عندما طلبت أمريكا من المغرب مساعدتها لعبور البحر المتوسط
اتفاقية وقعها المولى محمد الرابع وطوق بها نشاط قراصنة بلاده
يونس جنوحي
لم يكن عهد محمد الرابع الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1853 و1873، هو الفترة الوحيدة التي حاول فيها المغرب ضبط تحركات الراكبين في السفن ومنع تعرضهم لأساطيل الدول الأجنبية، لما كانت تحمله تلك العمليات من مخاطر دبلوماسية قد تقود المغرب إلى الحرب في أية لحظة. بل حتى في عهد ابنه المولى الحسن الأول الذي حكم المغرب مباشرة بعد ذلك لعشرين سنة أخرى، أي إلى حدود سنة 1894، فقد كان ضبط تحركات رجال البحر أولية بالنسبة له ورثها عن والده، حتى أن جهاز الاستعلامات البريطاني، والذي كان يعتمد على مُخبرين من ميناء الصويرة، حصل على تقارير مفادها أن القصر كان يضغط على «مرتزقة» البحر لكي لا يضايقوا حلفاء المغرب التجاريين.
أجدادنا الذين عاشوا من أنشطة التعرض للسفن
كان الملوك العلويون دائما مع الجهاد البحري لحماية البلاد من المد الإسباني والبرتغالي. كان استقرار المغرب سياسيا رهينا بالأخبار التي تحملها مياه المتوسط والمحيط الأطلسي. وكان الإسبان لا يُهادنوننا إلا لكي يهجموا من جديد. وهكذا ببساطة ارتبط الجهاد البحري بسيادة الدولة في المغرب.
لكن في فترة من الفترات كانت تلك الأنشطة تجر متاعب كبيرة على الدولة في زمن الاتفاقيات التجارية خصوصا مع أثرياء المال في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
هناك اليوم وثائق دبلوماسية في مقر الخارجية الأمريكية عمرها يعود إلى أزيد من 200 سنة، تتناول موضوع المناقشات والاتفاقيات البحرية مع المغرب، خصوصا لحماية أساطيلها من الاعتداءات التي اشتهرت بالتعرض لها في السواحل على ضفاف البحر المتوسط.
كان المغرب، في عهد المولى محمد الرابع، يعتبر الجهاد البحري عصب حماية سيادة التراب المغربي من أي تدخل أجنبي. وكانت قصة الرهائن الأجانب لدى المغرب، أو الرهائن المغاربة لدى الإسبان، هي موضوع الساعة، خصوصا وأن أخبار التعذيب والمعاملات غير الإنسانية التي يعيش الرهائن تحت وطأتها تسيطر على الرأي العام في الأسواق والتجمعات داخل المدن والقرى وحتى في الزوايا والأضرحة.
لذلك كان المغاربة لا يجدون حرجا في مباركة الجهاد البحري باعتباره أداة الصد الوحيدة لحماية المغاربة من الوقوع في أسر الأجانب.
لقد كانت حربا دينية بالأساس، منذ انطلاق الدولة العلوية وصولا إلى عهد المولى الحسن الأول، الذي نسي معه المغاربة تدريجيا أهوال البحر وانشغلوا أكثر بالمصائب الداخلية ومحاولات تفرقة البلاد، وضبط الأمن الداخلي بطريقته رغم أنه ترك البلاد بعد وفاته على مشارف حرب أهلية مفتوحة.
بالعودة إلى الجهاد البحري، فإنه خلال فترة ما بعد سنة 1860، أي خلال فترة والد المولى الحسن الأول، أصبح نشاطا لقطاع الطرق، وبعض القبائل التي سكنت بجوار البحر المتوسط خصوصا في الشمال، وحتى في المحيط بالنسبة لبعض قبائل الصويرة، كان لا يزال نشاطا اقتصاديا لتلك القبائل، حاولت ممارسته باسم الجهاد، لكن الدولة تدخلت لكبحه، خصوصا عندما طلبت الولايات المتحدة رسميا من المولى محمد الرابع، القيام بما يلزم حتى لا تضطر إلى الضرب عسكريا.
