عمى الألوان
عمى الألوان
شامة
يقول خبر إن مصر قررت منع ارتداء السترات الصفر خوفا من وصول «الحراك الفرنسي» إلى أراضيها، ويقول خبر آخر إن الشرطة المصرية طبقت الحظر، وألقت القبض على مواطن مصري خرق المنع، وارتدى السترة الصفراء.
قد يجد قارئ الخبر الأول وقارئ الخبر الثاني، الخبرين مضحكين، لكن فهم طبيعة الحركات الاحتجاجية، وكيف تحدث، سوف يجعلك تفهم أن الألوان ليست مجرد صباغة، بل لها رموز، ومعان ورسائل، تحدث تأثيرا قد يقلب الواقع إلى واقع آخر لم يكن منتظرا.
حين قتل القذافي، فجر الليبيون كرههم لكل ما هو أخضر اللون، الرئيس الذي حكم البلاد أكثر من أربعين سنة، وكان يعشق كل ما هو أخضر، حتى جعل لنفسه كتابا أخضر، رحل وترك خلفه شعبا لا يجد في اللون الأخضر سوى ذكرى سيئة لعهد كانوا يعتبرونه سيئا.
سنة بعد مقتل القذافي حللت ببنغازي، كنت في مطار الدار البيضاء أنتظر الطائرة التي ستقلني إليها عبر طرابلس، جلس بجواري ليبيون كانوا في رحلة سياحية بمراكش رفقة زوجاتهم. أخبرتني إحداهن، بعد حديث مقتضب بيننا، أنه من الأفضل أن أضع على صدري وشاحا يغطي القميص الأخضر الذي أرتديه أسفل «جاكيت جينز». وقتها أمسكت رأسي بيدي، وقلت لها: «يا ربي لقد نسيت»، كنت قد التقيت بنشطاء ليبيين كانوا في زيارة إلى المغرب، وأخبروني عن تلك الموجة التي تضرب الليبيين، وتجعلهم ينظرون بعين الغضب لكل من يرتدي اللون الأخضر، ويصفونه بـ«عميل القذافي»، وأحيانا كثيرة يطلقون عليه وصف «الطحلب». كان هذا الوصف ينعت به كل من يتهم بولائه للقذافي ونظامه حتى بعد رحيله. ولحسن حظي، أن أفراد الميليشيات العسكرية التي نصبت نفسها في ذاك الوقت حرسا على مطاري طرابس وبنغازي، كانوا رفقاء بي، لم أضع شيئا فوق قميصي الأخضر، وأنقذني أن الليبيين، على الأقل الذين قابلتهم في مطار طرابلس، وفي رحلتي بين طرابلس وبنغازي، كانت قيم القبيلة لا تزال راسخة فيهم، فلم يكونوا يرفعون إلي بصرهم، وكانوا يرافقونني بين أرجاء المطار وهم يغضون البصر. وحين صعدت إلى الطائرة التي أقلتني من طرابلس إلى بنغازي، وجدت كل كراسيها مكسوة بثوب أخضر اللون، شق بالسكين إلى النصف، كما غرزوا ذات يوم السكين في جسد القذافي. كنت محظوظة بما يكفي لكي لا ألقى المصير نفسه بسبب «عقدة اللون الأخضر».
في تونس، شهورا قبل اندلاع ثورة الياسمين، كانت الشرطة التونسية تراقب بكثير من الحذر المقاهي التي يرتادها الشباب، ويلقون القبض، أو يضايقون كل شخص يرتدي قميص «تي شورت» أبيض اللون..، كانوا يعرفون أن هناك حركة احتجاجية صامتة قررت تفادي أصفاد رجال الشرطة، والخروج في احتجاج «ألوان»، وأنهم سيرتدون قمصان «تي شورت» بيضاء اللون، وسيذهبون إلى المقاهي، لن يتجمعوا في مجموعات، بل كل شخص سيجلس منفردا، أو ثنائيا، كانت لعبة «توم وجيري» بين النشطاء التونسيين، الذين اختاروا اللون الأبيض للتعبير عن غضبهم، وبين شرطة بنعلي التي أعلنت وقتها كرهها لكل ما هو أبيض.
في مصر، وأيضا قبيل اندلاع ثورة النيل، كان المشرفون على صفحة خالد سعيد، الفتى الذي قتل على يد مخبرين، يصدرون تعليماتهم لأتباع الصفحة مسيحيين ومسلمين، إسلاميين وعلمانيين، ومن بين تلك التعليمات كانت أن يرتدوا قمصان «تي شورت» سوداء اللون، وأن يتجهوا فرادى، وليس لا ثنائي ولا جماعات، إلى النيل إن كانوا يقطنون بالقاهرة، وإلى البحر إن كانوا يقطنون الإسكندرية، وأن يديروا ظهورهم نحو النيل، أو نحو البحر، كرسالة من هؤلاء المحتجين أنا نحن شباب مصر غاضبون من مصر، وحزانى على أنفسنا، وعلى مصر. كانت بداية الثورات، لكن لا أحد وقتها كان يفهم قوة الألوان في تعبئة المتظاهرين وإخراجهم إلى الشارع حين يحين وقت الخروج.
هي ثورات ملونة، لم تظهر مع مصر، أو تونس أو حتى مع فرنسا، فقط نحن والإعلام ذاكرتنا قصيرة، وننسى الثورة الخضراء التي اندلعت في إيران منذ تسع سنوات، وننسى أن ثورات جعلت لها رموزا مثل الورد في ثورة جورجيا، ومع ذلك سميت بالثورة الوردية، وفي أوكرانيا اندلعت الثورة البرتقالية التي لم تكن لها علاقة باللون البرتقالي، بل هي في الأصل حملت اسم ثورة البرتقال، إلا أن أصحابها جعلوها ثورة برتقالية فخرج الغاضبون يحملون أعلاما برتقالية، ويرتدون قمصانا برتقالية، واعتصموا إلى أن استجيب لطلباتهم.
الثورات الملونة جزء من التقنيات التي يعتمدها مصممو الحركات الاحتجاجية التي تدعي السلمية في طابعها، وهذا ما ننساه أو نجهله ونحن نتابع الأخبار المتسارعة عن المظاهرات، وكأن الثورات الملونة تصر على أن تصيبنا بعمى ألوان لا نستفيق منه إلا وقد سقط نظام، وقام مكانه آخر.