عندما كان التلفزيون أثقل صناعة في المغرب.. كواليس التلفزيون خلال سنوات الرصاص
كانت الهواتف تتحرك ليس فقط من القصر الملكي بالرباط، وإنما أيضا من الإقامات الفخمة للوزراء المقربين من الملك الراحل الحسن الثاني، لإيقاف البث أحيانا أو لاقتراح بعض الأسماء لكي تمنح لها فرصة دخول كل البيوت المغربية، من الشاشة الصغيرة.
كان هذا في بداية عهد التلفزيون في المغرب. مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كان التلفزيون المغربي في طور التأسيس. وكان وقتها الوزير والمستشار القوي أحمد رضا اكديرة في قمة مجده السياسي. حتى أنه في بداية الستينات دائما، قام بوقف بث أول برنامج سياسي حواري في تاريخ المغرب. والأكثر من هذا أنه كان حاضرا في مسرح الرباط، الذي كان أول مقر للتلفزة المغربية قبل أن يبنى مقر التلفزة. كان اكديرة يجلس بجوار مخرج البرنامج ويأمره بوضع الزوايا المناسبة والتركيز على وزير المالية وقتها، الذي كان من حزب اكديرة، لكي يحرج وزير المالية السابق لحكومة 1959-1960 الذي كان ينتمي إلى حزب الاستقلال. لكن الوزير الأسبق استخرج وثيقة تدين وزير جبهة اكديرة وتحرجه، فما كان من اكديرة إلا أن انتفض غاضبا وأمر بقطع البث.
من سوء حظ اكديرة الذي كان وقتها وزيرا للداخلية (ما بين سنتي 1962 و1963) أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يتابع الحلقة شخصيا، وأمر بإعادة البث، لكن الأمور في المسرح كانت قد خرجت عن السيطرة.
هذه فقط حكاية واحدة من «زمن» التلفزيون المغربي وبداياته الأولى. وللأمانة، فقد بقي التلفاز يحظى بالأهمية نفسها طيلة عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أي من سنة 1961 إلى 1999. كان التلفزيون المغربي دائما مرآة للسلطة، ولسان حال «الرباط» التي كانت مركزا قويا للإدارة.
هذه الواقعة رواها الإعلامي والإذاعي المغربي الشهير «بن ددوش» الذي كان من أوائل المواطنين المغاربة الأوائل الذين يقتحمون الإذاعة، ويصبح مذيعا رسميا في الإذاعة المغربية التي كان يسيطر عليها الفرنسيون، خلال بداية الخمسينات. ويشرف على تغطية أحداث مهمة ونقلها إلى المستمع المغربي باللغة العربية.
عندما جاء التلفزيون مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كانت لدى بن ددوش مسؤوليات داخله، وكان هو وغيره من الإذاعيين واعين جيدا بخطورة التلفزيون، رغم أنهم كانوا مقتنعين أن الملك شخصيا كان لا يزال يحب الراديو، خصوصا وأن أغلبية المغاربة في ذلك التاريخ لم يكونوا قادرين ماديا على اقتناء جهاز تلفزيون. ففي بداياته كان حكرا على الأعيان وقلة من العائلات المحظوظة، ورغم ذلك فقد استطاع التأثير بشكل كبير في حياة المغاربة.
أول مدير للتلفزة المغربية كان رجلا مغربيا نشأ في الظل وحاول البقاء فيه، لأنه كان واعيا بخطورة شمس السياسة وعالم السلطة.
يتعلق الأمر هنا بـ«حرازم غالي». كان رجلا من رجالات الأبيض والأسود، وواحدا من الذين ابتلعهم التلفزيون في زمن رجالات الحسن الثاني الأقوياء. كان عليه أن يكون مسؤولا عن أخطر وسيلة في يد السلطة، في وقت كان المغرب يعيش فيه على إيقاع القمع وتراجع الحريات وسنوات الرصاص وحالة الاستثناء ومحاكمة الوزراء وإغلاق البرلمان وتزوير الانتخابات والاستفتاء، الذي سبق ولادة أول دستور مغربي وما تلا ذلك من اتهامات قادتها المعارضة ممثلة في اليسار، بتزوير الاستفتاء وحتى الطعن في الدستور. كل هذا وقع في النصف الأول من سنوات الستينات، بينما حرازم غالي كان عليه أن يواصل الرحلة على متن «صندوق العجب»، ليعيش أمورا عجيبة فعلا في حياته.
