شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

حوار مع الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو حول جامع الفناء

«عاونوني باش نعاونكم»

حوار: عبد الغفار سويريجي

 

خوان غويتيسولو هو أحد أبرز كتاب اللغة الإسبانية في العصر الحاضر. غادر إسبانيا عام 1950 أثناء حكم فرانكو فاستقر بباريس. انطلاقا من عام 1976 بدأ يقضي بضعة أشهر من السنة في مراكش إلى أن استقر بها نهائيا. كتب العديد من الروايات نذكر من بينها دون خوليان، فضائل الطائر المتوحد وحياة آل ماركس الطويلة.. كما ألف العديد من الريبورتاجات الروائية عن العالم العربي والإسلامي (القاهرة، الجزائر، غزة، فاس، كبادوكيا واسطنبول وغيرها) وكذا عن حرب الشيشان. تعلم في مراكش العامية المغربية وكتب روايته الشهيرة «مقبرة» التي تستلهم إلى حد بعيد لغات الشارع والحياة اليومية والخيال الشعبي لرواة الساحة. كتب في فصل منها «قراءة لفضاء جامع الفناء» يقول: «التنافس الشرس داخل الحلقة: تعايش نداءات كثيرة، متزامنة: المغادرة الحرة لاستعراض في اتجاه جدة الحلقة المجاورة وإثارتها: ضرورة رفع الصوت والمحاججة، وتجويد الكلام، والعثور على النبرة الملائمة ورسم الحركة القمينة باجتذاب انتباه العابر أو إطلاق ضحك لا يقاوم: شقلبات المهرجين والمشعبذين المهرة، وطبول ورقصات غناوة، زعيق قردة، إعلانات أطباء وأعشابيين، وهجوم مباغت للطبل في اللحظة التي تمرر فيها آنية السبيل: استيقاف جمهرة دائمة الاستعداد، إلهاؤها، إغواؤها، اجتذابها رويدا رويدا نحو فضاء محدد، إشغالها عن النداهات المنافسة، وجعلها تطلق، أخيرا، الدرهم اللامع الذي يكافئ البراعة والعناد والصرامة والموهبة».

منذ ذلك الوقت والساحة تحتل أهمية كبرى في حياته أدبيا وإنسانيا. استطاع بفضل وجوده المستمر بالمكان أن يتتبع حركته ويرصد التغيرات: اختفت في أواسط التسعينيات مقهى ماطيش ذلك المرصد الذي كان يلتقي فيه الموسيقيون والرواة والحلايقي. كانت وسط الساحة مليئة بالحياة: كان يسميها بالمركز العالمي للثقافات. بدأ غويتيسولو منذ بداية التسعينيات يستشعر الخطر المحدق بالساحة وهو ما دعاه للتفكير في إيجاد صيغ لحماية هذا التراث الإنساني. كتب حينها نصا عنوانه: ساحة جامع الفناء، تراث الإنسانية الشفوي. وبدأ حملة للدفاع عن الساحة. في هذا الصدد صرح المدير العام السابق لليونسكو فيديريكو مايور، (مجلة المعهد الأوربي للبحر الأبيض المتوسط عدد 13/2010) بما يلي: «لن أنسى أبدا زيارة قام بها الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو لي في باريس، وعرض علي خلالها فكرته، قال لي: «بذات الطريقة التي نهتم بالتراث الثقافي والطبيعي، علينا أن نهتم بالتعبيرات الموسيقية، والأدبية أو التعليمية التي عبرها نكتشف الخاصية التي تميز الجنس البشري، أعني خاصية الإبداع، والقدرة على التفكير والابتكار والتخيل، والتوقع والتجديد. ستستفيد الإنسانية كلها لو تنبهت للقيمة التي تمثلها هذه المنتوجات الثمينة، التي أهملت للأسف. لكي «نحصر ما لا يمكن لمسه» ويصبح واقعا، علينا رؤية ما وراء الأحداث اليومية، بعيدا عن التقلبات والتحولات اليومية. «من الضروري تحقيق رؤية قادرة على الجمع بين ما هو محلي وما هو عالمي، ما هو راهن وما هو بعيد، ما هو على المدى القصير والشعور بالزمن التاريخي». لقد وضع اقتراح خوان غويتيسولو – المتعلق بحكواتيي ساحة جامع الفناء بمراكش – خطة طريق عملية قادت بعد سنوات في ما بعد إلى إقرار الاتفاقية المتعلقة بالتراث الثقافي غير المادي».

وجدت أفكار الكاتب آذانا مصغية لدى منظمة اليونسكو فتبنت مقترحاته. يذكر غويتيسولو في دراسته: «تاريخ موجز لإعلان»، والتي صدرت ضمن مواد كتاب له نشر العام الماضي بالإسبانية تحت عنوان «سفر إلى بلاد المغرب» – مراحل الإعلان يقول: «…كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي أن أول المقالات [التي كتب عن تراث جامع الفناء]، والذي صدرت ترجمته بعد ذلك بقليل في لوموند ديبلوماتيك، قد حظي – بفضل وساطة صديقي هانز ماينكي- باهتمام المدير العام لليونيسكو وقتها، فدريكو مايور زاراغوسا. اتصل بي الأخير وأعلن أن فكرة «تراث شفوي إنساني» أثارت اهتمامه. وأضاف أن مفهوم تراث إنساني الموجه لحماية الأماكن والآثار والمناظر وما إليه لا يشمل أو لا يحمي كفاية الأنشطة الثقافية وكذا التقاليد للجنس البشري المتعددة والمتنوعة والمعرضة للزوال. وبمساعدة قيمة لبضعة مستشارين، تم عقد لقاء لخبراء في المجال بمراكش في يونيو 1997. كان اللقاء غير الرسمي لخبراء قدموا من جهات الأرض الأربع بداية مرحلة انتقالية دامت ست سنوات. وتقرر خلاله تشكيل لجنة تحكيم تجتمع مرة كل سنتين مهمتها دراسة ملفات الترشيح المقدمة من قبل الدول الأعضاء في اليونسكو أو من قبل الجمعيات غير الحكومية. في اجتماعها الأول في ربيع 2001 درست اللجنة أربعين ترشيحا اختير منها 18، كان ترشيح ساحة جامع الفناء ضمن الفائزين».

يستخلص القارئ مما سبق أن فكرة تراث شفوي إنساني هي ابتكار شخصي للكاتب «ولد جامع الفنا وبافتخار» كما يحب أن يسمي نفسه.

بمناسبة زيارة الخبراء -1997- صدر النص الذي أثار اهتمام رئيس اليونسكو في كتاب بخمس لغات تحت عنوان «جامع الفناء تراث الإنسانية الشفوي» مرفوقا برسومات للفنان الألماني المقيم بمراكش هانس فيرنر غوردتس. يقول في النص المذكور: «…عرفت الإنسانية زمنا كان فيه الواقع والخيال يمتزجان، والأسماء تنوب عن الأشياء المسماة، والكلمات المبتكرة تأخذ بحذافيرها: فتنمو وتزدهي وتحتوي بعضها البعض وتحبل كأنها كائنات من لحم ودم. كان السوق والساحة والفضاء العمومي أفضل مكان لتوالدها البهيج: فيه تختلط الخطابات وتعاش الخرافات ويصير المقدس موضوع سخرية دون أن يفقد القدسية، وتتوافق المحاكاة الهزلية مع الشعائر الدينية، وتطير الحكاية المحبوكة بلب السامعين، فيسبق الضحك دعواتهم التي يكافئون بها المنشد أو المروض الجوال(…) مدينة واحدة ظلت تمتاز حتى اليوم بصونها لهذا التراث الشفوي الإنساني المنقرض الذي ينعته الكثيرون بـ «العالم- ثالثي». أعني مدينة مراكش وساحة جامع الفناء، التي بجوارها أعيش وأجول وأكتب بنشوة، منذ عشرين سنة.(…) لما جاء الكات ببذخه، قطرنت الساحة وزينت وشطبت(…) فقدت الساحة بعضا من هرجها وغوغائها، لكنها حافظت على أصالتها».

 

***

 

شكل الكاتب مع بعض مثقفي المدينة عام 1999 جمعية تهدف إلى حماية مختلف العروض الشفوية التي تلقى بالساحة وإعادة الأهلية لها. وأنجز عضوان مراكشيان بدعم مالي من منظمة اليونسكو كتيبا –في تسع صفحات- يعرض أهداف وبرامج إحياء تراث الساحة الشفوي ومن بينها: «تجميع الفنون الشفوية في ركائز مختلفة: صور، أوراق، سمعيات، زخارف تذكارية، وكذا إحداث خزانة وثائق وقاعة الصور والأصوات لوضع التسجيلات السمعية البصرية الخاصة بالساحة تحت تصرف الزوار.. وتنظيم موسم الحلايقي على شكل لقاءات سنوية، وإحياء حكايات الفرجة المتداولة منذ أزمان، والسهر على الإبقاء على الحلقات العريقة والعمل على إعادة المنقرضة منها لحيز الوجود. والعمل على استمرارية تكوين الحلايقية أو استخلافهم. وتيسير إعادة الكتبيين الذين كانوا يزاولون أنشطتهم وسط الساحة. ونشر وإشهار الكتب ووثائق الإرشاد والنشرات الخاصة بالساحة، وإحياء حرفة فناني الساحة والتعجيل بإحداث صندوق إعانة لفائدة الحلايقية الذين كفوا عن مزاولة أنشطتهم بسبب عائق من العوائق القصوى». لم تعمر جمعية المراكشيين طويلا: لم يمض عام على التأسيس حتى وقعت مشاكل بين عضوين مراكشيين فانصرفا إلى حال سبيلهما.

 

-ماذا تحقق من مشاريع جمعية ساحة جامع الفناء تراث شفوي للإنسانية؟

-أهم ما أنجزناه هو موسم الحلايقي: نظمنا خلال بضعة أشهر جولات للرواة الشعبيين بالمدارس: ألقوا خلالها أمام الأطفال حكايات. كان الهدف من ذلك هو أن يعتاد الصغار على هكذا إرث. تلك أفضل طريقة لضمان الاستمرارية. بعد ذلك عقدنا لقاء بتاحناوت (2003): إلى جانب العديد من الباحثين ألقت باحثة ألمانية تجيد العامية المغربية مداخلة عن دور النساء بالساحة. كان ذلك آخر لقاء نعقده: كلما اتصلت بهم كي نجتمع كانت لديهم دائما أعذار. قطعوا صلتهم بي نهائيا حين بعثت الرسالة. ولأنني لا أومن بكون التدخلات السماوية يمكن أن توقف عملا، أعتقد أن ثمة أسبابا أو بالأحرى مصالح مادية في المسألة. على أية حال لقد تركوني وحيدا. ولأني لا أستطيع أن أدير جمعية بمفردي كانت رسالة استقالتي».

