عملية 2 أكتوبر 1955 المنسية التي كانت صفعة لفرنسا وإعلانا عن ميلاد جيش التحرير

وقع هجوم على معسكرات الجيش الفرنسي يوم 2 أكتوبر مع تمام الثانية صباحا، وهو التوقيت المتفق عليه تماما لإرسال رسالة إلى فرنسا مفادها أن التنظيم مُحكم.
في منطقة أكنول مثلا، ونواحيها، نجح المشاركون في الهجوم، في حيازة الأسلحة التي كانت توجد في معسكر الفرنسيين، وتكرر الأمر نفسه في مناطق أخرى نواحي تاونات.. إلخ.
يونس جنوحي
ونحن نتجه إلى منتصف سنة 1955، كانت الأجواء داخل أسرة جيش التحرير تتجه بدورها نحو عنق الزجاجة. إذ أن الإخوان كانوا متحمسين في التداريب داخل المدرسة العسكرية، وأيضا على مستوى وحدات جيش التحرير في الجبال، نواحي أكنول والناظور. وكان التخطيط غاية في السرية، إلى درجة أننا لم نكن نعرف كل التفاصيل المتعلقة ببعض العمليات، حماية لمنفذيها. ولم يكن كل فرد داخل جيش التحرير يعرف أكثر مما ينبغي له أن يعرف.
وبما أنني أثرتُ دور المقاوم الكبير سعيد بونعيلات في إخراجي من الناظور، يجب أن أشير إلى أنه واحد من الأسماء القليلة التي حازت إعجاب الجميع في أسرة المقاومة، نظير الشجاعة الكبيرة التي أبان عنها.
عرفتُ بونعيلات رحمه الله منذ أن كان في الدار البيضاء، وتوطدت علاقتي به أكثر في تطوان، اعتاد أن يبيت في «استوديو» التصوير. كان يقود شاحنة يستعملها في تهريب ونقل السلاح للمقاومة.
ومما يثير الإعجاب في شخصيته، أنه دخل إلى الدار البيضاء من المنطقة الخليفية، وهو أمر نادر الحدوث، فالعادة أن يتجه اللاجئون من الدار البيضاء إلى المنطقة الخليفية هربا من الأحكام ومطاردات البوليس الفرنسي، لا أن يعودوا إليها.
وفي المرات التي ذهب فيها سعيد بونعيلات من تطوان إلى الدار البيضاء، نجح في تنفيذ عمليات من عمليات المقاومة التي وقعت سنة 1955، وعاد أدراجه إلى تطوان.
لا أستطيع تحديد العمليات التي نفذها بدقة، إذ أنني، كما أشرتُ، لم أكن أنعرف تفاصيل كل العمليات التي تُنفذ ولا من قتل الشخصيات الفرنسية التي جرى اغتيالها في ذلك الوقت. كانت تُراعى السرية في مثل هذه المواضيع.
وهذه السرية والانضباط كانا وراء نجاح عملية 2 أكتوبر 1955 الشهيرة، بل وكانت الصفعة التي تلقتها فرنسا لكي تُعجل بإنهاء محنة منفى السلطان سيدي محمد بن يوسف. باختصار كانت العملية تعريفا بميلاد جيش التحرير المغربي واكتمال صفوفه!
التحضير للثاني من أكتوبر
كان لدى سي علال الفاسي علم بشأن مخطط مهاجمة ثكنات الفرنسيين في نواحي مدينة فاس، وهو في القاهرة.. لكن لم يتم الإفصاح نهائيا عن ساعة الصفر لأحد، ولم يكن معنيا بها سوى الذين شاركوا في ذلك الهجوم السري المباغت لثكنات الفرنسيين ومخازن السلاح، في أكثر من مدينة وقرية، وفي التوقيت نفسه بالضبط.
حتى نحن في تطوان لم تكن لدينا كل التفاصيل وفوجئ أغلبنا بخبر الهجوم.