هذه الواقعة، جعلت السلطان المغربي يراجع حساباته ويتخلى عن قناعته المترسخة في مشروعية الجهاد البحري ونصرة جيرانه في ليبيا ضد رد عسكري محتمل من الأمريكيين، لكن بدا له أن إبرام اتفاق سيكون أكثر نجاعة للمغرب، وهكذا كُتبت قصة مطالبة أمريكا المغرب بالمساعدة لكي تعبر سفنها نحو المحيط بسلام، وأسدل الستار على الجهاد البحري المغربي.
قبل قرن.. قصص سفن أمريكية كانت تتوقف في المغرب
في سنة 1907، عندما كان المولى عبد العزيز في طريق مغادرته للمغرب، وبالضبط أثناء استقراره المؤقت بمدينة طنجة في نفس السنة، صادف وجوده بها، وصول بارجة بحرية أمريكية ضخمة حجّ الطنجاويون جميعا لرؤيتها وهي ترسو في ميناء المدينة. كان منظر البارجة الحديدية وهي ترسو مبهرا، دون أن تغرق إلى القاع رغم ثقل المعدات الحربية الضخمة التي تحملها.
هذا ما جاء في مذكرات القنصل الأمريكي إدمون.
«كانت هناك نزعة من السلطة، أو الملكية، في الرحلة الأخيرة التي قام بها عبد العزيز من عاصمة حكمه في اتجاه طنجة. وبنسبة أقل في رحلته غير المعلن عنها إلى الخارج على متن الباخرة «ماغنوس» في دجنبر 1909 مع «إدغار آلان فوربس» الذي كان بصدد الإبحار بحثا عن مغامرات في الساحل الغربي لإفريقيا.
في المرة اللاحقة التي رأيت فيها المولى عبد العزيز كان لدي شرف مرافقته إلى السفينة الحربية الأمريكية «جورجيا»، والتي كانت تزور طنجة رفقة سفينة أخرى اسمها «نبراسكا». الأدميرال ريشارد وينرايت، كان هو رئيس الأسطول، وبعد استشارة معه هو والوزير الأمريكي السيد كومر، جاء السلطان السابق عبد العزيز في اليوم الموالي لاستكشاف السفينة.
كانت هذه الزيارة مهمة لي لعدة أسباب، لكنها كانت مهمة أساسا لأعرف كيف سيتصرف معه العبيد الذين لم يعودوا بشكل تلقائي تابعين له، بالإضافة إلى أن منزله كان يقع خارج سور المدينة، وهو الأمر الذي أثار فضولي وأردت أن أعرفه عن قرب.
وهكذا كان علي أن أكون دقيق الملاحظة لكي ألتقط أبسط الإشارات الصادرة عنه. تم تحديد وقت الزيارة مع تمام التاسعة صباحا.
عندما حان الموعد بقليل، أثار المترجم انتباهي إلى فارس مسرع على جنبات الشاطئ، يمتطي حصانا وإلى جانبه أربعة من العبيد. عبد العزيز قادم، كان واضحا أنه يفضل المجيء من بعيد على أن يخترق شوارع المدينة.
كان الشاطئ خاليا من المغاربة، باستثناء بعض الصيادين الفقراء والبحارة الذين ينتظرون قدوم السفن ليشتغلوا مرشدين للسياح. لقد تفاجأت عندما رأيتهم يتزاحمون حول المولى عبد العزيز ويقبلون عباءته ويتمسحون بها، ويغمغمون عبارات ترحيبية.
أسرعنا في اتجاه القارب، وما هي إلا لحظات حتى أصبحنا على ظهر «جورجيا». كان طبيعيا أن يكون المولى عبد العزيز مهتما جدا بتفحص السفينة، لأنها المرة الأولى في حياته التي يرى فيها باخرة حربية. في الحقيقة، كانت الوحيدة التي صعد على متنها. استغرقت الرحلة ساعة. كان صامتا في أغلب اللحظات. كان يصغي جيدا للشروحات التي تقدم له بخصوص تجهيزات وقدرات الباخرة الحربية.