 

***

 

بعث الكاتب بتاريخ 16 أكتوبر2005 إلى رئيس الجمعية والبقية الباقية رسالة قال فيها: « …لاحظت منذ يونيو 2003 أن جمعيتنا لم تعد تشتغل. انقطع التواصل بيننا دفعة واحدة. وبقيت القرارات التي اتخذناها على عجل خلال لقاءاتنا النادرة حبرا على ورق، ولم تنجز قط. كل القرارات معلقة والكلام فارغ. باختصار، لم نلتزم بتعهداتنا والتزاماتنا المبرمة مع اليونسكو، وفقدنا مصداقيتنا أمام عشاق الساحة الذين أبدوا رغبة عارمة في التطوع والتعاون معنا… من بوسعه الإحساس والتخفيف من معاناة الرواة؟… أضحى هذا الوضع بالنسبة لي لا يطاق. إن تخصيص مبلغ 3000 درهم شهريا من أجل أداء مستحقات كراء مكتب فارغ يبدو لي أمرا عبثيا، بل غير طبيعي ألن يكون من الأفضل توزيع هذا المبلغ على الرواة وفناني الساحة الأكثر احتياجا؟ أو تحويل المقر كملجأ للذين يفترشون الأرض ويتغطون السماء وجيوبهم فارغة. رغم استقالتي النهائية من الجمعية، ورغم أني لم أعد أنتمي إليها مطلقا أعتقد أنه من الأفضل لك القيام بجرد للحصيلة المالية التي استؤمنت عليها من طرف منظمة اليونسكو بصفتك رئيسا للجنة التحكيم الدولية المكلفة بالتراث الشفاهي واللامادي للإنسانية وتغلق الحساب البنكي الذي تملك صلاحية توقيعه، وترجع ما تبقى من مال لمنظمة اليونسكو…».

 

ما طبيعة الأموال التي أشرتم إليها في الرسالة؟

في سبتمبر 2001 أثناء اجتماع إلتشي سلمني أمير خليجي شيكا بمبلغ 80 ألف دولار دعما للجمعية، سلمته بدوري عند عودتي لمراكش إلى رئيس الجمعية. بهذا المال كنا ندفع مستحقات كراء مكتب فارغ بزنقة بني مرين خلف بنك المغرب. وطلبت من الأعضاء عدة مرات تجهيز المكتب بخط هاتف وفاكس وتشغيل سكرتيرة، لكنهم لم يفعلوا. ظل هكذا وضع إلى غاية 2005. ومن جهة أخرى كان الرواة الشعبيون خلال 2003 يأتون لبيتي كل يوم جمعة حيث أسلمهم مبلغ 200 درهم لكل واحد منهم.

 

– في أواخر عام 1999، وبينما كنتم تعملون من أجل حماية تراث الإنسانية الشفوي كان عمدة ذلك الوقت قد شرع في بناء أساسات «قيسارية اللوكس» بقلب الساحة، وواجهة من الكريستال يبلغ ارتفاعها 15 مترا، وكذا مرأب للسيارات يمتد تحت ثلاث طبقات أرضية. كان يرغب في جعل الساحة مركزا تجاريا. وقفت حينئذ ضد هكذا مشاريع، فتوقفت نهائيا…

– بالفعل، لقد استطعنا أن نوقف مشروع موقف السيارات وقيسارية اللوكس: كانوا سيبنون وسط الساحة سوقا ضخما على شاكلة مرجان. كانت تلك المشاريع تخرق ظهير 1922 الذي يحمي معمار المدينة. كانت لو تحققت ستقضي نهائيا على حياة البازارات الصغرى وكل الأنشطة التي تقام بالساحة. ركزنا على أن لا تتحول الساحة إلى مرأب للسيارات. وهم ينبشون الأرض كي يثبتوا أعمدة الإنارة الخاصة بالمطاعم المتنقلة وجدوا أساسات جامع المنصور الذهبي. جاء مسؤول مفتشية المآثر التاريخية السيد فيصل الشرادي وأراني ما تم اكتشافه، فأوقف الأشغال. لقد منع الإعلان بحق حدوث ذلك. كانوا سيخربون الساحة: أو ليس ذلك جنونا حقا؟ بعد الإعلان لم يعد أحد للحديث عن المشاريع إياها. بديهي، لم يرق ذلك أبدا لأصحاب البنايات الخرافية.

***

بعد تبني اليونسكو للفكرة تشكلت لجنة تحكيم مهمتها اختيار الفضاءات الثقافية أو الأشكال التعبيرية الثقافية التي تستحق أن تعلن ضمن «تحف التراث الشفاهي واللامادي للإنسانية». وضمت 18 عضوا نذكر من بينهم: الأميرة بسمة بنت طلال (الأردن)، كارلوس فوينتيس (المكسيك)، هايديكي هاياشيدا (اليابان)، وألفا كوناري (رئيس جمهورية مالي) وعزيزة بناني (سفيرة المغرب لدى اليونسكو) وأعضاء من الهند وباكستان والإمارات والقوقاز وليتوانيا وبوليفيا… إبان الاجتماع الأول للجنة في 15 ماي 2001 ألقى غويتيسولو خطابا يدعم ترشيح ساحة جامع الفناء، عنوانه: «حماية الثقافات المهددة»، طرح فيه علاقة الكتابة والشفوية وكذا أثر وسائل الاتصال الجماهيرية على هكذا تراث، يقول: «وأما طبيب الحشرات الذي يتوفر على طاقة لغوية ومهارة ارتجالية أسرتا جمهور حلقته طيلة عقدين من السنين. فكان يسخر في الغالب من اللغة المتخشبة الصادرة عن إذاعة بلده وتلفزتها». وبين كيف «ترفق هذه الشفوية الثانوية بفن غير مادي هو ثمرة الإطار الملموس والمادي الذي تشكله الحلقة: تكشيرات وإيماءات ولحظات صمت وضحكات وبكاء (…) وكما لاحظ تيربانتيس أن هنالك حكايات تتركز متعتها في أسلوب سردها، ولذا فإن النجاح الشعبي للحلايقي لا يترتب عن الموضوع الذي يكون معروفا دوما لدى السامعين، وإنما عن مهارة الارتجال التي يتوفر عليها وحسن إدارته لتلك المهارة (…) إن مشهد جامع الفناء يتكرر يوميا، لكنه مختلف في كل يوم. فالأصوات والأصداء والإيماءات تتغير مثلما يتغير الجمهور الذي يرى ويسمع ويشم ويتذوق ويلمس. هكذا يندرج الإرث الشفوي في إرث آخر أشد سعة ورحابة. يمكننا أن نطلق عليه اسم الإرث غير المادي (…) وختم كلمته بالقول: هكذا يفتح تبني اليونسكو مفهوم «الإرث الشفوي واللامادي» الجديد، الطريق للمحافظة على الثقافة الشفوية لمئات اللغات التي تفتقر إلى الكتابة». (أنظر الترجمة الكاملة للخطاب ضمن مواد «تراث شفاهي ولامادي للإنسانية»/ دفاتر الهندسة المعمارية والتمدن 2007.)

 

 

أعلنت ساحة جامع الفناء رسميا من قبل اليونسكو تراثا شفاهيا ولا ماديا للإنسانية في 18 مايو 2001. كيف تلقى المغرب نبأ الإعلان؟

توصلت بصفتي رئيسا للجنة من كافة المدن التي ترشحت للإعلان برسائل شكر. وحدها مدينة مراكش لم ترسل شيئا. لم يفاجئني الأمر قط، وأكثر من ذلك فقد صرح عمدة المدينة، في تظاهرة نظمها بعيد الإعلان، أن اليونسكو سرقت صوت الساحة. لم أجد العون طيلة مدة اشتغالي في الموضوع إلا من عزيزة بناني سفيرة المغرب لدى المنظمة والمعماري الكبير سعيد ملين.

 

نظمت كلية الآداب بمراكش (تديرها الآن عضوة سابقة في الجمعية سالفة الذكر)، ومندوبية الثقافة والمجلس الجماعي احتفالا بالذكرى العاشرة لتصنيف الساحة تراثا شفويا للإنسانية. لم تتم دعوتك لهكذا احتفال.. غريب أمرك أيتها البلاد الجاحدة: غريب أمرك مراكش..؟

منذ ثلاثين سنة خلت وأنا أعرف إدارة ومسؤولي البلدية لذلك لم أستغرب بتاتا. لم تكن الثقافة يوما شاغلا يشغل بالهم، مع ذلك أرى أن الأدب ليس من خصالهم. باختصار، ذلك مشكل يعنيهم وحدهم، أما بالنسبة لي فالأمر سيان. لا شيء يجبرهم على دعوتي. كنت طيلة أربع سنوات رئيسا للجنة تحكيم اليونسكو أما الآن أصبحت مواطنا لا أمثل إلا نفسي. ربما لأنهم يعرفون أني لا أطيق الأنشطة الرسمية، ربما رغبوا أن يجنبوني عناء الإصغاء طيلة نصف ساعة لكلام أضحى، في عمري، لا يمكن احتماله. لقد فعلوا خيرا عندما دعوا شخصا مثل فريدريك متران الذي يمثل عالما رسميا لا أنتمي له قط. ليس الاعتراف من قيم البيروقراطية المراكشية.

وهذا مثال آخر حدث في وقت آخر: كنت عضوا في لجنة ابن رشد التي كلفت بتنظيم سنة المغرب في إسبانيا. علمت أن ليس ثمة موارد لتنظيم تظاهرات، فتحدثت مع مجموعة من الأصدقاء واقترحت تنظيم أشياء بسيطة لا تكلف شيئا: أعرف مجموعات موسيقية مغربية في كاتالونيا ومدريد وبعض جهات الأندلس، كانت الفكرة هي تنظيم حفلات موسيقية في الأماكن التي يوجد بها مهاجرون مغاربة، كانت طريقة لنقول لهم إننا نفكر فيكم. لم يكن الأمر يستدعي سوى التنسيق مع الأشخاص الذين أعرفهم. وجدوا الفكرة مهمة جدا لكنهم لم يفعلوا شيئا. أعيد دائما وأكرر: «عاونوني باش نعاونكم».

انتشرت في العقد الأخير مطاعم متنقلة داخل الساحة واحتلت مكان الرواة الشعبيين. وهو ما يجعلنا نتساءل: ما الإجراءات التي اتخذتها السلطات المحلية للمحافظة على تراث الإنسانية الشفوي.. ألم يحن الأوان بعد لتوكل شؤون تسيير الساحة إلى هيئة مختصة بدل ترك الأمور بيد مجالس محلية تتلاعب بمستقبل المكان. يذكر أن لوائح اليونسكو التي حددت إجراءات التصنيف (اتفاقية التراث 1972) تتضمن أيضا إجراءات لإلغاء التصنيف وذلك في حالة عدم تحقيق الأهداف. ومن بين أسباب سحب التصنيف حدوث تغييرات أو ضرر للموقع، وتحويل وظائفه الأساسية، وتعديل الأهداف التي من أجلها كان التصنيف. نقرأ في نهاية نص «جامع الفناء تراث شفوي للإنسانية» ما يلي: «تتوهج الكلمات وتتألق وتمد في عمر هذا الملكوت الخارق. لكن الخطر المحدق بالساحة يقلقني أحيانا. فيتكوم الخوف سؤالا على شفتي: إلى متى؟».

