل طارق، ظلت مختومة بالسرية لسنوات طويلة، ولم يُسمح للباحثين بتقليب أرشيفها السري إلا في السنوات الأخيرة.
دُمرت الفيلا في وقت لاحق، لكن لم تحدد ملابسات عملية تدميرها، لكن الواضح أنها لم تُنسق كما خطط البريطانيون في العملية الأصلية. وعندما تم تدمير الفيلا لتتحول إلى «عقار مهجور» لسنوات طويلة، لم يُعثر على أجهزة التجسس الألمانية. فقد نقل الألمان معداتهم سنة 1943 إلى الضفة الأخرى، تجنبا للإحراج الكبير الذي وقع فيه الألمان عندما اتضحت معالم مخطط زرع شبكات تجسس في طنجة الدولية.
حروب جواسيس أجانب فوق التراب المغربي قبل قرن
عندما تلقى الألمان الضربة الموجعة بتفكيك خلية الجاسوسية النازية في جبل طارق وطنجة، كانوا في الحقيقة يؤدون الضريبة عن عمليات استخباراتية أخرى تكلل بعضها بالنجاح، وأخرى لم يُرفع عنها الستار إلا بعد سقوط النازية.
من الحقائق التاريخية غير المتداولة، أن الولايات المتحدة نقلت أطنانا من وثائق الأرشيف النازية لدراستها وتدقيقها، وكشف أنشطة النازية، سواء قبل 1939 أو خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
ومن بين الحقائق التي وقف عليها الأمريكيون أثناء دراسة هذه المراسلات السرية النازية، ما يتعلق بأنشطة تجسس مكثفة في المغرب، أوكلت إلى جواسيس ألمان جرى تجنيد بعضهم، ثم أرسلوا إلى المغرب، أو تجنيد ألمان مقيمين في المغرب واستعمالهم لجمع المعطيات.
ومن بين هؤلاء الألمان الذين كشفت الولايات المتحدة أمرهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، طبيب ألماني كان يقيم في طنجة الدولية منذ 1938. هذا الطبيب الألماني لم يكن في الحقيقة طبيبا، بل كان مجندا في الأجهزة السرية النازية، وأوكلت إليه مهمة دخول طنجة الدولية بجواز ألماني يحمل فيه صفة طبيب، وفتح عيادة لعلاج المرضى، ولم ينتبه إليه الأمريكيون خلال فترة الحرب، رغم أنه قدم خدمات مهمة للنازية، وكشف أماكن وجود البوارج الأمريكية وتحركات الدبلوماسيين الأمريكيين في المغرب.
هذا الطبيب الألماني، «أولاف كان»، والذي حقق معه الأمريكيون في طنجة لأربعة أشهر، حسب ما يشير إليه أرشيف قسم الاتصال في طنجة الدولية، نُقل فور اعتقاله من طنجة إلى جنوب إسبانيا، حيث جرى تسليمه إلى ضباط في القاعدة الأمريكية في جنوب إسبانيا. وعلى امتداد ستة أشهر كاملة، سجل الأمريكيون إفادات الجاسوس الألماني، وسُجلت في أرشيف العمليات التي لم يكن يعرف عنها الأمريكيون أي شيء، بحكم أن وثائقها الأصلية أتلفت في الساعات التي سبقت سقوط النازية في ألمانيا، شأنها شأن وثائق عمليات أخرى تخلص منها الألمان مع سقوط النازية.
قصة هذا الجاسوس الألماني تكشف إلى أي حد كان النازيون يركزون على المغرب، وكيف أنهم استثمروا واقع وجود مواطنين ألمان في طنجة الدولية، كانوا قد انتقلوا إليها في القرن الثامن عشر، منذ أيام السلطان مولاي سليمان، لكي ينفتحوا إما على ممارسة التجارة، أو بحثا عن حياة جديدة في شمال إفريقيا.
اهتمام النازية الألمانية الكبير بجبل طارق والمغرب
اهتمام النازية الألمانية بالمغرب ورثه الألمان تاريخيا من فترة القيصر، الذي زار طنجة وعبر في خطاباته عن طموح الألمان في الفوز بشمال إفريقيا قبل 1906.
حتى أن الألمان هددوا فرنسا بإشعال المغرب، في حال استفراد الفرنسيين بالدار البيضاء، ووضعوا غواصة في مياه مدينة أكادير في استعراض لقوى ألمانيا.
ومع توالي الأحداث، ومجيء مرحلة الحرب العالمية الأولى سنة 1914، والثانية سنة 1939، كان الألمان مهتمين جدا بجبل طارق وطنجة، على اعتبار أنهما معا بوابتان لدخول إفريقيا، والسيطرة على مستعمرات فرنسا في شمال إفريقيا، خصوصا تونس والمغرب. وقد عبرت ألمانيا صراحة خلال الحرب العالمية الثانية عن اهتمامها العسكري باجتياح المنطقة، وإخضاع البحر المتوسط كاملا.