كان يتجول ويتفحص بيده معدات حديدية تزن بضعة أطنان. عندما دخل إلى غرفة المحرك في أسفل السفينة، كان يرفع «الكسا»، وهو اللباس الأبيض الطويل الذي كان يرتديه، لكي لا يتسخ بشحم المحركات.
إنه من الصعب أن تُفاجئ مغربيا. وأعتقد أن عبد العزيز تفاجأ فعلا: «عجوبة.. عجوبة». هذه العبارة تلخص كل تعليقاته. باستثناء المرة التي سمع فيها هاتف السفينة، وللمرة الأولى، صوت بشر ينبعث من آلة. وضع جلالته السماعة بسرعة وإصرار، وانسحب من الباخرة. قال متعجبا: «الجنون.. ما مزيانش». كان يقصد الأرواح الشريرة.
كانت تنتظرنا مفاجأة عند الخروج. وجدنا أن الباخرة من بدايتها إلى نهايتها كانت محاطة تماما بالبشر. لا أعرف كيف انتشر خبر وجود السلطان المعزول على متن الباخرة بتلك السرعة. كان هناك ما لا يقل عن ألفي مغربي ينتظرون قدومنا. كانت هناك طريقة واحدة فقط للنزول، وهكذا واجه عبد العزيز الموقف بشجاعة واخترق جوقة الموسيقى».
هذه الاعترافات التي خطها القنصل الأمريكي إدمون هولت وبيعت في نيويورك سنة 1909 كالرغيف الساخن، بحكم أن الأمريكيين كانوا متعطشين لمعرفة ما يقع في شمال إفريقيا، سبق لنا أن نشرنا ملخصا عنها على حلقات في «الأخبار»، أكبر دليل على أن اتفاقية قديمة بين السلطان محمد الرابع خلال ستينيات القرن 19، والأمريكيين، كانت مُفعلة حتى بعد رحيل هذا السلطان الذي نجح بمجهود فردي خالص، لكي يمارس الدبلوماسية في أرقى مستوياتها مع أقوى دولة في العالم ونجح في إقناعهم بإبرام اتفاق معه شخصيا وجنب صديقه السنوسي في ليبيا حربا كان ممكنا أن تجعل منطقة البحر المتوسط أمريكية.
عائلات مغربية عاشت من البحر.. وهذه قصتها
لا بأس أن نذكر أولا أن القرصنة، أو «الجهاد» البحري كان دائما جزءا من التاريخ المغربي، على شاكلة دول أخرى وصل إليها الإسلام أو انطلق منها غربا.
بحكم موقعه الاستراتيجي، في عهد المولى محمد الرابع، كان المغرب معرضا دائما للغارات الأوروبية في زمن الاستكشافات. وعندما كان محمد الرابع صغير السن، كان يرى في عهد والده كيف أن المغاربة يتوجسون خيفة من الغارات التي يشنها البرتغاليون. لقد كبر المغاربة على الترقب وانتظار المشاكل من البحر. بل وكانت الدولة وقتها تعول على بعض مداخيلها من الغارات البحرية التي كانت تدخل في إطار الجهاد.
تقول بعض المعطيات التاريخية إن أصول الجهاد البحري في المغرب تعود إلى نهاية القرن 16 وبالضبط إلى الفترة التي طرد فيها المغاربة من أوربا. ومنذ ذلك الوقت والرغبة في الانتقام من البرتغال والإسبان على وجه الخصوص تسيطر على مشاعر عدد من القبائل والعائلات الكبيرة التي تم طردها من الأندلس وتجريدها من ممتلكاتها هناك.