عندما صاح الجنرال أوفقير رافضا مشروع محو الأمية: يلزمني المزيد من البوليس
ما بين سنوات 1968 و1969، والمغرب يعيش على إيقاع تلك السنوات الرتيبة اجتماعيا والساخنة سياسيا، كان حرازم غالي في بيته، يقضي وقتا عائليا في الرباط. توصل باستدعاء رسمي ليقابل الجنرال أوفقير. توصل حرازم غالي بالاستدعاء من البوليس، بحكم أن الجنرال وقتها كان بالإضافة إلى مساره العسكري وزيرا للداخلية والإعلام، بعد أن كان أيضا مديرا عاما للإدارة العامة للأمن الوطني.
كان الأخ الأكبر لحرازم غالي، مدير التلفزة المغربية، حاضرا في المنزل، علق فورا على الواقعة بكثير من الخوف: «اطلب المغفرة بسرعة من الجنرال حتى لا تنتهي حياتك. قل له كل شيء ولا تنتظر».
كانت مشاعر قوية تتحرك في صدر حرازم غالي، الخوف من الجنرال أوفقير كان يسيطر على أغلب الذين كانوا يسمعون الحكايات التي التصقت بالرجل وصنعت هيبته العسكرية.
هكذا كتب إدريس غالي ما رواه له والده عن الواقعة. الحوار جرى طبعا باللغة الفرنسية، وهي اللغة التي ألف بها إدريس غالي كتابه عن حياة والده. بدأ الجنرال أوفقير يتحدث، بمجرد ما دلف حرازم غالي مكتبه:
«-حرازم. هل أنت الذي أرسلت طلب إعانة مالية من البنك الدولي؟ يسأل أوفقير.
-نعم، «مون جنرال».
-لماذا أرسلت الطلب؟
-البنك الدولي يريد منح المغرب لكي يؤسس تلفزيونا تعليميا.
-قلت تلفزيونا تعليميا؟
-نعم «مون جنرال».
– جيد. تفضل، هذا ملفك يمكنك إحراقه فورا. لا أريد أن أسمع عن هذا الموضوع».
لم تكن هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها حرازم غالي، بصفته مديرا للتلفزيون المغربي بالجنرال أوفقير. المهمة التي كان يشغلها السيد غالي كانت تحتم عليه الحضور في القصر الملكي بالرباط وأحيانا مرافقة الملك الحسن الثاني، سواء إلى الخارج أو إلى الأقاليم التي كان يزورها أثناء جولاته الداخلية، والتي بدأ التلفزيون المغربي ينقلها منذ سنوات مبكرة من عهد الملك الحسن الثاني.
لكن هذا اللقاء المكتبي كان الأول من نوعه، إذ لم يسبق لحرازم غالي أن استدعي بشكل رسمي من طرف الجنرال. لذلك كانت مشاعر القلق تسيطر على العائلة في تلك الفترة، خصوصا وأن أجواء نهاية الستينات كانت مشتعلة بالأحداث التي انتشرت فيها أخبار الاختفاءات والاختطافات والاعتقالات والمحاكمات والتعذيب.
يواصل إدريس غالي متحدثا عن والده والجنرال: «أشار الجنرال بأصبعه إلى الملف الذي كان والدي قد سلمه قبل يوم إلى وزارة الشؤون الخارجية. بضع أوراق مرقونة بلغة شكسبير. جاهلا للإنجليزية، وهي اللغة التي لم يفلح والدي في تعلمها. حصل والدي على مساعدة من طرف صحافي وقتها بالتلفزيون، وهو اليوم رئيس لجامعة مغربية كبيرة».
يواصل إدريس غالي استحضار الحوار الذي أخبره به والده. وهكذا انتهت قصة تمويل البنك الدولي:
«-تحت أمرك «مون جنرال».
-هل تكرهني أنت أيضا يا حرازم؟
-لا «مون جنرال».
-حرازم، في المرة المقبلة التي تريد فيها إرسال شيء ما إلى البنك الدولي، تطلب أولا الموافقة من مدير ديواني.
-نعم «مون جنرال». الملف تمت مراقبته من طرف المالية. المدير العام لـRTM مرره أيضا إلى مجلس الإدارة.
-لا يهمني. أنا وزير الداخلية والإعلام. كل ما تقوم به يجب أن يكون تحت مراقبة مكتبي.
-مفهوم «مون جنرال».