باحثان ألمانيان هما «بيتر فين» و«رينيه فلدنغل» ألفا مرجعا مهما عن اهتمام ألمانيا بالمغرب، سيما في فترة اشتغال المغاربة في صفوف الجيش الفرنسي في إطار ما عرف تاريخيا بـ«الگوم» المغاربة. الكتاب الألماني الذي جاء بعنوان «عُميان عن التاريخ»، وتُرجم إلى لغات كثيرة عن الألمانية منها العربية، رصد وثائق أرشيف من أيام النازية، توثق لاستجواب الألمان لمعتقلين مغاربة من الگوم. وذكر الكتاب أن هؤلاء المغاربة تعرضوا للاستنطاق، وحاول النازيون انتزاع معلومات استخباراتية منهم، ثم تجنيدهم لصالح ألمانيا لاحقا، خصوصا في مرحلة احتلال النازية لباريس.
من بين الشهادات التي نقلها الكتاب، والتي تكشف كيف أن ألمانيا النازية كانت انتقائية في أخذ المعلومات من الگوم المغاربة، ما يلي:
وهنا نورد شهادة مقاتل مغربي اسمه بوعبيدي بن عياد، وهو الاسم الذي سجله به الألمان أثناء تسجيل شهادته عن الحرب:
«أقدم أحد ضباطنا، وهو رائد يدعى بواترو، على الانتحار عندما كنا في بلجيكا، وكان الألمان قد طوقونا، وكـانوا متـنكرين في صورة شجيرات عندما رآهم بواترو تناول مسدسه وأطلق النار على نفسه، ثم حاول كل منا أن يدافع عن نفسه ويقاتل، واختار بعضهم الهرب. وواصلنا السير في طريقنا عبر بلجيكا، ولست على يقين من المكـان الـذي كنا فيه عند هذه النقطة، وفي الليل كان هناك ألعاب نارية ودخـان، ثم شـرعت طائـرات كثيرة في القصف، وكان الألمان يقصفون ويدمرون الطرق والجسور والخطوط الحديدية والأنفاق، وكانوا يدمرون كل شيء، لكيلا يكون الفرنسيون قادرين على التحرك، وأخذ الجند الفرنسيون في خلـع حلـلهم العسكرية، وهربوا. ووصلنا إلى سانت-إيتين، على بعد700 كـيلومتر من باريس، وكان الألمان قد دخلوا باريس وكان هناك جنرال واحـد هو آمـر الفـرقة الثالثة والأربعين، الذي كان ذراعاه وساقاه قد انكسرن. وأمر ضباطه بأن يسلبوا أذرعهم ويتوقفوا عن القتال، وكان هناك معـه ثلاثـة مـن الضـباط المغاربة، وقالوا للجنرال إﻧﻬم ليسوا مستعدين للاستسلام، وإن هذا لن يوقفهم عن القتال حتى يموتوا (..) إن الألمان كانوا يولوننا من الرفق أكثر مما كانوا يولون به الألمان».
شهادة أخرى لمغربي سجله الألمان باسم «الطاوسي الحاج الكبير»، وتتناول أحداث ماي 1940، أي قبل تفكيك شبكة التجسس النازية في جبل طارق بمدة قصيرة، جاء فيها:
«ذهبتُ مع ضابط فرنسـي نلـتمس طعامـا، ونبحث عن طريق نخرج منها، فتسلق الضابط شـجرة، ولـوح براية بيضاء، فسألته: لماذا تفعل ذلك؟ وأجاب قائلا: لقد انقضت عشرة أيام ونحن سجناء. ثم ألقى الضابط بندقيته ورفع يديه». هذه الشهادة القصيرة التي تتعلق بما وقع أثناء وصول وحدة الجيش الألماني إلى مقر وجود خط القوات الفرنسية، جعلت الألمان يتأكدون أن الحاج الكبير لم يكن يكذب عليهم. بل إنه أضاف شهادة أخرى أثناء وقوعه في الأسر عند الألمان، بعد استسلام ضابطهم الفرنسي: «كانوا يجمعوننا في كل مساء كمـا تجمع الأغنام، وكانوا إذا ﻧﻬض أحد منا يطلقون النار، ولم نكن نأكل شـيئا سـوى الأعشاب. وذات مرة في ألمانيا، أخذ الأسرى بالقطار إلى بـرلين، حيث دعت السلطات الألمانية المدنيين ليأتوا فيبصقون علينا، وكانوا يسموننا السود القذرون».