 

الإنسان النقديّ
حاوره: كاظم جهاد

– أنت روائي الحرب الأهلية الإسبانية، بمعنى المحلل، عبر لغة الرواية مثلما بلغة النقد الفكري، لعناصر الحياة الإسبانية التي جعلت من الممكن أن يحدث ما حدث. لذا يبدو لي طبيعيا أن نبدأ هذه المقابلة بسؤال عن ذكرياتك عن الحرب الأهلية التي عايشتها صغيرا…

 

– عندما اشتعلت نيران الحرب الأهلية كنت في الخامسة والنصف. لدي عن الحرب ذاكرة مكتظة بصور الانصدام والجرح، أكثر مما بالذكريات الواعية. كمثل بقية مواطنيّ، وربما أكثر من سواي، طبعتني الحرب بميسمها الذي لا يمكن محوه. الدليل هو أنني أتمتع بذكريات واضحة عن سنوات الحرب أكثر مما عن السنوات الأولى بعد الحرب. أتذكر اليوم الذي أحرق فيه الفوضويون  كنيسة القرية، وجاؤوا بعد ذلك لحرق «مذبح» العائلة الصغير أيضا. أتذكر أن أحدهم هدد والدتي بمسدس. كنا قد التجأنا في العام 1936 إلى منزل ريفي قريب من برشلونة. أتذكر مرض والدي، الطويل، وغيابه. لم أكن أعرف إن كان في معمل العائلة أم في السجن. أتذكر أشخاصا كثيرين كانوا موضوعين تحت الرقابة وأن والدي قد استعان في ما بعد بحارسين شخصيين. كانا جد طيبين. إنهما الشخصان الأولان اللذان اجتذبا اهتمامي، أنا الطفل، خارج مدار العائلة. هذه كلها، كما ترى، وقائع مجزأة، ومحاطة في الذاكرة بضباب كثير. إلا أن ما كان أفظع هو ذلكم الشعور الطاغي باليأس وموات الأشياء الذي بدأ، مع اندحار الجمهورية، يلفّ كل وجود، وكل كيان. عقب هذه الإقامة في قرية «تورينو»، انتقلنا إلى قرية أخرى وجدت فيها العائلة بيتا أكثر انعزالا وهدوءا. إن العهد الذي وقعت أمي ضحية غارة فاشية في 18 آذار (مارس) 1938. أتذكر، في نهاية الحرب، هزيمة الجمهوريين، والدخول الكاسح لفصائل فرانكو. هنا وقع «فصل» القنبلة الذي تشير له. كنت انحنيت لالتقاط شيء من على الأرض، توهمته دمية. فصرخ بي «لويس» وهو أصغرنا سنا، بأن هذه يمكن أن تكون قنبلة، وكانت كذلك بالفعل ! مع نهاية الحرب، عدنا إلى برشلونة، واستعدنا حياة أسرة برجوازية صدمتها الحرب الأهلية كبقية أغلب الأسر.

 

– الحرب قادتك إلى الكتابة، أليس كذلك؟

– لقد بدأت الكتابة مبكرا جدا. تعلمتها قبل سن السابعة، على والدتي، في «عطلة» الحرب الكبيرة هذه. في السابعة، بدأت الكتابة.  قصائد وحكايات. ثم انتقلت إلى كتابة «الرواية». كانت رواياتي الطفولية محاكاة كاملة لما كنت أشاهده من أفلام المغامرات. إحدى «رواياتي» تدور أحداثها في غابات البرازيل. تصور إنني كنت أقص صور أبطال مجلات القصص المصورة، وألصقها في ثنايا الرواية، حتى يتعرّفها القارئ فلا أكون مضطرا لوصف الشخصيات. ربما وجد نقاد اليوم في هذا الإجراء استباقا للرواية – الكولاج. «رواية» أخرى من ذلك العهد، أعتقد أنها موجودة في أرشيفي الشخصي الذي أهديته لمدينة «المرية» الأندلسية، بطلتها هي الفرنسية «جان دارك». وقد جعلتها تعدم على يدي «روبسبير». إنه كما ترى جهل بالتاريخ، قد يأتي أحد النقاد، أيضا، ليجد فيه علامة على الحداثة.

 

– في سن الرابعة عشرة. كنت، مداراةً لرقابة الأب، أضع أمامي، على الطاولة، كتابا مدرسيا وتحته كتابا أدبيا، أو دفترا للكتابة، أعمل عليهما خلسة. قرأت «أونامونو» بخاصة. وتوجهت مبكرا إلى الآداب الأجنبية. وكانت هذه ردة فعل على الثقافة المدرسية. كانوا يصورون لنا الكتاب الرديئين عباقرة، مبقين على العباقرة في الظل. تصور أنني لم أقرأ «دون كيخوتة» إلا في سن الخامسة والعشرين.

 

– ما أثر إقامتك الطويلة هذه في باريس على مسيرتك الأدبية؟

 

– يعتبر البعض باريس حدا فاصلا في عملي الأدبي. وأنا أتفق، إجمالا، مع النقاد عندما يقسمون عملي إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى، التي تشمل أربع روايات أو خمسا، ومجموعات قصصية، تبدأ بكتابة «ألعاب يدوية» وتنتهي مع الوصول إلى باريس. إنها أعمال تتراوح بين الوصف الواقعي والخيال، شئت أن أصف فيها، مأساويا في الغالب، وجوه الحياة الإسبانية. تليها مرحلة ثانية، تذهب أعمالها من «الجانكا» (باسم أكثر الأحياء فقرا في «المرية») إلى «حقول نيخار». وهي مزيج من المعاينة الشخصية (الريبورتاج الروائي) والنقد السياسي والاجتماعي. إنها تجسد اكتشافي للجنوب (الأندلس) والبؤس الكبير الذي يلف حياة الناس فيه. ثم تأتي المرحلة الثالثة، التي ما أزال فيها، والتي بدأت مع «بطاقة هوية». شعرت، لدى الدخول في هذه المرحلة، بأنني أديت واجبي كمواطن، إذا صح التعبير، وقمت بما كان يجب القيام به لفضح الواقع الإسباني المزري، وأن «علي الآن أن أحاول الكتابة الناضجة، التي هي، بالدرجة الأولى، عمل في اللغة، وعليها، وبحث عن الوجوه الخفية للواقع».

 

– تتحدث عن ضرورة مواكبة البحث النظري، وفي الوقت نفسه عن ضرورة مقاومة إمكان تأثيره «الميبس» على الكتابة. ألا تعتقد أن قوة هذه المقاومة تعتمد، أيضا، على قوة «المتخيل» لدى الكاتب نفسه؟

– بالتأكيد. قوة المتخيل ومكانة الحياة في التجربة الأدبية. إن ما أنقذني من التكلس الذي وقع فيه الكثير من الكتاب الإسبان المعاصرين هو أنني لم أكن لأريد أن أكرس حياتي بكاملها للأدب. كنت أريد أن «أعيش» أيضا. أصبت بفضول ونهم لمعرفة ثقافات أخرى، أي، بالتالي، أنماط حياة أخرى. «والذي يحدث هو أن الحياة، عندما تعاش بأصالة، ويضطلع بها كمغامرة، تأتي في الغالب لنجدة الأدب، ولتجذيره. إن ما أعيبه على زملائي بقية الكتاب الإسبان هو اكتفاؤهم بنقطة مرجعية واحدة، هي الحياة الإسبانية، وعدم معرفة تجارب أخرى تساعدهم في الخروج من نمط الحياة والتفكير، الإسباني، الذي يتكرر منذ قرون. «إن وجودي في باريس مكنني من التحرك في اتجاه ثقافات أخرى وشعوب أخرى، وما حاولت أن أعكسه في أدبي هو خلاصة تجاربي هذه ورحلاتي.

 

– متى بدأت علاقتك بالعالم العربي؟

– بدأت علاقتي بالعالم العربي في ظروف سياسية. فمنذ الشهور الأولى لإقامتي في باريس أدركت الهوة الواسعة بين روح الشعارات الفرنسية («الحرية»، «الأخوة»، «المساواة»، الخ)، وبين تطبيقها في الواقع. إنها تفرغ من مفعولها بمجرد أن يتعلق الأمر بالجزائريين مثلا. لذا قمت بالانخراط، بالقدر الذي تسمح به إمكاناتي، في النضال ضد الاستعمار. أقول لك بافتخار وتواضع، إننا، أنا وزوجتي مونيك، أخفينا في بيتنا أكثر من مناضل جزائري، وأن أحد صناديق مال «منطقة التحرير الوطني» الجزائرية في باريس كان مودعا في منزلنا. بعد الاستقلال، دعاني بن بلا إلى زيارة البلاد، ففعلت. ثم صرت أسافر بعد ذلك إلى أقطار المغرب على نفقتي الخاصة. وبدأ، منذ ذلك الحين، الانخطاف الثقافي الذي تعرفه، والذي دفعني إلى اكتشاف العناصر المشتركة في ثقافتينا وسلوكينا.

كما زرت الأقطار العربية في الشرق الأوسط. قمت في خريف 1968 بجولة مررت فيها بتركيا وسوريا ولبنان والأردن. التقيت بعض قادة «فتح»، ونشرت عنهم ريبورتاجا في مجلة «النوفيل أوبسرفاتور». إلا أنني لم أكن في تلك الفترة لأعرف العالم العربي ولا الثورة الفلسطينية بالشكل الكافي لكتابة نصوص حقيقية. تحليلاتي لإواليات ماكنة القمع الصهيونية، التي نشر أغلبها في «إلبييس»، ودراساتي في الثقافة الإسلامية، ستأتي في ما بعد، انطلاقا من أواسط السبعينات.

هذه العلاقة كشفت لي عن أنه لا يمكن فهم تاريخ إسبانيا، ولا أدبها، من دون فهم التاريخ والأدب العربيين. إن ما درسناه حول المعمار أو «المدخر» أو «المدجن»، أي المتأثر بأساليب البناء العربية، إنما ينطبق على الأدب الإسباني أيضا. فلا يمكن، في رأيي، أن نفهم القرون الأولى من الأدب القشتالي من دون هذا البعد العربي الخاص فيه، والذي تلتقطه العين الحساسة منذ أول وهلة.

ومن جهة ثانية، فقد مكنتني هذه التجربة من اكتشاف عالم آخر : إفريقيا الشمالية التي وجدت فيها، من جديد، عناصر كثيرة محاها تاريخ حضارتنا، وأسفت على هذا المحو. رأيت أن هذا الفرار إلى المستقبل الذي تعيشه إسبانيا إنما هو مسيرة انتحارية، وشعرت بالألم لاختفاء أشياء هي بهذا الجمال، وما تزال حية لدى أناس تتهمهم عجرفة الإسبان بالتخلف. لقد دهشت بالتماثل النفساني بين الإسبان والعرب، عرب أقطار المغرب بخاصة، وبالجهل المشترك، تقريبا، بهذا التماثل. فكما عبر رحالة إسباني، فإن هذه الكيلومترات الأربعة عشر الفاصلة بين الساحلين الإسباني والمغربي، على المتوسط، إنما تقابلها مسافة ذهنية تقاس بقرون. مع ذلك، فالإسباني يترجم صيغا كاملة من العربية (ومن الصيغ اللغوية ما يمثل بنى عقلية)، من مثل «إن شاء الله»، وسواها، ما يعكس تقاربا نفسيا – اجتماعيا عميقا بين الشعبين. هناك في الإسبانية ما يقرب من أربعة آلاف مفردة عربية. وقد لاحظت أن الإسبان وعرب المغرب هما الشعبان الوحيدان اللذان يشبهان خصية الرجل بالبيضة، ومنيه بالحليب. هذان مثالان «مبتذلان»، إلا أن من اللافت للنظر أن التقارب بيننا يشمل حياة الإنسان الحميمة بالدرجة الأولى. هذه الأشياء، وسواها، جعلتني أعتقد بأنه يكفي عبور مضيق جبل طارق لاكتشاف أصل الكثير من تصوراتنا وعاداتنا.