لقد كان حلم العودة يراودهم جميعا. عندما وصلوا إلى المغرب توزعوا على الواجهة البحرية للمغرب، على امتداد البحر الأبيض المتوسط، وشرعوا يراقبون الحد البحري الفاصل بينهم وبين الأراضي التي طُردوا منها. في حين أن قلة منهم فقط اختارت السير والتقدم في المغرب، ليستقروا في منطقة فاس. بينما الأغلبية اختارت أن تبقى مجاورة للحدود البحرية.
قبائل كانت تحمل أسماء مدن إسبانية مثل قبيلة «حرناشو» التي تعد تحريفا لاسم مدينة صغيرة في جنوب إسبانيا. قبائل أخرى استقرت في الرباط وسلا ومداشر تطل على المحيط الأطلسي على طول الساحل البحري الممتد من الرباط وصولا إلى العرائش وطنجة. وهذه القبائل كانت تنتمي وقتها، أي في القرن 17، إلى ما كان يُطلق عليه «جمهورية» القراصنة، والتي كان كل أفرادها موريسكيين، يحملون حقدا كبيرا للإسبان والبرتغال لأنهم طردوهم من أرضهم. وكان هناك اتصال بينهم وبين قبائل أخرى اختارت أن تستقر في الريف المغربي.
هؤلاء كانوا جميعا متدينين، لكنهم كانوا قد اختاروا منذ وصولهم إلى المغرب، أن ينعزلوا بأنفسهم عن الواقع المغربي وقتها، وأن يقودوا حياتهم بأنفسهم، وقد كانت قوتهم قد بلغت أوجها عندما قادوا هجومات عنيفة على السواحل الإسبانية، بل ووصلوا إلى موانئ بعض مدن الجنوب الغربي الإسباني، على الحدود البرتغالية، وقصفوا بعض المواقع وسلبوا سفنا كثيرة حمولاتها التجارية، وأتلفوا الموانئ في عدد من المناسبات.
لكن أعنف هجوم قاده «القراصنة» المغاربة على إسبانيا كان سنة 1668، إذ أن الهدوء الذي كانت تشهده مياه المحيط الأطلسي، لم يدع مجالا للشك أمام مراقبي الساحل، لكنهم فوجئوا ليلا بهجوم مباغت من سفن صغيرة كانت تحمل على متنها مئات المغاربة الغاضبين، لينزلوا فوق أرض الميناء الصغير، ويشرعوا في مهاجمة السفن المتوقفة وإضرام النار في عدد من المنشآت ومخازن السلع. استمر الهجوم لساعات لكن الخسائر كانت فادحة، إلى درجة أن السلطات الإسبانية أعطت وقتها تعليمات صارمة لكي لا يتم إفشاء أمر الهجوم حتى لا يصل إلى مدن إسبانية أخرى، ويجعل من إسبانيا «أضحوكة» أوربية. إذ أن عملية الطرد التي قادتها ضد المورسكيين، كانت قد أكسبت الإسبان هيبة محلية كان القراصنة قد أصابوها في مقتل.
كان الرد الإسباني عنيفا، لكنه لم يكن بمستوى المفاجأة المغربية. إذ أن الوقائع التاريخية الرسمية، تقول إن الإسبان لم ينجحوا نهائيا في إخماد ثورة «الجهاد البحري» ضد سفنها والسفن البرتغالية أيضا.
بل حتى الأمريكيين كانوا يعانون مع هؤلاء البحريين المغاربة عندما كانت السفن الأمريكية تعبر نحو المحيط الأطلسي من مضيق جبل طارق في طريق عودتها إلى «الديار». ورغم أنهم كانوا قوة ضاربة في العالم إلا أنهم عانوا الأمرين مع هؤلاء «المجاهدين القراصنة». واعتبروهم مجرمين.
