يونس جنوحي
قلة من الناس فقط يعلمون أن الزعيم السياسي محمد بن الحسن الوزاني، أحد أكبر رموز الحركة الوطنية المغربية، درس الصحافة. والمثير أنه درس الصحافة في باريس، وكان أستاذه في المعهد زميلا له في العلوم السياسية.
وهكذا كان الوزاني، الذي عُرف عنه أنه لا ينزع عن ظهره معطفا مخططا بالأبيض والأسود، يرافق زميله في أنشطة الطلبة وحصص محاضرات العلوم السياسية في باريس، وفي نفس اليوم يلج معه معهد الصحافة، لكن كطالب عنده.
وفي تلك الفترة، قرابة سنة 1932، تعرف على بلافريج، ثاني وزير أول في تاريخ المغرب، وقررا معا أن يُصدرا مجلة تعنى بشؤون المغرب، من باريس.
منح بلافريج للوزاني مبلغا من المال يُعينه على إصدار المجلة، ودفع تكاليف إقامته في باريس ومضى لقضاء عطلة عائلية.
لكن الوزاني فوجئ ذات يوم بأن الشقة التي ترك له بلافريج مفاتيحها لكي يقيم فيها اختُرقت، ولم يُسرق منها شيء باستثناء المبلغ المالي الذي كان مخصصا لإصدار المجلة.
وقد حكى الوزاني في مذكراته «حياة وجهاد» كيف أنه أخطر صاحبة العمارة بالموضوع وحضرت الشرطة لتعاين الغرفة، لكنه استنتج بسرعة أن هناك جهة ما لا تُريد لتلك المجلة المغربية أن تصدر.
أبحر الوزاني لاحقا في عالم الصحافة وأشرف بنفسه على «الرأي العام»، التي كان يخصص صفحاتها لتغطية النقط الساخنة من أحداث ما بعد استقلال المغرب، ونشر مواضيع جريئة بمعايير ذلك الوقت، لكنه لم ينس قصة مشروع المجلة التي أقبرت في مهدها.
وما زاد من ثقة الوزاني أن المال سرق على يد من كان يهمهم ألا تصدر المجلة، ما وقع له بعد الحادث بأيام، عندما كان في طريقه إلى جنيف لكي يلتقي بوطني آخر هو شكيب أرسلان.
ترك ما تبقى من أغراضه في غرفة فارغة بمنزل بلافريج واقتنى تذكرة القطار، وفوجئ بأن هناك من يتبعه بشكل مريب طوال الرحلة.
كانت المخابرات الأجنبية وقتها تراقب عن كثب تحركات المثقفين المغاربة، وتجمع عنهم المعطيات وترصد علاقاتهم واتصالاتهم، خصوصا مع الشخصيات العربية الأخرى التي تطالب بالتحرر من التبعية الاستعمارية.
عندما فقد الوزاني قدرته على الكتابة بعد إصابته في واقعة انقلاب الصخيرات سنة 1971، مات بعدها بوقت قصير. ولم تكن وفاته متأثرا بمعاناته مع عائق الكتابة بالقلم مفاجئة لأصدقائه. بل حتى الملك الراحل الحسن الثاني كان يعلم أن الوزاني مات معنويا عندما أصيبت ذراعه برصاص الانقلابيين.
كان هذا في زمن كانت الكتابة خلاله تعني كل شيء للسياسيين والمثقفين. قبل أن نُبتلى بهؤلاء الذين لا يكتبون حتى التهاني بحلول المناسبات الدينية، ولا يُحسنون حتى الجلوس لقراءة كتاب في وقت الفراغ. لكنهم في نفس الوقت يُنظرون، وينسبون كل المشاكل لارتفاع نسبة الأمية، وعزوف الناس عن المكتبات. حتى أن إصدار مجلة في هذا الوقت لم يعد يختلف في شيء عن رمي المال في البحر.
يبدو أن حفيد السارق الذي اختلس أموال مجلة الوزاني وبلافريج في باريس، قبل تسعين سنة من اليوم، لم يعد في حاجة أبدا إلى سرقة المال لعرقلة مشروع فكري أو أدبي، ما دام سارقون آخرون قد تكلفوا بتغييب المثقفين وخلق آخرين لا يجلسون لا للقراءة ولا للكتابة. وحتى عندما يجلسون، فإنهم يتحدثون في كل شيء، إلا الثقافة.