السلام عليكم.. أنا عربي من شمال إفريقيا!

 

محمد الحارثي

 

استحضار (الآخر) أي ما نفته الواجهة الحضارية الغربية: الالتفات العميق إلى ابن الفارض، وابن عربي والسهروردي وفريد الدين العطار صاحب «منطق الطير» الذي وظف الكاتب مقاطع منه في روايته «فضائل الطائر المتوحد» حد مقاربة السجع العربي وإعادة تشكيله في اللغة الإسبانية (كما هو واضح في المقطع السابق – المعادة ترجمته).

تلك الرواية التي «يمزج فيها الكاتب بين الأزمنة والأمكنة، ويجمع بين عزلة المتصرف – ممثلا في القديس يوحنا الصليب (سان خوان دي لاكروث) – وعزلة العاشق المعاصر.

في هذا العمل يسخر غويتسولو من إسبانيا الفرنكوية إلى درجة تمنيه لغزو عربي – إسلامي جديد لبلاده (أثار السخط لدى النقاد المتبلدين في إسبانيا واتهموه بعدم الوطنية)، لكن الأمر لم يكن بنفس الوتيرة الحاقدة لدى أدباء أمريكا اللاتينية الذين جددوا روح اللغة الإسبانية هناك بعيدا عن معقلها (أوكتافيوباث، غارثيا ماركيز، كارلوس فونتيس، وبورخيس) هؤلاء الكتاب الذين اعتبروا غويتسولو «الإسباني» شريك مسارهم التجديدي، كما أكد ذلك المكسيكي كارلوس فونتيس في كتابه المهم: «خوان غويتسولو.. اللسان الشائع».

وكما أشار إليه، في معرض دفاعه عنه، الكاتب البيروني ماريو فارغاس يوسا أثناء قراءاته لـ «دون خوليان» قائلا: «الوطنية فضيلة خصبة للموظفين ولكنها فقيرة أدبيا». مضيفا وموضحا «أن الأدب بعامة، والرواية بخاصة، هي تعبير عن عدم الرضى: والخدمة الاجتماعية التي يؤديانها تتمثل أساسا في تذكير البشر بأن العالم مساء خلقه دائما، وإن الحياة ينبغي أبدا أن تغير».

لذا كان موقف الكاتب جذريا على صعيد الفضاء الذي يشتغل عليه في كتابته، أو على صعيد اللغة التي لاحظ أنها آخذة في الموت على يد كتاب إسبانيا، وتحديدا المنادين منهم بتجريدها من المفردات العربية (التي تشكل نسبة لا يستهان بها) مذكرا إياهم، بسخرية لاذعة، بالهتاف التعجبي الشائع لدى الإسبان «أوليه» المحرف عن الهتاف التعجبي العربي «الله» بل ويضربهم في الصميم، بتذكيرهم أن أكثر رياضيات إسبانيا شعبية (مصارعة الثيران) والمصارع (التروبادور) بما فيها اسم «التورو» ليست سوى أسبنة واضحة ومشتقة من كلمة «الثور» العربية. ولا يخفى الترميز هنا – بسخريته المتعمدة – إلى الحضور القوي للمخترق الأول (بكسر الراء) لثقافة وطنه الجاحد، حسب تعبيره.

لم يكتف غويتسولو بمجده الأدبي وشهرة كتبه التي تتسابق دور النشر في الغرب لنشرها. وإنما وفيا للأصدقاء الذين على شاكلته، مثل جان جينيه الكاتب الفرنسي المتمرد الذي وصفه ذات يوم جان بول سارتر بقوله الشهير: «إن جان جينيه كذاب، ولص، وشاذ، وعبقري، وقديس، وشهيد» – لم يكتف بذلك وإنما قدم رؤية خاصة به تنصف جينيه وتعتبر من أجمل الشهادات الأدبية، ضمنها غويتسولو سيرته الذاتية: «الحظيرة المحجوزة».

كذلك كان مع الأمكنة كفضاء يشتغل عليه غويتسولو بحب وقوة ملاحظة وبصيرة نافذة مكنته من كتابة قراءات في المكان تعتبر أيضا من أهم ما كتب في «جماليات المكان» إن استعرنا تعبير باشلار – أهمها قراءته لفضاء «جامع الفنا» بمراكش، ومدينة الأموات «قرافة القاهرة».

وتعبيرا عن رفضه الدائم للإدانة التي تمارس ضد ثقافة العالم العربي الإسلامي سجل – إلى جانب مسيرته الإبداعية المتفردة التي لم يكتف بها وسيلة للتعبير عن رفضه– سجل لحساب التلفزيون الإسباني حلقات وثائقية سماها «القبلة» إحداهن عن «قرافة القاهرة» والثانية عن بقايا رياضيات الصوفيين السرية في إيران وثالثة عن (المذهب الإباضي) صورها بمدينة «غرداية» الجزائرية ومساجدها وحوائرها العتيقة، ورابعة عن القمع الاسرائيلي للفلسطينيين في المخيمات .. الخ (شاهدت هذه الحلقات بمنزله الكائن في حي تقليدي بمراكش) وما كانت الحلقة التي صورت في «فلسطين» لتعرض بسبب تفتيش الجيش الاسرائيلي لفريق التلفزيون الإسباني ومصادرته للفيلم لولا تدخل السفارة الإسبانية بتل أبيب، إثر احتجاج غويتسولو العنيف ضد ذلك السلوك الفاشي.

 

يروي غويتسولو نادرة أخرى (نختتم بها هذه القراءة التعريفية) حدثت له مؤخرا إثر زيارة له إلى اليمن، خلال موجة خطف بعض الأجانب من قبل قبائل يمنية) حيث – كعادته – خاطر بالذهاب إلى منطقة نائية بصحبة دليل وسائق يمنيين لم يكفا عن «تخزين القات» حتى تاهوا طريقهم ووصلوا إلى منطقة بهاق بليون شرسون حيث أشهر أحدهم سلاحه أمام اللاندروفر التي تقل غويتسولو ورفيقيه اللذين انتابهم الخوف والهلع، لولا تهدئة غويتسلولو لهما، مطمئنا إياهما إلى أنه سيتصرف حيال الموقف، فاتحا باب السيارة متجها ومواجها بنادق القبيلة بكلمة (السلام عليكم، أنا عربي من شمال إفريقيا). فارتد الرصاص، وإمكانية الخطف، والمطالبة بفدية عن رأس غويتسولو إلى وليمة غداء يمنية دسمة !!(يجيد الكاتب الفرنسية والإنجليزية والدارجة العربية المغربية وبعضا من الفصحى، إضافة إلى لغته الأم).

يضيف غويتسولو بعد روايته للحادثة أن من أنقذه، في حقيقة الأمر، المحمول الرمزي بالغ الدلالة لتحية العرب (السلام عليكم)، تلك التحية التي لا شبيه لها في تحيات الشعوب الأخرى، على خلاف مواجهته لغطرسة الجيش الاسرائيلي الذي اضطر لتخليه عن موقفه المتعنت إثر تدخل دبلوماسي رسمي من سفارة إسبانيا.

خوان غويتيسولو

 

القراءة وإعادة القراءة 

ترجمة: عبد الكريم جويطي وحسان بورقية

 

قبل سنة ونصف تقريبا، اتصل بي هاتفيا موظف من وزارة ثقافتنا، فائقة الوصف، حتى يستدعيني لمداخلة في ندوة كتاب ستنعقد بلشبونة. وبما أن اقتراحه لم يوقظ حماسي، أضاف عضو الحكومة، بنية حسنة لإقناعي أنه: «سيشارك في ذلك ما يفوق خمسة وأربعين كاتبا». عوض أن أغتبط وأن أصعد إلى السماء السابعة، أفحمني هذا العدد. «كيف يمكن، قلت لنفسي، أن يوجد في نفس الآن في بلد واحد خمسة وأربعون كاتبا؟» ربما في العالم بأكمله، وبتفاؤل مني سيكون هذا العدد مستساغا، لكن في إسبانيا حيث، على سبيل المثال، لم يوجد كاتب حقيقي واحد في القرن الثامن عشر كله، سيكون هذا منافيا للعقل تماما. إن أمة تحصي، في لحظة معينة من تاريخها، ثلاثة أو أربعة كتاب مؤهلين للاستمرار هي أمة غنية جدا. لم تكن القفزة الكمية لمسؤول وزارة الثقافة تخضع آنئذ لأحلام عظمة لا ولا لشوفينية وطنية: لقد كانت تعكس خطأ شائعا جدا في حقل النقد المزعوم للصحافة المكتوبة ووسائل إعلام أخرى.

يوجد بإسبانيا، كما في كل البلدان التي بها صناعة مزدهرة تقريبا للكتاب، خلط مؤسف بين النص الأدبي والمنتوج الافتتاحي، وهذا هو الأخطر، ميل صحافيين ومبرمجين ثقافيين إلى إهمال أو الضرب صفحا عن الأول لصالح الثاني. كل مرة أثرتُ فيها هذا الموضوع بين الجمهور، كان يوجد أحد ما، ناقد أو قارئ، لكي يطرح علي السؤال بمبرر: «بناء على أي معيار تميزون الواحد عن الآخر؟».

رغم أن الجواب مركب في حد ذاته، يمكن أن يصاغ بوضوح في الكلمات التالية: في ضرورة إعادة قراءة النص أو عدمها. إن المنتوج الافتتاحي، وبالخصوص ذلك المحضر منه بعناية، يشبع شهية القارئ في الموعد المحدد ويسمح لنفسه بالاستهلاك، بالهضم وبالخروج مثل هامبورغات أكلتنا السريعة: مصنوع لإلهاء القارئ السلبي، يخرج من وعيه بالسهولة ذاتها التي دخل بها. إنه أرْوجُ الكتب، قبلة أنظار الصناعة الافتتاحية وعدد من الكتاب الذين يشكلونها، هدف طمعهم: غزو أكبر عدد من القراء الممكنين.

والحال، كما لاحظ أندري جيد بجلاء أن «ما يفهم في رمشة عين لا يترك عادة أي أثر» وهذا المنتوج الافتتاحي ذو الاستيعاب الفوري، محكوم عادة بالنسيان، باستثناء تلك الحالات حيث يسمح فيها خلط توابل سعيد بالصمود خلال بضع سنوات، بل حتى بضعة عقود، في لائحة شرف ما تحت الأدب.