محمد الرابع جنّب المغرب حربا حقيقية مع أمريكا بسبب قراصنة ليبيا.. وهكذا راوغ الجميع
رغم أن الأمر يتعلق بشرارة حرب حقيقية، إلا أن التاريخ لم يتطرق كثيرا لواقعة في عهد المولى محمد الرابع. هذه الواقعة تجمع بين الطرافة والخطورة. إذ أن سفنا أمريكية كانت محملة بالبضائع، قادمة من آسيا في اتجاه المحيط الأطلسي، تعرضت في فترات متلاحقة لغارات في المياه الليبية على يد قبائل كانت تعيش من مراقبة البحر وإجبار السفن على أداء المال مقابل العبور قرب سواحل ليبيا.
كانت أيام قوة السلطان محمد الرابع متزامنة مع رواج الاقتصاد الأمريكي سنة 1860 و1865، وخلال هذه الفترة بالذات، أجبرت السفن الأمريكية في مرات كثيرة على الانصياع لرغبات القراصنة الليبيين والمغاربة أيضا في بعض الحالات، في البحر الأبيض المتوسط، عندما كانوا يعبرونه قادمين من الشرق.
واندلعت أزمة حقيقية بسبب الغارات الليبية المتكررة على السفن الأمريكية المحملة بالسلع.
تعرضت سفينة أمريكية ضخمة لهجوم من طرف سفن مغربية لقبائل تستقر في منطقة سواحل الناظور، بالإضافة إلى موافقة مغربية رسمية كمؤازرة لسنوسي ليبيا الذي كان صديقا للمولى محمد الرابع.
ما وقع أن نفس السفينة تعرضت للهجوم في السواحل الليبية، وتعرض لها قراصنة مغاربة في قلب البحر المتوسط. وهو ما جعل الأمريكيين يبرقون في الموضوع رافعين شكوى إلى الرئيس الأمريكي بشكل مباشر. وهو ما جعل الأمريكيين يرسلون سفيرا إلى المغرب لكي يقدم شكوى للمولى محمد الرابع ضد السفن المغربية التي هاجمت الأسطول الأمريكي في المياه الليبية.
اكتشف السلطان محمد الرابع أن الأمريكيين لا يعرفون حقيقة بأن بعض القوات المغربية تحركت بحرا لتقديم المؤازرة إلى الليبيين بحكم صداقته مع السنوسي، ولا زالوا إلى حدود اجتماعهم معه يعتقدون أن الغارة وراءها ليبيون فقط. ما جعله يلملم القصة قبل أن تندلع حرب حقيقية، وتعهد للأمريكيين ألا يتم مهاجمة سفنهم مجددا، وغادر الأمريكيون وفي جيب السفير اتفاق سلام مع المغرب. لكن الأمر كان يتعلق في الحقيقة بجهاد بحري، كانت ليبيا قد طلبت قبله مؤازرة المغرب لأن السفن الأمريكية كانت تتحرك بحرية قربها، وكان لملك ليبيا وقتها تخوفات من مد استعماري محتمل. كانت تلك واحدة من المرات النادرة التي حدث فيها اتفاق بين المخزن و»القراصنة». تقول المعطيات التاريخية المتوفرة في الجهاد البحري، والتي يوجد جل أرشيفها في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، باللغتين العربية والإنجليزية، إن السلطان محمد الرابع كان مؤمنا بالجهاد البحري وضرورته، لكنه آثر أن يُجنب المغرب حربا مُهلكة ضد الأمريكيين. وهكذا كتب إلى صديقه السنوسي في ليبيا لكي يخبره إنه جنبه المتاعب مع الأمريكيين وأنه لم يكشف لهم عن حقيقة الجهاد البحري هناك ونصحه لكي يجعل جنوده ورجال القبائل المطلة على المتوسط بعيدين عن التعرض لمواقف مماثلة. كانت تلك مساعدة من المولى محمد الرابع للأمريكيين لكي يتمكنوا من عبور البحر المتوسط نحو الأطلسي بسلام. وقد حفظوا له تلك المساعدة، وهو ما أكده أول قنصل أمريكي في المغرب، فقد قال في مذكراته «مذكرات السيد هولت» أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ للمغرب بذكرى جميلة تمثلت في حماية أساطيلها التجارية من الغارات في البحر المتوسط بعقد اتفاقيات مع الجيران حتى لا يتعرضوا لتلك
السفن.