قبل الثاني من أكتوبر، كان يجري تأمين السلاح الضروري في سرية تامة. كانت لدينا في المقاومة ثلاث سيارات. وهذه السيارات كانت تتجه إلى مدينة برشلونة الإسبانية، حيث كان يقيم عبد الكبير الفاسي، ويتم تجميع الأسلحة هناك وإدخالها إلى تطوان.
تمت، كذلك، حيازة بعض الأسلحة والمعدات، بعد نصب كمين لقوات الجيش الفرنسي نواحي أكنول. وكانت وحدة من الجيش الفرنسي تتنقل في المنطقة، وتربص بها مقاومو جيش التحرير إلى أن وصلت إلى ملتقى ضيق بين جبلين، فحاصروها من كل جانب، وكانت الغنيمة حيازة مجموعة معتبرة من السلاح.
شحنة أخرى من الأسلحة توفرت لنا بعد المشاركة في إنزال حمولة الباخرة «دينا».
لكن المشكل أن هذا الكم كله من الأسلحة لم يكن كافيا لتنفيذ هجوم مثل هجوم الثاني من أكتوبر.
إذ كان مخططا لهذه «الثورة» أن تطول، ولم يكن يتعلق الأمر فقط بهجوم واحد، بل كان هناك مخطط تنفيذ ثورة مُمتدة.
وفي سياق هذا التحضير وجمع السلاح، وصلت أنباء عودة السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى فرنسا. وكانت الأخبار التي تصلنا مفادها أن الحكومة الفرنسية تُبيت خطة للإبقاء على السلطان في فرنسا، وتفتح النقاش مع السياسيين على هذا الأساس.
أما هدف أسرة المقاومة وجيش التحرير أن يعود السلطان إلى الرباط، وليس إلى أي مكان آخر. والأمر لم يكن محل تنازلات.
حدث استعجال لإطلاق الحرب في أقرب وقت، مخافة أن تُنفذ فرنسا خطتها.
جرى جمع الذين تم تكوينهم في المدرسة العسكرية بتطوان، وكان عددهم يُقارب المئة. وتم توزيعهم على المناطق الشمالية ووصل انتشارهم إلى منطقة بني ملال. ولتعويض النقص في السلاح، استعمل بعض المقاومين بنادق الصيد التي كانوا يتوفرون عليها، ولم يدخر أحد سلاحه.
وقع هجوم على معسكرات الجيش الفرنسي، يوم 2 أكتوبر مع تمام الثانية صباحا، وهو التوقيت المتفق عليه تماما لإرسال رسالة إلى فرنسا مفادها أن التنظيم مُحكم.
في منطقة أكنول مثلا، ونواحيها، نجح المشاركون في الهجوم، في حيازة الأسلحة التي كانت توجد في معسكر الفرنسيين. وتكرر الأمر نفسه في مناطق أخرى نواحي تاونات.. إلخ.
السر وراء نجاح هذا الهجوم كان هو عنصر المفاجأة. فقد كان الجنود الفرنسيون نائمين في الوقت الذي بدأ التنفيذ. ولم يكن أحد يتوقع أن يُشن هجوم بذلك الحجم. حتى الاستعلامات الفرنسية فشلت في رصد هذا المخطط الكبير، وافتضح ضعف أجهزتها بإمكانياتهم الضخمة، أمام جيش التحرير المغربي.
سقط عدد كبير من القتلى في صفوف الجيش الفرنسي، وحاز جيش التحرير بعض الأسرى الفرنسيين في أكثر من منطقة واحتفظوا بهم في سجون المقرات.
تعزز مخزون سلاح جيش التحرير، بفضل هذه العملية، فقد صادر المقاومون كل ما استطاعوا الوصول إليه من مخازن الذخيرة والسلاح في الثكنات العسكرية الفرنسية. ونحن نتحدث هنا عن مخزون كبير من السلاح، ولم يعد مشكل نقص العتاد مطروحا.
بعد حوالي عشرين يوما على الأحداث، عدتُ إلى مدينة تطوان من إحدى المهام في نقاط جيش التحرير، ووجدتُ الصحافي الإسباني «سانتا ماريا»، الذي كان يشتغل في قسم الصحافة في ديوان المقيم الإسباني، وهو صحافي معروف في الأوساط الإسبانية، يبحث عني في كل مكان.