بالمقابل، لا يسعى النص الأدبي إلى اعتراف آنيّ لا ولا إلى غواية فورية للعموم. لا يبحث عن قراء بل عن معيدي القراءة وغالبا، عندما لا يوجد هؤلاء، فإنه يكون مجبولا على اختلاقهم. وعوض أن يتحرك في إطار معلوم مسبقا، انسجاما مع بعض القواعد المألوفة لدى المتلقي المعهود، فإن الكاتب الذي يسعى إلى ترك آثار ما وإضافة غصن إلى شجرة الأدب الكثيفة، لن يتردد في زحزحة القارئ، راغما إياه على الدخول في حقل مجهول مقترحا عليه منذ البداية لعبة ذات قواعد جديدة تماما. إن قلق هذا الأخير، الأولي، تلمّساته المترددة في فضاء غفل ومجرد من منارات يمكن تبيّنها، ضرورةَ رجوعه إلى الوراء قصد اكتشاف القوانين السرية التي تشكل المنطقة الجديدة المفتوحة من طرف الكتاب، ستنتعش رغبته كقارئ، وستحثه على المساهمة مع الكاتب لامتلاك مشروعه الفني المبتكر. بشكل خفي، يصبح القارئ معيدا للقراءة ويمكنه إذن أن يتدخل إيجابيا في قرار وارتقاء النص وقد قُرئ وأعيدت قراءته. في نهاية المطاف، لا يبدع الكاتب الأثر الفني فحسب، بل كذلك، وأتمسك بهذا، جمهورا في مستواه.

لقد تحددت، أنا، باعتباري قارئا، من طرف عشرات وعشرات الكتاب الذين كانت رواياتهم أو أشعارهم، المتمردة على التجارب الأدبية السابقة، تجبرني على الالتزام معها، في تلاحم شغوف وفريد. لقد كان محراب القارئ الجديد هذا، الذي أسسته نصوص بسعة «كتاب الحب الطيب»، «سلستينا»، «الأندلس المستهترة»، «النشيد الروحي»، «دون كيشوط»، «عزلات»، حاسما في تدبير كتابتي الخاصة. إن ما بحثت عنه في هذه الآثار وطالبت به من كتابها، فرضته بدوري على نفسي، مجبَرا بهذا على تغيير المتلقي المثالي للكتاب: ليس القارئ المشبع عادة بقراءة ما، بل القارئ المعيد المرغم على بذل مجهودات كبيرة مع النص، على التيه في تعرجاته وعلى العثور على طريق السيرورة السليم المحرض على إعادة البناء. إن تجارب القارئ والكاتب الفريدة هي التي قلبت، خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، حياتي وتصوري للنص المكتوب: العبور من الرواية المصنوعة بحسب قوانين النوع إلى نمط ما من الآثار الذي يخلق، كلما تطور، قوانينه الخاصة. خلال بضعة أشهر، اقترب مني شاب وقال لي: «لقد قرأت كتابكم الأخير وأعجبني». «هل أعدتم قراءته؟». «لا». «في هذه الحالة، إما أنكم قارئ رديء أو أنني كتبت إذن كتابا رديئا».

منذ «دون خوليان»، أن أكتب يعني بالنسبة إلي مغامرة بمنزلة القراءة الإبداعية ذاتها التي أحيل عليها، في حين أن في روايات شبابي، كنت أنطلق من تصاميم مرسومة قبليا، بشخصيات وأوضاع قابلة للتصديق ومحددة جيدا، تلك التي ألفت في ما بعد رهان أصيل: أبدأ النص انطلاقا من جملة أو من صورة، دون أن أعرف إلى أين يقودني القلم. ريبة خلاقة تدع الرواية تنمو وتتطور عضويا بتدخل أدنى من الكاتب، طبقا لرأي جان جنيه الجوهري حول الكتابة في عصره: «إذا كنا نعرف مسبقا نقطة الانطلاق ونقطة الوصول، لا يمكن لنا أن نتحدث عن مشروع أدبي، بل عن خط حافلة ما». لقد مررت، بفضل شهيتي الجشعة كقارئ متعود على اكتشاف نصوص جوهرية، عويصة، ومن النظرة الأولى، يصعب النفاذ إليها، من الكتابة الموروثة إلى الكتابة المبتكرة مثل مغامرة تغوص بين يدي القارئ، هذا القارئ المعيد الجديد، إنتاج كل أثر أدبي مثير وغني، بينما تجد الأغلبية الساحقة من الكتب على ما يبدو، جمهورا معدا سلفا، تفتح الكتب التي تعنيني طريقها ببطء إلى أن تعثر على قرائها، أو تتخيلهم. من كان بإمكانه أن يقرأ «أناشيد المالدرور» أو الـ «عوليس» الجويسي عندما كُتبا ؟ كان يلزم انتظار سنوات أو خمسيّات لينبجس في النهاية قراء – معيدو قراءة قادرين على فهمهما، باعتبارهما التمديد المنطقي للسيرورة المعلنة من طرف الكتابة. بعد عشر، خمس عشرة أو أربعين سنة من التأخر، آنئذ وجدت هذه الأعمال متَلقِّيها.

إن ما يميز الكوكبة اللازمنية لمبدعي النصوص المشتركة عن كتّاب مطنب في إطرائهم من طرف النقد ومنتخبين من طرف العامة، هو مسألة فهم أن عملا أدبيا ما قد مات أو بطل هو ذاك الذي بالنسبة لهؤلاء ما يزال يقدم نفسه متظاهرا بالحياة. يعرف الكاتب الخلاق البارد تجاه تصفيقات ومآخذ معاصريه، أنه محاط بزملاء أموات – حاولوا الحراك عبثا، مراكمة الأمجاد والجوائز والتطلع، شأن بعض الأكاديميين عديمي الأهمية، إلى المجد والخلود. إذا سمح لي أن أشرح برغم أن، حتى أتحدث عن الأوائل، فعالمهم ليس من هاته المملكة. عالمي، على سبيل المثال، يوجد موزعا في مجرة شواذ واستثناءات أدبية غريبة عن أشكال وقوانين العصر؛ في المقابر حيث يضيء الكتّاب، الذين سيبقون أحياء ومفرطي الحيوية، خطواتي بنورهم من وراء القرون – ليس في مسرح الموكب الراقص الكبير لأشباح الإشاعة التي ستنمحي آثارها بلا رحمة. إن وحدة الشعور مع الأحياء هاته، عن طريق الكلام المكتوب تتجاهل الحدود والعصور. أتعلق بالمؤلفين الذين أثرتُ أعمالهم وبآخرين ينتمون إلى ثقافات ومجالات مخالفة، بابن عربي وابن الفارض، برابليه واسْويفْت، بفلوبير وبييلي، إيتالو سفيفو وسيلين، بآرنو آشميت وليزاما. يصاحبني ألقهم أنّى أذهب في عالم الأطياف العابرة لأدبنا المعاصر الصخّاب والرديء هذا. وحده من يخترق القشرة بهدف الوصول إلى «لب اللب» ويتسلم حقيقته دون أن يأبه بسلم قيم القبيلة، سيلاقي هذا الصوت الأوحد، الفريد، الذي يتميز عن الآخرين بندرته وسيقهر محاكاة ومعارضة الموكب المألوف لورثة الاسكندر الكبير. إن تاريخ الأدب، كل أدب، هو تاريخ تلك الأصوات الفريدة التي تبدو على مدى القرون كأنها تتحاور في ما بينها وتأسرنا بسحر فرادتها.

وقد وصلنا إلى هذا الحد، أراني مجبرا على أن أعترف لكم: من سنوات عديدة – عشر ؟ اثنتا عشرة ؟ – لا أقرأ أبدا وبالكاد: [إنما] أعيد القراءة. محاصرا بالعمر وواعيا بأهمية توزيع وقتي بين الأشياء الأولية بالنسبة إليّ كالكتابة، الصداقة، الأسفار، أعرف أنني لا أملك سوى وقت محدود لأتفرغ للكتب. كيف أضيعه إذن في آثار [أدبية] تنفد أهميتها في قراءة واحدة والتي تستهلك دون منفعة ؟ إن إعادة القراءة ووحدها إعادة القراءة فقط ترافق ساعات راحتي عندما أجدني، وأنا أستعد للسفر لأسباب عملية أسابيع أو شهورا، في حيرة اختيار مكتبتي الصغيرة السهلة النقل. سأعرض عليكم تلك التي أخذتُ إلى إيران وجمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية، خلال التصوير الأخير لـ«القبلة»: دون كيشوط، بوفار وبيكوشيه، بترسبورغ، تيرا نوسترا، أبيانو ليكاريو، النشيد الروحي، وأنطولوجيا ممتازة للشعراء المتصوفة، عربا وفرسا. هل يعني هذا أنني انغلقت كلية على قراءة الآثار التي تنشر اليوم بإسبانيا وخارجها ؟ مطلقا لا. عندما يرشدني أحد الناس الذين أثق فيهم إلى كتاب ما، مؤكدا لي أنني سأعيد قراءته، أقبل مخاطرة الاستغراق، لكن إذا لم يذهب اهتمامي إلى ما وراء القراءة، أعتبر ذلك الوقت بمثابة ضائع وأسحب ثقتي الأدبية من مرشدي. بالنسبة لذلك السفر، ليس من الضروري، كما يقول المثل، أن يرشدك أحد إلى الأطعمة.

حتى تعاد قراءتُه، يفرض المكتوب على المؤلف أخلاق كبرياء وتضحية، خاصة، سأعرض عناصرها الأساسية. التنازل عن زهو وأمجاد مكافآت العالم. كبرياء خبيء أن يعرف أنه يبدع شيئا جديدا وأن يرد للثقافة التي ينتمي إليها، كما كتبت ذلك من وقت قليل «لغة مغايرة لتلك التي أخذها منها لحظة بداية إبداعه». مناعة ضد ضربات سهام النقد وتقبّلها في سريرته كمدح غير مباشر لانحرافه المنتج. الدنو من أخلاق الملامة، أخلاق أولئك المتصوفة الذين، لكي يهربوا من المدح وليحافظوا على بحثهم عن الكمال السري، كانوا يتبنون سلوكا شعبيا كان يثير حولهم الاستياء والذم. «إذا كان بإمكانك أن تتخذ لنفسك حالة تجعل منك متهما بالسرقة، فادخر ما بجهدك لاتخاذها»، كتب أحد مرشديهم. ألم يسرق كاتب «البلكون»، و«البهلوان»، و«نوتردام الزهور»، ألم يمدح الخيانة ويدّعِ مثلنته الجنسية بكبرياء، في الوقت الذي باشر فيه عمله الأدبي العنيف والفريد حيث نوّرَني مثالُه في اللحظات العصيبة من حياتي ؟

أن نعيد قراءة كتاب يعني أن نقبل بانشراح اقتراح مؤلفه المعدي. لم يعرف أحد من المبدعين مثل سرفانتس القبض على هذه السلطة المتأصلة في الأدب القادر على تحويل شخصيات «كيشوط» إلى كائنات متميزة، ملوثة بالروايات التي تقرأها لدرجة إرادة التماثل مع أبطالها والانقذاف في مغامرات مهما كانت تافهة. لقد دَنْيَوَ (من الدنيا) سرفانتس من حيث لا يدري سلطة الخطاب الديني المقنعة، الكلام الموحى إلى الأنبياء، محولا الأدب إلى نوع من الديانة اللائكية، من الإبداع الإنساني الصرف، ولو أنه مخصص بتعال قريب من تعالي الآخر. إن تجربته النموذجية، كتجربة كبار الشعراء الصوفيين، من ابن عربي إلى سان خوان دي لاكروث، قد بدلت كتابتي وحياتي جذريا، ذوبتهما في وحدة واحدة وصيرت منهما نصا ينتظر تحلّلَ الجسد فقط ليأخذ شكله النهائي.