-ماذا يوجد في ملفك؟
-«مون جنرال»، لقد شرحت للممولين أن المغرب يريد أن يقطع مع الأمية، لكن تنقصنا الوسائل لتعليم كل الأطفال. حاليا، يمكن تمويل التعليم الإعدادي الذي يعرف انقطاعا كبيرا للتلاميذ في الأوساط الفقيرة والمعوزة. التلفزيون التعليمي، عبارة عن استوديو في مقر كل عمالة لكي يبث محليا برامج دعم مدرسي ودروسا في اللغة.
-هذا ما كان ينقصنا، دروس لغة للرعاة في الأرياف.
-ليس هذا فقط «مون جنرال»، هذا النظام يمكن أن يغطي كل التراب الوطني بفضل موجات الراديو. البنك الدولي يريد تمويل المشروع مائة بالمائة: الأستوديوهات، الراديو، والربط بالاتصال.
-اسكت. أنت تغضبني بقينك. أنت تثق بخزعبلات مموليك الفرنسيين. يبدو لي أن «طومسون» هو الذي أدخل هذه الأمور إلى رأسك، والآن تريد غمر البلاد بالهوائيات اللاقطة لكي ترضيه.
-مفهوم، «مون جنرال».
-التقنيون التابعون لك لا يفكرون إلا مثلك. إذا أطلقت تلفازك التعليمي، سوف أضع استقالتي. هل تعرف كم شرطيا لدي في الدار البيضاء؟ ألف. أقول لك ألف. هل تعرف كم ينقصني؟ عشر مرات ضعف ذاك العدد. هل بنكك الدولي هو الذي سيدفع لي مقابل العناصر التي أحتاجها؟ علي أن أختار ما بين شراء المعدات وتوظيف رجال شرطة، وأنت تريد استثمار المال لتعليم «المتسولين» مبادئ المعارضة. إذن أنا أمنعك. عد لزيارتي عندما تحصل على دعم لوزارة الداخلية. عندها فقط سوف أدعك تؤسس تلفازك الذي تريده.
خذ. أخبر أصدقاءك الفرنسيين أن «المخزن» يحتاج إلى ثكنة جديدة في عين شكاك».
عندما كادت تجهيزات التلفزة المغربية تقتل القذافي
من بين الطرائف التي نقلها إدريس غالي عن والده، تلك التي تتعلق بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي. كان حرازم غالي يخبر ابنه، في سنوات تقاعده، خصوصا منتصف التسعينات، عن واقعة تجمع بين الطرافة والرعب، وكان دائما يردد: «ربما لو مات القذافي في ذلك اليوم، سيموت والدك أيضا وبالتالي لم يكن وجودك أيضا ممكنا».
يقول إدريس غالي: «في سنة 1969، استضاف المغرب أول قمة للدول الإسلامية. كان هناك زعماء قوميون مثل جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة، حلوا بمدينة الرباط. (..) كان والدي قد أشرف على وضع وتركيب المعدات اللازمة لنقل مجريات الندوة الصحفية التي عقدت في فندق هيلتون، والذي كان قد افتتح حديثا قبل ثلاث سنوات على القمة. كان هناك مصباح قوي تم وضعه على مقربة من مكان وجود معمر القذافي، الذي كان بدوره قد وصل لتوه إلى السلطة. القذافي وقف في مكانه لدقائق طويلة. كانت كتلة المصباح الضوئي كبيرة. بضع عشرات الكيلوغرامات من الكتلة المعدنية مثبتة على الأرض: «لقد كدنا أن نقتل الكولونيل القذافي. الألطاف الإلهية حالت دون إصابة أحد بجروح. لكني كنت عاجزا عن النوم لأيام بعد تلك الواقعة. هل تتصور ماذا كان سيقع لو انكسر حامل المصباح الكبير وسقط قبل دقائق فقط؟ ربما كان المغرب سيتعرض لاعتداء من طرف أقوى أعدائه اللدودين، لكن بالنسبة إلي، كان رأسي سيقطع ولم تكن لتولد أنت»».
يقول إدريس غالي إن والده كان يدرك متى كان عليه أن يتكلم ومتى كان عليه أن يبقى صامتا. لقد كانت الفترة التي قضاها، بدون شك، على رأس التلفزيون والإذاعة المغربية ما بين سنوات الستينات والسبعينات، كافية لكي يدرك أن السلطة ودهاليزها السرية تقتضي أحيانا أن يلزم شهودها الصمت، وأن ينقلوا معهم بعض الأسرار إلى قبورهم. مثال على هذا الأمر، يتجسد بقوة عندما أصر إدريس غالي على والده لكي يحكي له بعض الأمور التي كانت تشغل بال مغاربة جيل السبعينات، والتي تتعلق برواية «انتحار» الجنرال أوفقير. يقول حرازم غالي مجيبا ابنه الذي نقل عنه هذه الأسطر بأمانة. يستحسن أحيانا ألا تعرف ماذا وقع بالضبط بخصوص بعض الأحداث، لكي تحافظ على حياتك.