قال لي إنه قضى أياما في البحث عني. وأجبته، في محاولة مني للتمويه، أنني كنتُ في مدينة العرائش.
لكنه لم يقتنع، وابتسم قبل أن يرد ضاحكا: «تقصد العرائش التي توجد في الجبل؟».
قال لي هذا الصحافي بالحرف: «قل لأصحابك -وكان يقصد جيش التحرير المغربي- إن فرنسا لن تدخل معكم في الحرب نهائيا».
من جملة ما قاله لي هذا الصحافي إن فرنسا متخوفة من الدخول في حمام دم تماما كما وقع لها في الحرب الهندوصينية «لاندوشين». وبمجرد ما أن أدركت حكومة فرنسا أنها أمام إعلان ميلاد جيش التحرير المغربي، حتى راجعت أوراقها، وقررت ألا تدخل في حرب ضد المغرب بعد أحداث 2 أكتوبر.
وفي نهاية حديثي معه، نبهني إلى أنه من الضروري ألا أخبر الإخوان بمصدر معلوماتي. ربما كان هذا الصحافي يتخوف من أن يتسبب له الأمر في مشاكل مع حكومة بلاده.
بعد لقائي معه، ذهبتُ للقاء الإخوان. وجدتُ كلا من حسن صفي الدين، والدكتور الخطيب، جالسين في الشقة التي كان يستقر بها الخطيب في تطوان.
دار بيننا حديث ودي جدا، وحكى لي الخطيب عما رآه في منطقة الناظور التي كان فيها قبل أيام.
وانتقل بنا الحديث إلى تناول ما وقع يوم 2 أكتوبر. وقلتُ لهما إن لدي معلومات مفادها أن فرنسا لن ترد عسكريا، وأن الحكومة الفرنسية لن تخوض أي حرب ضد المغرب.
قال لي د. عبد الكريم الخطيب: «من أين أتيت بهذا الكلام؟».
وقبل أن أرد، عقّب حسن صفي الدين: «وهل المختار يأتي بالأخبار السيئة؟». فقد انشرح صفي الدين جدا عندما سمع الخبر. وكان يعلم أن لدي مصادر إسبانية «خاصة» في تطوان.
طلبتُ منهما ألا يُحرجاني بكثرة الأسئلة في الموضوع، وقلتُ لهما إن الشخص الذي باح لي بهذا السر، طلب مني ألا أكشف هويته.
بعد يومين على هذا اللقاء، ذهبتُ للقاء المقاوم والصديق محمد المكناسي، الذي كان مع جيش التحرير في منطقة «جبل ودكة»، في نواحي تاونات.
قال لي محمد المكناسي يومها، إنه توصل من بعض من يثق فيهم من المراسلين الميدانيين لجيش التحرير، بمعلومات مفادها أن الجيش الفرنسي جمع سلاحه، وألا نية لديهم في خوض حرب ضد جيش التحرير في تاونات والنواحي. وكان هذا تأكيدا لما قاله لي الصحافي الإسباني. لكنني لم أشر إلى الموضوع واكتفيتُ بسماع الملاحظات التي حصل عليها محمد المكناسي من الميدان.
عندما عُدت إلى تطوان، وجدتُ أن حسن صفي الدين توصل بتلك الأخبار التي بدأت تنتشر في صفوف مجموعات جيش التحرير. وقال لي صفي الدين إن ما قلته له قبل أيام بدأت تظهر صحته، وسألني ممازحا: هل أصبحت «شوّاف»؟..
وعندما ذهبنا معا إلى شقة الدكتور الخطيب، وجدناه منشرحا جدا، وقال لنا إن هناك أخبار عن اقتراب عودة السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى الرباط. وكنا وقتها في شهر نونبر 1955.
كانت تلك الأيام أطول فترات الترقب التي عشتها في حياتي.
فقد كان شهرا أكتوبر ونونبر 1955 من أصعب الفترات التي مر بها جيش التحرير المغربي، في انتظار ما سوف تؤول إليه الأمور.