إن إعادة القراءة وتدخل القارئ في الهبة الإبداعية لكتاب ما هي الوسيلة الأحسن – في ما أعلم لتنشيط حياتنا الروحية التي فقرها الاضطهاد المتتالي لعصرنة سائبة والتي مثل Léviathan جديد، تسد الأفق الإنساني وتعتمه في هذه النهاية الألفية القريبة جدا. أن نعمم صورة عوالم مختلفة، أن ندافع في كل مكان بفضل وسائل اللاموضعية واللازمنية الشعر – روائية، أن نعيد خلق الرؤى الأخروية التي تخفف أو تهيج رغبتنا الأدبية، للسمو في عالم خصص بقسوة من طرف علماء ميتافيزيقا الطبيعة، هذه، هنا، اقتراحات مخصبة مطابقة لصيانة «لذة الخيالات التي لا تصد» التي أشار إليها بلانكو وايْت، والتي تجعل الأدب سلاحا فعالا جدا ضد الاستبداد العقلاني لعصر مشمع ضد الحقائق الروحية، التي أوقفت نموها وألغتها الـ «جبهات» التكنولوجية المتتالية وأصولية العلوم الشرسة. حسبي أن تتوفق أعمالي في تلويث البعض منكم، مثلما لوثتني أنا أيضا أعمال كتاب أعجب بهم. لأي شيء حسن يمكن لكاتب – قارئ مثلي أن يتوق إن لم يكن لهاته المكافأة الصغيرة لكن البليغة الأثر!

غويتيسولو يحدث زوبعة في الإخيدو

 

كيف كنت وكيف أصبحت؟

ترجمة: الحسين بوزينب

 

عبرت بلدة الإخيدو بمنطقة ألمرية لأول مرة في صيف 1957، وكان زفت الطريق المستقيم الذي يتوسطها شبيها بحد سكين متلاش: إنه خط ضيق ومخربش بالضباب قد ذللته شمس قاسية لا ترحم. طبيعة يتيمة تتخللها الحجارة في كل مكان، قوامها تربة قاحلة وشجيرات بئيسة. كانت بجانب الطريق بعض البنايات القليلة ذات الطابق الواحد، وبعض الدكاكين لبيع أواني الفخار والخزف. كما كان يوجد هناك فندق أو فندقان على الطريق وبعض المنازل الحقيرة المكلسة، ومخزن قديم. إنني مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي توقفت فيه مع مونيك لانج بسيارتنا الصغيرة جدا من نوع رونو فهب زبائن خان صغير للسلام علينا: سيارة تحمل لوحة تسجيل أجنبية وتقودها امرأة أمر غير مألوف لديهم. قدموا لنا الماء البارد من قلة ومقابل ذلك أخذوا من عندنا سجائر من نوع كانوا يجهلونه، كانوا يسألوننا عن إمكانية الاشتغال في فرنسا، وكانوا يملون علينا أسماءهم وعناوينهم بأمل الحصول على عقدة للعمل. إنهم كانوا يبحثون عن مخرج من ذلك العالم الموحش والخشن فوضعوا الرجل في ركاب فرس لم يبرح بعد دائرة الخيال.

كانت ألمرية في تلك الآونة عبارة عن سندريلا أقاليمنا. تعبير قاس وموهن يلخص عيوبهم وتعاستهم: «الحلفاء والمخاط والرمص»، إن رؤية فقر الغير تستحث باستمرار تلك الألسن الحادة لأولئك الذين ينظرون إليه من أعلى.

في سنة 1961 عبرت نفس الطريق ثانية مع سيمون دوبوفوار ونالسن ألغران وبثانتا أرندا الذي سيصبح فيما بعد مديرا سينمائيا. وقفنا لتفحص الطبيعة في نقطة مهجورة فبدت لنا قفرا يمتد حتى يصل إلى البحر تتخلله بقع هزيلة من الخضرة. شخص ما كان قد حفر بعض الآبار فغذت المياه الجوفية بعض الجنينات الصغيرة المتواضعة. علقت صديقة سارتر (على ما رأته): «ياله من فقر ! قد يظن الشخص نفسه في إفريقيا».

كانت الهجرة الكبرى إلى أوروبا قد انطلقت في تلك الآونة. ففي باريس وبروكسيل وجنيف، في كل المدن الألمانية والفرنسية والبلجيكية والسويسرية والهولندية. كان عشرات الآلاف من الإسبانيين، الذين كانوا يميزون بكل سهولة بلباسهم وحقائبهم ولوازمهم، يتراكمون في محطات القطار والحافلات بحثا عن العناوين وسبل الاتصال. كان الاقتصاد الأوروبي آنذاك في حاجة إلى اليد العاملة. فخادمات المنازل والبناؤون والعمال البسطاء والنادلون والعمال غير المتخصصين كانوا يدمجون بكل سرعة ضمن مدارات الشغل في مجتمعات تنمو بغير حدود، كان همها، على ما يبدو، نسيان نكبات حديثة.

على غرار أجدادهم وآبائهم المهاجرين الاقتصاديين واللاجئين السياسيين في الأرجنتين وفنزويلا والمكسيك، استقبل الإسبانيون بذراعين مفتوحين. كان الجمهوريون المحبوسون بين الأسلاك في أرجلاس وسان سيبريان وفي ميادين أخرى جنوب فرنسا في شهر فبراير من عام 1939 يتذكرون حظهم المختلف جدا بسخرية مرة: «إنهم يرحبون بالآخرين وينسون المعاملة التي تعرضنا لها نحن». ولكن رغم كل شيء فإن التاريخ كان يتقدم عبر الطريق الصحيح ولم يكن أحد يتنبأ بما سيحدث بعد ذلك.

إن المظاهرات الموالية لكره الأجانب والعنصرية التي جرت في شهر دجنبر من سنة 1997 في أماكن مختلفة من الإخيدو، هذه البلدة التي تحولت اليوم إلى إحدى أغنى المناطق الإسبانية بفضل الزراعة المكثفة للخضر تحت المبكارات والاستغلال القاسي لليد العاملة الأجنبية، التي غالبا ما تكون سرية. تحتم علينا أن نفكر في ما جرى في العقود الأربعة الأخيرة وفي التحول الذي عرفه سكانها خلال المدة المذكورة.

إن القفزة الاقتصادية العجيبة من البؤس إلى الثراء غير المتكافئ التوزيع الذي أتى وكأنه منّ سقط من السماء، بفضل اتفاق ظروف لن تتكرر بعد هذا، بدأت كما نعلم في السنوات الأخيرة من العهد الفرنكاوي. ولكن عدم مرافقة هذا بمعايير ديمقراطية وتربوية وأفق مجتمع غير مستعد لتقبل ذلك التغير المفاجئ في وضعيته. إن الاستفادة من المزايا المادية والتقنية للمجتمعات المتقدمة حدث عفويا وبدون استعداد أخلاقي وثقافي مناسب. لقد اختلط المتقادم بالمستحدث دون اتصال ولا توازن. «بدل تطور متدرج كما حدث في بلدان أوروبية أخرى»، كتبت هذا منذ 34 سنة، «نرى اضطرابا مفاجئا في كل العوائد الاجتماعية والعقلية. في مجال الأخلاق كما في مجال الاقتصاد، نريد تجاوز المراحل دون أن نعي أن البنيات الاجتماعية والعادات لا يمكن أن ترتجل بين عشية وضحاها».

إن الاعتداءات الحالية والتعذيبات والاختطافات في حق المغربيين في الإخيدو تؤكد مع الأسف هذا التحليل. بالرغم من أن ألمرية كانت دائما بلدا للمهاجرين، لم تتمكن أبدا من اكتساب ثقافة الهجرة. إن التواصل مع الشعوب الأخرى حدث دائما خارج حدودها. لهذا السبب نجد أن ذاكرة الماضي التي اختصرت في التطلع إلى الهروب من الفقر لم تتجسد في فهم تعاسة الغير ولا في أخلاقية تضامنية. إن وصول المغاربيين وسكان جنوب الصحراء غير الحاملين لمستندات الهوية، خلال الخمس عشرة سنة الماضية لملء أماكن شغل لم يرد أي إسباني ملأها، وفي ظروف غير جديرة بشخصياتنا الأوروبية البراقة، لا يوقظ ذكرى شفوقة ماضية ولا تعاطف فاعل نحو ضحايا أوضاع معاشة، بل بالعكس: المغاربة Moros والسود المستعبدون في الدفيآت -وهم ضروريون داخلها وغير مرغوب فيهم خارجها- يثيرون شعور أنانية التفوق ويجعلون المهاجرين السابقين وأبناء المهاجرين يتذوقون الإخراج المسرحي الحالي لدراما حياتهم الشخصية التي تقوم اليوم بتمثيلها شخصيات مختلفة، وكأننا أمام ثأر مثالي.

إن طبيعة الإخيدو المادية والأخلاقية تحولت بوتيرة سريعة: فالكيلومترات تلو الكيلومترات من الدفيآت تتلألأ بجنبات الطريق الجديدة والفنادق الكبرى للسياح والعمارات الضخمة للسكن والوكالات البنكية والمشاريع الإنشائية والأسواق الممتازة والوكالات العقارية ونوادي المعاشرة تتواصل من أغوبلانك حتى العاصمة الاقتصادية للمنطقة.

السير على الطريق مزدحم والسكان الأصليون يتكيفون كل في حدود إمكانيته مع تغيرات موضا الأزياء والإخيدو يعرض بكبرياء كل العلامات الخارجية للغنى والحداثة: من مطاعم «الماكدونالدز» و«بيتزا هات» إلى كازينوهات القمار وقاعات رياضة الأيروبيك والحمامات التيلاندية.

إن الكراهية الأزلية للمغربي Moro التي كانت موضع تحليل دقيق من لدن رودريغ ذا ثايس وخوسي مريا بارثابال لتمثل الطبقة السفلية التاريخية التي تبرر الضرب بالعصا والحملات «العقابية» التي قام بها بعض المسيحيين القدامى المتنكرين تحت قناع «الأوروبين الجدد»، بتواطؤ سكوت سكان كثيرين من الإخيدو انضموا إلى إجماع – وياله من إجماع بطولي !- السوقة الأصيل لفوانتا أباخون.

