عشرية الدم والأمل بسوريا

مروان قبلان
يحيي السوريون هذه الأيام، وقد توزعوا في أصقاع الأرض، الذكرى السنوية العاشرة لإطلاق ثورتهم، والتي ستُذكر في التاريخ باعتبارها من أعظم الثورات الشعبية في التاريخ العربي المعاصر. لكنها ستذكر أيضا باعتبارها واحدة من الفرص الضائعة في عمر الدولة السورية التي هدها الفساد والاستبداد، قبل أن تبلغ مئويتها الأولى، لتدخل، على الأثر، دوامة عنف مستمر صار يهدد وجودها القانوني والسياسي ووحدتها الترابية. هي فرصة ضائعة لأنها كان يمكن أن تنقل سوريا إلى مرتبة أفضل بين دول الإقليم والعالم، لو تعامل معها النظام بمسؤولية، ونظر إليها باعتبارها فرصة فعلية للإصلاح وإنتاج شرعية حقيقية نابعة من إرادة شعبية طالما افتقدها. هذا لم يحصل، وبتنا الآن أمام بلد ممزق اجتماعيا، مقسم ترابيا، منهك ومفقر ماديا، سيادته مسلوبة، وقراره مُصادَر، أراضيه محتلة، شعبه مشرد، وموارده منهوبة. هذا يعني أننا فشلنا في الحفاظ على الدولة التي ناضل من أجل قيامها من سبقنا، وسوف نورث، على الأرجح، الفوضى والخراب، من يأتي بعدنا، إذا استمررنا في توهم إمكانية تحقيق انتصار على أنقاض بلد غير قادرين على جمع أشلائه.
هل نستطيع فعل شيء لتغيير هذا المسار، واجتراح حل يؤسس لدولة وطنية ديمقراطية تجمع كل السوريين، تقطع مع الماضي، وتتطلع إلى المستقبل؟ الإجابة، إذا أراد المرء أن يكون مخلصا، بعيدا عن بيع الأوهام، أن المهمة صعبة، وتتطلب مقومات كثيرة غير متوفرة كفاية لدى نخب الطرفين، خصوصا منها التحلي بروح التضحية والمسؤولية الوطنية وكبح جماح الطموحات الشخصية، حتى نتمكن من الوصول إلى تسوية تاريخية تضع اللبنة الأولى لإعادة بناء الدولة المنهارة. على الرغم من ذلك، لا يملك السوريون ترف التوقف عن المحاولة، فمصير بلد وأمة على المحك.
وحيث إن التغيير لا يبدو، بعد عشر سنوات من الكارثة، محتملا من الأعلى، ولا يمكن انتظار حصوله إلى ما لا نهاية، يجدر بنا التفكير في مستويات أخرى للحل. هناك سبيلان يمكن العمل عليهما، يتطلب الأول إنشاء قناة تواصل مباشر بين باحثين عن حل في المعسكرين، وهو أمر بات يسيرا وآمنا اليوم في ظل التقنيات الحديثة، فالفرقاء السوريون، منذ أن انقسموا، لم يتخاطبوا بشكل مباشر، وقد حان الوقت ليفعلوا بعيدا عن الوسطاء وأجنداتهم، وقد بات ضروريا لهم كسر هذا الجدار النفسي الذي ما فتئ يتشامخ بسبب تمترس كل طرف في خندقه واقتصار حديثه مع رفاق معسكره. هناك أمل كبير بحدوث تقاطعات خاصة، وأن في الطرفين من بات مقتنعا بعدم إمكانية الاستمرار على هذا النحو، وفي الحاجة إلى التحرك جديا نحو تسوية كبرى لإنقاذ ما تبقى.
السبيل الثاني، يتصل بالحاجة إلى مخاطبة السوريين باعتبارهم شعبا، وإن مزقته السياسة، فقد وحدته النكبة. لقد أثبتت تجربة العجاف العشر الماضية فشل إمكانية تحقيق التغيير استنادا إلى جزء من السوريين، وبات واضحا أن التغيير غير ممكن من دون دعم الجزء الآخر. السوريون الذين يعيشون في مناطق النظام، وبعضهم يؤيده، في موقع فريد اليوم للضغط باتجاه الحل. لقد بدأ هؤلاء، بعضهم أو أغلبهم، يدركون هول الكارثة التي حاقت بهم. لذلك من المهم الوصول إليهم، وطلب دعمهم لإحداث التغيير الذي يكفل الخروج من الكارثة.
حقيقة الأمر أن السوريين في مناطق النظام أقدر من غيرهم على صنع الفرق، وقلب المعادلة إذا أمكن الوصول إليهم، فبدونهم يصبح النظام عاريا. هؤلاء لا يمكن مخاطبتهم من خلال العقوبات والتجويع لإثارتهم ضد النظام. هم لا يحتاجون أصلا من أجل التغيير أن يثوروا، إذ تكفي مقاطعتهم الانتخابات الرئاسية المقبلة مثلا، أو حتى عدم الاكتراث لها، لنزع آخر ورقة توت يستتر بها النظام. من المهم أن يُخاطب هؤلاء باعتبارهم ضحايا، مثلهم مثل كل السوريين، تم التغرير بهم، وتعمل قلة من مافيات الحرب وأمرائها على تكديس ثرواتها من بؤسهم. هذه القلة يجب عزلها ودفعها إلى الاستسلام لشروط الحل السياسي. بعد عشرية الدم والدمار، يجب أن يفهم الجميع أن الحل السياسي هو أمل السوريين الوحيد، بدونه سوف نغدو جميعا، وأبناءنا، بلا وطن، وسنعدم إمكانية إنقاذ الدولة التي ورثنا، أو إعادة إعمارها، أو استعادة شعبها، أو القدرة على إخراج كل أجنبي من أراضيها. هذا الأمر غير ممكن من دون مشاركة الجميع.