الملاحظ أن الإفادات التي أخذها الألمان في هذا التاريخ على لسان الگوم المغاربة الذين استجوبوهم، أو بالأحرى حققوا معهم، لم تكن تقدم أي معطيات استخباراتية لصالح الألمان، ولم تتجاوز حد تقديم ما يعرفه أولئك المجندون من معطيات بخصوص انتشار وحدات الجيش التي كانوا يقاتلون في صفوفها، وفطن الألمان إلى أن أغلب الگوم أميون، ولن يكونوا أبدا مصدر معلومات استخباراتية دقيقة تعتمدها النازية.
مضيق جبل طارق أيام مولاي سليمان.. قرون من مراقبة المغرب
الموقع الجغرافي لمضيق جبل طارق جر على المغرب الكثير من المشاكل الدبلوماسية، ووضع البلاد في قلب حروب وخلافات سياسية مع الدول الكبرى، مثل بريطانيا وفرنسا، خصوصا خلال فترة القرنين 17 و18، وصولا إلى السباق الاستعماري في القرن التاسع عشر.
من بين الأزمات التي كان جبل طارق مسرحا لها، كان وقتها قد أصبح تحت سيطرة البريطانيين، وهو ما ضايق الفرنسيين كثيرا، قضية مقتل موظفين بريطانيين في عدد من المدن المغربية، فنشرت المملكة المتحدة قواتها في جبل طارق تحسبا لأي طارئ، وهو ما جعل فرنسا تتوجس من الخطوة البريطانية. حدث هذا سنة 1805.
كان وقتها المولى سليمان سلطانا للمغرب، وكان هذا السلطان العلوي قد وافق على إغاثة البريطانيين. فبعد قرار نشر القوات العسكرية في جبل طارق، وجد البريطانيون أنفسهم أمام تحد حقيقي يتمثل في إطعام الجنود والموظفين الإضافيين الذين جرى تعيينهم في المضيق. وهكذا سمح المولى سليمان بوصول الطعام والماشية التي اشتراها البريطانيون من السوق المغربية، إلى جبل طارق. وهذا الأمر أزعج فرنسا كثيرا.
أحد الأكاديميين الأجانب الذين أرخوا لهذا الحادث، هو د. روجرز، وقد حقق في حزمة من الوثائق والمراسلات البريطانية، التي وثقت لهذه الواقعة التي أنقذ فيها المولى سليمان البريطانيين في جبل طارق ومنع عنهم مجاعة حقيقية.
وقد اكتشف هذا المؤرخ البريطاني وثيقة غاية في الأهمية، تتمثل في مرسوم أصدره السلطان مولاي سليمان يؤكد فيه موافقته على إمداد البريطانيين بما يحتاجونه في جبل طارق، لكي تبقى الوثيقة شاهدة على واحدة من الحوادث المنسية في تاريخ هذه المنطقة المثيرة للجدل:
«كانت موافقة السلطان على تصدير الماشية إلى جبل طارق بالرسوم المنخفضة، دليلا على رغبته القوية في الإبقاء على حسن العلاقات مع بريطانيا، التي اعتبرها المدافع الوحيد عنه في مواجهة الفرنسيين والإسبان. وكان الأسطول البريطاني الدرع الأساسي في القيام بهذا الدور. وكان هذا الأسطول بدوره يعتمد على حسن النوايا المغربية للحصول على الإمدادات المطلوبة، أثناء طوافه في البحر المتوسط أو المحيط الأطلنطي. وكان نلسون، قائد هذا الأسطول، قلقا من هذه الحقيقة أشد القلق. وقد عبر عن هذا القلق في الرسالة التي كتبها إلى القنصل العام السيد «ماترا»، من على ظهر سفينته فيكتوريا، والتي كانت راسية أمام لشبونة، والمؤرخة في 25 شتنبر عام 1805، قبل أسابيع قليلة من موقعة الطرف الأغر، وقد جاء فيها:
«ينبه عليكم اللورد كاسلري باستخدام كل ما لديكم من نفوذ وبذل كل ما تملكون من جهد، حتى يحصل الأسطول في أي ميناء بالمغرب على احتياجاته من الثيران والأغنام والدجاج وأي شيء آخر، وأن يؤتى بها إلى السفن وهي أحياء حالما أطلبها. ولما كان من المرغوب فيه أن نكون على أحسن وفاق، سواء مع الإمبراطور أو مع حاكمي طنجة وتطوان أو غيرهم من الرجال في تلك الجهات، فأكون شاكرا إذا ما أبلغتموني المطلوب مني تجاه هؤلاء الأشخاص، وسوف أحصل عليه وأرسله إلى كل منهم مع الخطاب المناسب، إذا ما كتبتم إلي بأسمائهم وألقابهم. باختصار ينبغي أن نكون على أحسن حال معهم. وأرجو أن تقدم كل عون في إبقائنا على أفضل الحكومة والحكام.. الخ. الواقعين في دائرة قنصليتكم والتي تعتمد عليها حالة الأسطول تحت قيادتي إلى حد بعيد».