منح المولى محمد الرابع الأمريكيين تمثيلية دبلوماسية في مدينة طنجة، وهو ما جعل البريطانيين يرتابون في سر تلك الصداقة المفاجئة بين الأمريكيين وسلطان كانت سياسته في الحكم ترتكز أساسا على حماية المغرب من كل توغل أجنبي. كانت هذه قصة المولى محمد الرابع الذي توفي سنة 1873 بمدينة مراكش، مع «القراصنة» أو «المجاهدين».
جهاد بحري أم قرصنة على طريقة العصابات؟
لا بأس هنا أن نذكر بالمسار التاريخي لعلاقة «المخزن» في عهد المولى محمد الرابع مع كبار ممارسي الجهاد البحري الذين لم يكونوا جميعا ينتمون للجيش المغربي.
كان المغرب في عهد هذا السلطان الذي ورث عن والده مغربا يعيش حربا مفتوحة معلنة وأخرى خفية ضد الإسبان والبرتغاليين، يعرف ازدهارا للجهاد البحري حتى أن قبائل مغربية انخرطت فيه واعتبرت نفسها موظفة لدى الدولة.
هذا النوع من الحروب مكن المغرب من مراكمة عائدات مالية مهمة. لكنه لم يكن مهيكلا من طرف الدولة، وإنما تقوده قبائل وعائلات تحكم مناطق بحرية من المغرب، وتؤدي للدولة ضرائب عن تلك الأنشطة.
كان المغاربة مستائين جدا من البرتغاليين خصوصا في آسفي والصويرة، لأن هذه الدولة الأوربية كانت دائما تعمد إلى مهاجمة الحدود البحرية للمغرب، وكانت بعض الهجومات تكلف المغرب خسائر فادحة، وهو ما جعل تلك القبائل تفكر في حماية نفسها من المد الاستعماري الأوربي، خصوصا وأن تلك الفترة شكلت قمة التقدم العلمي الأوربي في مجال السفن والبوارج، التي استعملت طبعا لاستكشاف بقاع بعيدة من العالم، في إطار السباق نحو المستعمرات.
كان القصر وقتها مستاء من الوضع العام الذي تعرفه البلاد، فالإسبان قادوا حربا مفتوحة وشرسة ضد المغرب في أغلب سنوات حكم المولى محمد الرابع، حتى أن بعض ولاته وعماله كتبوا إليه يشكون حال مدنهم المطلة على المحيط الأطلسي، ويخبرونه بـ «هوان الرعية على الأجانب»، وكيف «انتشرت أموال الإسبان وسلعهم في الأسواق ولم يعد للحرفيين إلا شنق أنفسهم جوعا»، كما تقول عدد من المراجع.
لقد كانت الخسارة التي تكبدها المغرب جراء خسارته الحرب ضد إسبانيا مكلفة. إذ كان المولى محمد الرابع مجبرا على القبول بمعاهدة مع إسبانيا، سنوات قبل وفاته سنة 1873 ليخلفه ابنه المولى الحسن الأول. هذه المعاهدة أجبرت المغرب على قبول التوغل الأوربي، وهو ما جعل عددا من القبائل سواء في شمال البلاد (الناظور والحسيمة)، في المناطق القريبة من سبتة ومليلية المحتلتين منذ ذلك التاريخ، أو في المحيط الأطلسي قرب آسفي والصويرة، تقوم بعمليات بحرية ضد الإسبان. وهو الأمر الذي جعل هذه القبائل تراكم أموالا طائلة بفضل العمليات البحرية التي كانت تقوم بها لإيقاف السفن الأجنبية التي كانت تعبر المياه الإقليمية المغربية.