إن التاريخ يعيد نفسه، بنفس الكيفية التي كان الإقبال على الرواية الغرناطية يسمح للقراء المثقفين في القرن السادس عشر أن يسكبوا دموع الأسف على المآل الحزين الذي آل إليه بنو السراج والثغريين الذين كانوا قد اختفوا من أفقهم اليومي وتركوا لهم المجال الفسيح لكره وإذلال الزمرة المورسكية البادية للعيان والحقيقية والمتناسقة والمحيونة، التي كانوا يتلاقون معها يوميا، نرى اليوم النفوس الطيبة، تلك النفوس المجتمعة داخل ديرما يعتبر صحيحا سياسيا، تقطع مئات الكيلومترات عبر الجبال والقفار وتقطع بلدا أصبح ضحية المجازر اليومية الدنيئة، بغرض إثارة حنانها تجاه المصير المأساوي الذي قدر أن يعيشه صحراويون بعاد، وهكذا وبنفاق فريسي FAR-ISEO متجبر، يتبرأون من كره الأجانب ومن عنصرية قريبين وقريبين جدا، منبثقين عن مرق استنبات الاعتداءات والجرائم المقترفة في الداخل ضد مسلمين –مغاربة وجزائريين- هربوا من الفقر ومن حرب إبادة ذات أهداف غير معلن عنها.

وقد كتب أميرك كاسترو: «إن العيش ثقافيا يتطلب الحيطة المستمرة وإدراك عدم كفاية استهلاك أو تطبيق ثقافة الغير… عندما سيعرف الإسبانيون من كانوا وكيف كانوا، فإن ظروفهم ستتحسن بشكل كبير. لأن الحقيقة أنهم اليوم لا يسكنون تاريخهم الذاتي. أي أنهم لا يعرفون من هم، لأنهم لا يعرفون من كانوا».

بالرغم من مجهودات بذلتها جمعيات أمثال «ألمريا ترحب» وكذا الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان، فإن نار كره الأجانب انتشرت. إن استعداد سلطات المنطقة، منتمية كانت إلى الحزب الحاكم أو إلى الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، لستر المذنبين -وهم مصوتوهم الاحتماليون- ومنع مظاهرات الضحايا للاحتجاج، لعمل مغيظ وخسيس في نفس الوقت: إنه لمثال حقيقي لسوء النية.

إن فقدان الذاكرة للإخيدو أمر لا يقبل العذر، وأقول هذا بألم وخجل: كيف كنت وكيف أصبحت!

 

كاتب في الواجهة

 

هشام جعيط

ترجمة: إبراهيم الخطيب

 

 

الكائن العربي في بناء روائي حديث

أعتبر خوان غويتيصولو روائيا فنانا، وشاعرا روائيا. إنه يحب أن يوضع في طليعة ثورة الرواية المعاصرة، أو على الأقل هذا هو الشعار الذي يلصق به، غير أنني أجرؤ على القول بأن اشتغاله على اللغة والكتابة يختلف لحسن الحظ، عن اشتغال (جويس) عليهما، فهو يتوفر على أسلوب خاص يتميز بقوته الإيحائية والاستشرافية، وإيقاعه اللاهث، وكثافته الكتابية التي لا ترفض السلاسة ولا سهولة الإدراك. إن خوان غويتيصولو لا يكسر اللغة، ولا يسقط في خوان معنى «الرواية الجديدة»، وكل ما يفعل هو أنه يحطم الزمن، ويعيد تنظيمه ليفككه بعد ذلك، ثم يبسطه في جميع الاتجاهات حتى يجد نفسه وقد استقام في النهاية سويا.

تتألف آثاره الأدبية من روايات متعددة، متشابهة ومختلفة. لكن هل يمكننا الحديث بعد (بروست) وحتى (ميوزيل)، عن آثار أدبية؟ هناك فقط روايات وروايات غويتيصولو ساحرة، وتشكل إنجازا مبعثرا بقدر ما خطط له عن قصد مسبق.

تتميز الروايات الأولى («أعياد»، «مقبرة») والأخيرة («فضائل الطائر المتوحد»، «الأربعينية») بتوفرها على خيط تواصلي رابط، ففي البدء هناك انحباس الروح الإسبانية حبيسة قفص الفاشية، تجشؤ تمردي إلى أقصى الحدود وربما إلى حدود المبالغة. يبدو المغرب هنا، كأرض استضافة وحب، بارز الحضور. إن غويتيصولو يدمج هذا البلد في نسيج هذيانه، وتحديه، أي في كينونته، لكنه لا يقدم عنه لوحة مثالية، ولا حتى إغرابية، فالمغرب حاضر وكفى، ويفرض حضوره متعدد الأشكال على روائي إسباني، بل روائي أوروبي هل أقول مع شيء من المجاملة؟ وإذن كان يحب أن تكون عنيدة.

نشعر في المرحلة الثانية كما لو أن ريح تهدئة تهب. فالتجشؤ يتحول إلى هلوسة منظمة، والهذيان العنيف يغدو مخيالا استشرافيا، واستبطان المغرب الكبير يمتد ليشمل الكائن العربي واللغة العربية والثقافة الإسلامية، تفسح جامع الفنا مكانها لتركيا، و«مقطم» القاهرة و«للقباب والأضرحة والمساكن والزوايا والمدارس التي عبرت بها منذ سنين» بحثا عن «الحب الخالص» («الأربعينية»). من قبل كان هناك المغاربي رث الثياب، المحتقر، الذي يرمي به الكاتب في وجه البرجوازية الأوروبية، سلوك فوضوي، يسير المأخذ تقريبا، لكنه كان يتوفر على فضيلة عدم اندراجه في الحلقة المضادة للاستعمار للأنتلجنسيا الباريسية المتباهية، إنما كان يندرج بالأحرى في مركز حب ثابت، حب الند للند، بعيدا عن الشفقة.

الآن، ومع غواية التأمل، سواء على صعيد الروايات أو على صعيد التحقيقات الصحفية عن (سراييفو) والجزائر، تتسرب السياسة إلى مدارج اللعبة، كما تتسرب النزعة الصوفية.

إن «دفتر سراييفو» هو أحد أفضل التحقيقات الصحفية عن البوسنة، بقلم كاتب ملاحظ، حساس، ولا مصلحة له، ويعتبر تحليل تخلق الأزمة الجزائرية  نابها نظرا لتلاؤمه وأسلوبه الحي والوضاء، فهل يعتبر اهتمام غويتيصولو بالتصوف نتيجة استئناسه الطويل بالمغرب، وارتياحه لاستئنافه صلاته بإسبانيا الجديدة والقديمة في نفس الوقت؟

بعد استرجاع الحرية، تنفتح أبواب تقليد مزدوج عظيم، هو تقليد يوحنا الصليب وابن عربي، يعترف الكاتب بأن الأعمال الكاملة للقديس يوحنا «شكلت بنية روايته». وإنه ليبدو لنا مشبعا بما كتب عن ابن عربي أو ما ترجم له. لقد عرفت الأرض الإسبانية، أفضل من أي مكان آخر، تآلفا بين الصوفية المسيحية والصوفية الإسلامية، اللتين تغذتا من دمائهما في (الرينان) أو في الشرق، لكن اهتمام غويتيصولو يمتد إلى الحلاج والغزالي وابن سينا، وهم متصوفون، مشارقة، ولا يمس بتاتا ابن رشد، العقلاني الأندلسي.

تطفح آثار خوان غويتيصولو  الحديثة بإحالات عالمة إلى حد معقول: فالكاتب يعرف عم يتحدث، ونحن نعلم أن الأمر ليس من قبيل ذر الغبار في العيون. لنقل إن غويتيصولو يمت بصلة إلى طائفة أولئك الكتاب المثقفين من نحو (بورخيس) الذي كان بدوره منشغلا بالكونية، مهتما بالثقافة العربية، وإن كان بالغ الارتباط بنزعة أوروبية شبحية. أما غويتيصولو فقد نفذ إلى عمق الثقافة العربية الإسلامية التي تجري في عروقه، مع بقائه أحد أكبر ممثلي الأدب الإسباني المعاصر.

لست أحب كثيرا الحديث عن الكونية، فهي في نهاية المطاف ميل وليست واقعا. كما لا أحب أن أتحدث عن حوار الثقافات، وأعتبر هذا التعبير باطلا في الواقع تتجلى أهمية غويتيصولو في كونه عمل على إدخال الكائن العربي والإسلامي في ثنايا بناء روائي مرموق الحداثة، والأصالة، معذب وبعيد كل البعد عن كل أدب استشراقي مزعوم.

خوان غويتيسولو في مراكش

 

حوارات أجراها عبد الغفار سويريجي

 

تقديم:

تتسلق خيوط الفضاء البيضاء خيوطه السوداء. ينسل إلى مقصورته بعلية منزله الكائن بدرب سيدي بو الفضايل. يفتح النافذة. شجرة الليمون واقفة. تبدأ الطيور محاوراتها. ينكب على مخطوطته ليمدها قسطا من الحبر. يَنْكَتِبُ… بدأ ذلك الألم، الملازم لكل مربي كلمات، تسلله إلى العنق، فتوقف عن الكتابة.  كانت الحياة، آنها، قد بدأت نسج جديدها. يتوجه إلى ساحة جامع الفنا.

– «أخوان، تعال تعال… !». يناديه طبيب الحشرات. أعادته صيحة الطبيب، ببحته المعهودة إلى عالم الحلقة. ينتقل عند صديقه ليستمع إلى وصفاته الخارقة. يتابع جولته المعتادة حول الحلقات. يجلس في مقهى ماطيش ليرتاح قليلا.

سأله الراوي مرة: «لماذا هذا المقهى بالذات؟» أجابه: «ماطيش هي مرصدي في الساحة. فيها يجتمع الموسيقيون والرواة والحلايقية، ولأنها وسط الساحة فهي مليئة بالحياة. «مكاينش شي قهوة نشيطة في العالم بحال مطيش». صمت هنيهة ثم أضاف: «تمنيت أن تحمل بطاقة هويتي تعريفي الحميم: «أنا ولد جامع الفنا».

33 rue Poissonnière

في شقة الكاتبة الفرنسية مونيك لانج، زوجة الكاتب، بحي السانتييه، غيتو الأقليات والهامشيين، التقى غويتيسولو، في 8 من أكتوبر عام 1955، صديقا عرفته عليه مونيك اسمه جان جونيه. كان خوان في ذلك الوقت قد كتب مجموعة من النصوص  ذات طابع سياسي، مناهض لنظام فرانكو. أحدث لقاؤه بشاعر الجريمة والسرقة والمثلية الجنسية، كما يحب أن يسمي صديقه الأبدي جونيه، تغييرا جذريا في مساره الإبداعي. يقول: «من دونه، من دون مثاله، ربما لم أكن سأجد القوة الكافية للانقطاع عن سلم القيم المعمول به لدى مواطني، يمينا ويسارا. ولا لكتابة ما سأكتبه انطلاقا من عملي الروائي «دون خوليان».