كيف كان التلفزيون أثقل صناعة في المغرب؟
كل الأحداث المهمة التي عاشها المغرب، كان التلفزيون الرسمي حاضرا فيها بقوة. حتى أن الملك الحسن الثاني شخصيا كان حريصا على تفاصيل مواكبة التلفاز للأحداث، أكثر مما كان مهتما ببقية التفاصيل الأخرى. وحسب الخبراء السابقين بدهاليز وأسرار وزارة الداخلية، فإن الملك عمل شخصيا على اقتناء آلاف أجهزة التلفاز وتوزيعها بإشراف من وزارة الداخلية عن طريق العمال والولاة، خلال سنوات السبعينات، لكي يتابع الشعب خطاباته من المقاهي، متغلبا بهذه الطريقة على الإكراه التقني المتمثل في افتقار عدد كبير من الأسر المغربية إلى أجهزة التلفاز، مقابل اكتساح كبير للراديو.
عندما استعملت تقنية البث بالألوان في منتصف السبعينات، بالضبط سنة 1973، كان السواد الأعظم من المغاربة عاجزين عن اقتناء تلفزيون بالأبيض والأسود، فما بالك بجهاز يدعم تقنية استقبال البث بالألوان. ورغم ذلك، فإن الملك الحسن الثاني احتفل بهذا التطور التقني في التلفزيون المغربي، وحضر شخصيا لعملية إطلاق البث بالألوان، وكان حرازم غالي باعتباره مديرا للتلفزيون، بجانبه لكي يطلعه على مستجدات تلك العملية التقنية.
وحدات البث التي كانت تكلفتها مرتفعة جدا في تلك السنوات، كانت ترافق الملك الحسن الثاني في كل تحركاته، ليس فقط أثناء بث الخطابات الملكية في المناسبات الكبيرة، ولكن أيضا لتغطية كافة الأنشطة التي يقوم بها، كما أنه حرص شخصيا على الاستعانة بخبراء في الديكور وتقنيين في تناسق الألوان لاختيار كل الفضاءات وحتى اللباس الذي يتقرر أن يظهر به ملك البلاد في الخطب الرسمية. لقد كان التلفزيون في تلك السنوات المبكرة صناعة مستقلة.
لذلك كان الملك الراحل، حسب بعض الشهادات التاريخية، يعرف جل تقنيي التلفزيون المغربي بأسمائهم، وليس فقط اسم المسؤول الأول أمامه عن التلفاز. كان يعرف التقنيين والمذيعين، ويرسل أحيانا ملاحظات إلى المسؤولين عن بعض البرامج التي يتابعها. وكان معروفا وقتها أن المشرفين المغاربة على الإعلام العمومي كانوا كثيرا ما يقتبسون من التلفزيون الفرنسي الكثير من الأفكار، خصوصا عندما يتعلق الأمر بطريقة تقديم النشرات وبناء الربورتاجات حتى أنه جرت ترجمة عبارات بعينها من الفرنسية لكي يستعملها المذيعون المغاربة في تغطياتهم باللغة العربية.
طيلة سنوات الستينات والسبعينات، كان التلفزيون المغربي هو النافذة الوحيدة التي أطل بها المغاربة على المغرب الرسمي. أحداث مهمة مثل انقلاب الصخيرات سنة 1971 وإعدام الضباط ومحاولة إسقاط الطائرة الملكية سنة بعد ذلك، وصولا إلى أحداث أخرى مثل تعيين إدريس البصري وزيرا للداخلية سنة 1979، وجنازة الجنرال الدليمي التي سرت حولها الإشاعات سنة 1983. وغيرها من الأحداث مثل المسيرة الخضراء سنة 1975، والتي تحرك التلفزيون المغربي وقتها لمواكبة الإعدادات ونقل المشاركين وطريقة توزيعهم، حتى أن العائلات كانت تعرف أخبار أفرادها المشاركين، من خلال التلفزيون الذي كان يخبر أولا بأول المراحل التي قطعها المشاركون من كل منطقة على حدة.