بعض تلك السفن كانت مملوكة لجنسيات أوربية، ومنها سفن أمريكية، كانت قادمة من آسيا، وتعرضت لهجومات في إطار الجهاد البحري أو «القرصنة» البحرية كما كان يسميها الأجانب. وقد قدموا شكاوى للدولة المغربية في الموضوع، في حين أن البرتغاليين والإسبان توعدوا برد عسكري عنيف ما لم يتدخل المغرب لردع تلك القبائل وثنيها عن مهاجمة السفن الأجنبية التي كانت تنقل الذهب من بعض الدول الإفريقية صوب المغرب.
هكذا كان المغرب يُؤدب «البحارة» الذين يتعرضون للسفن الأجنبية
لم يكن عهد محمد الرابع الذي حكم المغرب ما بين سنوات 1853 و1873، الفترة الوحيدة التي حاول فيها المغرب ضبط تحركات الراكبين في السفن ومنع تعرضهم لأساطيل الدول الأجنبية، لما كانت تحمله تلك العمليات من مخاطر دبلوماسية قد تقود المغرب إلى الحرب في أية لحظة، بل حتى في عهد ابنه المولى الحسن الأول الذي حكم المغرب مباشرة بعد ذلك لعشرين سنة أخرى، أي إلى حدود سنة 1894، فقد كان ضبط تحركات رجال البحر أولية بالنسبة له ورثها عن والده. حتى أن جهاز الاستعلامات البريطاني، والذي كان يعتمد على مُخبرين من ميناء الصويرة، حصل على تقارير مفادها أن القصر كان يضغط على «مرتزقة» البحر لكي لا يضايقوا حلفاء المغرب التجاريين. وهذا تقرير يعود لسنة 1887، ننقل بعض ما جاء فيه إلى العربية: «أكد لنا بعض التجار الإنجليز الذين يشتغلون لصالح شركة القطن والسكر البريطانية أن قصر السلطان المغربي أمر بسجن ركاب سفينة مغربية تنشط في السواحل لمدينة الصويرة، وصادر السفينة وحمولتها بسبب غارة قاموا بها ضد باخرة اتضح أنها في ملكية تاجر أسكتلندي لديه شراكات مع تجار مغاربة مسلمين ويهود. هؤلاء التجار استعملوا علاقاتهم مع القصر وطلبوا من السلطان شخصيا التدخل لردع «اللصوص» الذين تعرضوا لسفينة السلع وأتلفوا بعض محتوياتها وصادروا سلع ذات قيمة. السلطان الحسن الأول خطب في التجار من رعاياه وأخبرهم أنه سوف يحمي تجارتهم وطلب منهم إخبار شركائهم الإنجليز أن المسلمين لا يغدرون من تاجر معهم، وأن المخزن سوف يضرب على أيادي اللصوص، وأن البلاد لا تعيش فترة حرب حتى تسمح بالجهاد لرعاياها. وأن مصالح الناس لا يمكن المساس بها في فترة السلم».
كان هذا المقتطف من تقرير طويل يتناول كلمة السلطان أمام رعاياه من التجار المغاربة، يهود ومسلمين، كافيا لمعرفة الموقف الرسمي من الغارات البحرية على السفن في ضفاف الأطلسي. لقد جنت تلك الاعتداءات على السفن على خزينة الدولة خسائر كبيرة لأن شركات اضطرت إلى سحب اعتمادها أو امتنعت عن أداء الضرائب للدولة المغربية بحجة أنها غير محمية، وهو ما جعل المولى الحسن الأول يدخل في حرب مفتوحة معهم لتأديبهم.
لكن بالمقابل، كان المولى الحسن الأول دائما مع الجهاد البحري ضد الإسبان والبرتغاليين، فقد فتح عينه في عهد والده، على تأزم وضعية العلاقات معهما، وعلى إيقاع الحديث عن الرهائن لدى الطرفين. لكن لم يكن مسموحا للمغاربة، سواء كانوا قبائل أو جماعات من البحارة، لكي يقوموا بغارات بعيدا عن أعين المخزن.