لم يقف المولى سليمان عند هذا الحد، ففي عهده دائما، وقع المغرب اتفاقا مع بريطانيا يقضي بتخفيض الرسوم الجمركية بين البلدين، وهو ما أنعش التجارة، وسمح بتشكل جالية من التجار المغاربة الذين استقروا في جبل طارق، ومن هناك إلى مانشستر ولندن، وصار الجيل الثاني من أبنائهم مواطنين بريطانيين شأنهم شأن الأسر التي هاجرت إلى بريطانيا من مستعمرات آسيا».
طنجة الدولية في قلب حروب التجسس
بعض الشخصيات الأجنبية التي عاشت في المغرب ما بين سنتي 1930 و1950، كانت محط الكثير من الشكوك.
الأمريكيون الذين كانوا يعملون في طنجة، وبالضبط في مقر المفوضية الأمريكية التي ما زالت موجودة إلى اليوم، كانوا يشتغلون في صفوف الاستخبارات الأمريكية، ومهمتهم كانت مراقبة الاتصالات في طنجة ومضيق جبل طارق، والتجسس على الشخصيات التي تثير الشبهات.
في تلك الفترة التي كانت فيها أوروبا تغلي تحت نيران الحرب، جاء بعض الأجانب من مختلف الجنسيات، من الشرق للاستقرار بطنجة.
بعضهم كانوا أطباء أو أطرا عليا من دول أوروبا الشرقية ومن جنسيات عربية ومسلمة، وقدموا رواية مثيرة عن السبب وراء انتقالهم إلى طنجة للاستقرار.
كل هؤلاء كانوا في عيون الأمريكيين جواسيس محتملين اختلقوا قصصا للتغطية على الهدف الأساسي لمجيئهم إلى طنجة الدولية، وهو التجسس لصالح ألمانيا خلال الحرب، أو لصالح روسيا بعد سنة 1945.
خلال الحرب العالمية الثانية لم يكن بعض الأجانب المقيمين في طنجة يخفون إعجابهم بشخصية هتلر، زعيم النازية، بل وكانوا يحرصون على تقديمه على أنه بطل قومي يواجه المد الأمريكي لوحده.
الأمريكيون في مقر المفوضية الأمريكية كانوا يترجمون مضامين الخطابات التي تلقى بمختلف اللغات، وما ينشر في الصحف الأجنبية، ويرصدون الأسماء والشخصيات النشطة، ويُعدون تقارير بشأنها، ما زالت مضامينها موجودة إلى اليوم في قسم أرشيف «CIA» وفي مؤلفات بعض متقاعدي الاستخبارات الأمريكية، الذين اشتغلوا في الجهاز خلال فترة الحرب العالمية.
الخلاصة التي يمكن الخروج بها بعد الاطلاع على عينات من هذا الأرشيف، أن الأمريكيين كانوا يركزون كثيرا على طنجة الدولية، ويرصدون كل الأنشطة التي تجري بها ويحاولون ربطها بأنشطة سوفياتية. بدءا من التنصت على المكالمات الهاتفية، وصولا إلى مراقبة أجهزة الاتصال التي ثبتها الأمريكيون أنفسهم في جنوب إسبانيا.
المواطنون الألمان الذين كانوا يعيشون في طنجة، كانوا بدورهم تحت المراقبة. وتشير التقارير الأمريكية إلى أن ما يزيد على خمسين ألمانيا، كان بعضهم قد أدوا الخدمة العسكرية في ألمانيا في فترة ثلاثينيات القرن الماضي، كانوا جميعا تحت المراقبة الأمريكية في طنجة. ودقق الأمريكيون حتى في سبب هجرة هؤلاء الألمان من ألمانيا إلى طنجة الدولية في ذلك الوقت، وراقبوا تحركاتهم واتصالاتهم وأنشطتهم. بل إن الاستخبارات الأمريكية صرفت ميزانية خاصة لاقتناء منازل بالقرب من المنازل التي كان يقطنها هؤلاء الألمان. ورغم ادعاء أغلبهم أنهم لا يمارسون أبدا أي نشاط سياسي نازي، إلا أن موظفي المفوضية الأمريكية في طنجة ظلوا يعدون عنهم تقارير مفصلة حتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945.
في الأخير، رصد الأمريكيون تحركات ألمانية كان يفترض أن تكون سرية، لكن بفضل المراقبة اللصيقة عرى الأمريكيون محاولات تجسس نازية، واعتبروا رصدها وتفكيكها انتصارا قويا للحلفاء خلال فترة واحدة من أعنف الحروب التي عرفها العالم، وكانت طنجة الدولية مركزا لها.