 

الحوار:

 

خوان غويتيسولو، عادة ما تقدم نفسك باعتبارك «المراكشي الشرفي»…

هذه هي الحقيقة. منذ وقت طويل وأنا أقضي بضعة أشهر من السنة في مراكش. في هذه المدينة تعلمت «الدارجة» (العامية المغربية)، وكونت عائلتي الكبيرة: أصدقاء يكونون برفقتي دائما. بدأت قرابتي بمراكش ببعدها الجمالي –مراكش أجمل مدينة عرفت- ثم تطورت هذه القرابة وانتقلت إلى ناس المدينة ولغاتها ونكتها وثقافتها. لهذا أعتبر الآن نفسي مراكشيا. ومن ثم أهديت مخطوطة روايتي مقبرة  -التي استلهمت في جزء كبير منها فضاء المدينة- إلى مدينة مراكش. وللسبب ذاته، كوني مراكشيا أهديت جائزة «نيلي ساش» التي منحت لي في ألمانيا إلى مدينة مراكش. لا أعرف إن كنت مراكشيا شرفيا أو مراكشيا وكفى!

وجهت، حين كنت منفيا في طنجة، صرخة مدوية تجاه الضفة الأخرى للمتوسط: «أيتها البلاد الجاحدة، البائسة، القذرة، لن أعود إليك أبدا». مذاك أصبحت حياتك ترحالا مستمرا. كتاباتك هي الأخرى تحولت تماما من كتابة سياسية (إبان الفرنكوية) إلى كتابة أدبية. ما الدرس الذي وجدتموه في هذه الأسفار؟

 

تعلمت مع تقدم العمر أن مفاهيم الأرض والوطن، وكذلك التصورات القومية أو الوطنية حول الأدب ليست لها أي علاقة بمنظوري الخاص للثقافة، بالنسبة إلي، هي دائما متحركة، تتنقل وترحل. فالثقافة هي نتاج الأسفار واللقاءات والتنقلات المستمرة. لهذا السبب لا أعتقد بوجود ثقافات وطنية. كل ثقافة هي نتاج مجموع التأثيرات الخارجية التي تحصل عليها. وحيوية كل ثقافة تتجلى في مدى قدرتها على أن تربط علاقات مع الثقافات الأخرى. وتتمثل قوتها، كذلك، في درجة حواريتها مع هذه الثقافات. ولنا في الثقافة الإسبانية والثقافة العربية مثال واضح على ذلك: كل مراحل ازدهارهما الثقافي كانت بفعل تلاقح وانفتاح وتأثير متبادل. أما فترات الانحطاط التي عرفتها الثقافة العربية ابتداء من القرن 14 والثقافة الإسبانية في القرن 16 فلم تكن إلا نتيجة لتقليدية فجة وانغلاق على الذات.

 

 

تثير انتباهنا عند قراءة أعمالك الأدبية تلك العين التي تترصد المشاهد وتقتفي آثار الأشياء والتفاصيل. لن أقول عينا أدبية بل عين «بركاك» (بصاص) خبر مهمته… هل هذه العين هي وليدة اهتمامك بالسينما؟ وكيف تنظر للعلاقة التي تجمع الكتابة الأدبية بالسينما..؟

ثمة بين السينما والكتابة الأدبية تقاطعات واختلافات. هناك أعمال سينمائية يمكن أن نعتبرها أعمالا أدبية. إن أعمالا مثل «سيتزن كان» لأورسون ويلز وجل أعمال «فليني» لهي أعمال أدبية. إن المسار السينمائي الذي شيده فليني يشبه إلى حد بعيد تجربتي الخاصة في ميدان الرواية. صرح فليني مرة أنه يأسف كثيرا لكونه ولد نصف قرن بعد ولادة السينما: في ذلك الوقت لم تكن ثمة لا قواعد ولا تعاقدات مسبقة. ولم تكن الصناعة السينمائية، آنذاك، تمارس ضغوطها بعد. وقتئذ كان بالإمكان الإبداع بكل حرية. كانت عملية تحميض الأفلام تتم بطريقة شخصية كما كان الشأن في عهد شابلن. ويضيف فليني قائلا إن كل إنجازاته في مجال السينما كانت سعيا لتحرير واستعادة تلك البراءة وذلك الارتجال المفقودين. وتصبح القواعد والسنن والأنظمة السينمائية المعقدة موضع تساؤل كبير. لقد كان ذلك مسعاي عند تشييد مساري الخاص. إن النصوص التي تمسني كثيرا هي نصوص القرون الوسطى؛ كتابة لا تدخل نطاق الأكاديمية وليست سَبِيَّة قواعد ما ولا خاضعة لسيطرة ما يدعى أجناسا تعبيرية ! إن نصا مثل كتاب الحب الطيب لخوان رويث (القرن 14) أو « LA Gaillarde Andalouse » هي إبداعات متفردة.

مع مجيء عصر النهضة وقدوم النماذج المستوردة من إيطاليا، اندثرت تلك الحرية الإبداعية التي نجدها لدى رابلي في فرنسا، ولدى روخاس وكبير قساوسة هيتا في إسبانيا.

عندما بدأ سرفانتس الكتابة كانت مختلف القواعد والسنن السردية قد وجدت: الكوميديا لـ «لوب ذي فيكا»، الرواية الشطارية، الرواية الريفية (bucolique)، الرواية البيزنطية..الخ. لقد كان سرفانتس السباق إلى الثورة على الفهرسة التنظيمية للأجناس، التي تعزل كل جنس من الأجناس مع مثيله. لقد مزجها كلها وقلبها رأسا على عقب. لقد شق طريقه بعيدا عن الصراط. فمن خلال المحاكاة ومزج الكل، أنشأ عمله العظيم المسمى «دون كيشوط» والذي يعد الجزء الثاني منه خاصة التأسيس الفعلي للرواية الحديثة. كل الكتابات التي تمسني كثيرا تتبع تلك الخلخلة وذاك الطريق الذي شقه سرفانتس. كتابة تقوم على استعادة الحرية الإبداعية والسخرية من سنن وأنظمة المرحلة. ويمكننا أن نضرب لذلك مثلا بهذه الأعمال: «تريستان شنداي» لـ «ستورن» في إنكلترا، «جاك القدري» لديدرو، وبوفار وبكوشي لفلوبير في فرنسا، سان جون دي لاكروا في لقائه بالتصوف وعمل الشاعر الأكبر غونغورا… سلالة شجرة الأدب اسمها؛ مملكة الاستثناءات الكبيرة.

إن كتاب «غيردية الأندلس» لفرانسيسكو ديليكادو لهو مثير جدا، إذ توجد به صفحات كأنها «مصورة» بواسطة كاميرا سينمائية. إن نظرة عينه شبيهة بعدسة الكاميرا. من خلال الحوارات يمكننا أن نتتبع تنقلات الشخوص داخل شارع روما. أو ليس ذلك استثمارا مذهلا؟

 

لاحظ الكثير من القراء تعدد اهتماماتك فأنت روائي وناقد وسينمائي…

أقوم، بين الفينة والأخرى، بأعمال هي بمثابة تكميل لعملي الأساسي كروائي. ربما هي تربة للاشتغال. بين سنة 1969 و1975 أعطيت دروسا في الجامعة الأمريكية: محاضرات حول أعمال أدبية قديمة مثل لاسيليستينا، كيفيدو، وأخرى حول روايات معاصرة مثل «أرضنا» لكارلوس فوينتس وأعمال ليزاما ليما.. وقد ساعدتني تلك المحاضرات في كتابة مجموعة من المقالات سوف تدمج في كتاب «شجرة الأدب». كانت تلك المحاضرات عونا لي في عملي الروائي. الشاعر الجيد هو قبل كل شيء ناقد جيد. فالنقد يمتزج كلية بالإبداع. ومن جهة أخرى أنجزت تحقيقات صحفية لفائدة صحيفة «إلبايس» كتلك المجموعة في كتاب «رحلات إلى الشرق». وفي الإطار نفسه أشرفت على إنجاز سلسلة تلفزيونية اسمها «القبلة» لفائدة التلفزة الإسبانية.

في رواية الأربعينية، على سبيل المثال، فإن نص «مدينة الأموات» سيظهر ثانية وبطريقة مختلفة. تجد أيضا، ضمن دفتي نفس الكتاب، عناصر من الشريط الوثائقي المنجز في إيران (ضمن سلسلة القبلة التلفزيونية) حول الزورخانة وقد دخلت، ضمن سياق مغاير، إلى الرواية ذاتها.

تصبح هذه المواضيع (التكميلية)، بعد أن تخضع إلى عملية تحويل وتطوير، جزءا لا يتجزأ من المتن الروائي.

 

 

دشن كتابك «فضائل الطائر المتوحد» مرحلة أدبية جديدة في مسارك الإبداعي. أصبح الموت الفضاء الكتابي لهذه النصوص..

تحرص الثقافة الأوروبية دوما على إبعاد الموت. يشيح المجتمع الأوروبي بطرفه بعيدا عن فكرة الموت. يدفن الأحياء موتاهم في الخفاء. في الولايات المتحدة يسترون الموتى وكأنهم أحياء… كل ذلك حتى يبعدوا فكرة الموت عنهم. ربما كانت هذه النصوص (فضائل الطائر المتوحد، برزخ) بمثابة «عودة للمبعدين». ولم يكن من قبيل الصدفة أن يلعب منظور المجتمعات الإسلامية الخاص بالموت دورا أساسيا داخل أعمالي. ففي هذه المجتمعات يعتبر الموت واقعا غير مفرغ من حقيقته. تطوف المنية حول شخوص فضائل الطائر المتوحد. لكي أنجز هذا النص مزجت صورا من تصوف أحد أكبر شعرائنا (سان جون دي لاكروا) مع صور من التصوف العربي: أقصد تصوف عمر بن الفارض. أما بالنسبة لرواية الأربعينية فقد تم بناؤها انطلاقا من اختفاء صديقة الراوي ورغبته في تعقب أثرها خارج عالم الظاهر. والسفر إلى هناك يتحقق من خلال الكوميديا الإلهية لدانتي. ولقد أصبح معروفا اليوم أنها كانت مستلهمة من الأساطير الأخروية الإسلامية؛ فقد سبق لدانتي أن اطلع على قصة المعراج المترجمة إلى الإسبانية في عهد ألفونس العاشر الحكيم. وقد وجدت، الآن، نسخ من الترجمة التي كان هذا الأخير قد أمر بإنجازها إلى الفرنسية والقطلانية واللاتينية، عدة سنوات قبل ظهور الكوميديا الإلهية. أما المصدر الآخر الذي اعتمدت عليه فهو عمل ابن عربي، خاصة في كتابه الفتوحات المكية. كتاب جميل وفاتن. أظن أن دانتي لو اطلع على كتابات ابن عربي وعلى رؤيته الشاملة والمتفتحة حول الرحمة لكان التصور الأوربي حول العالم الآخر قد تحول كلية. إن ما يسميه ابن عربي بالخيال الديني لهو جد رائع. كل صفحة من كتابه تفتح آفاقا كثيرة وإمكانيات للتأويل لا تحد. ابن عربي: «بورخيس الخيال الديني». كتابة محي الدين هي الحداثة المطلقة. وقد كان مسعاي، حين استلهمت في كتابة «برزخ» نص ابن عربي، هو إظهار هذه الحداثة.

يجب أن لا نعتبر كتابا من أمثال ابن عربي وابن الفارض كتابا قدامى في تاريخ الأدب العربي بل هم كتاب أحياء لا زالوا قادرين على إخصاب وإلهام كتاب معاصرين…

 

تحتفل كتابتك بنصوص ابن عربي والحلاج والعطار ونصوص عمر ابن الفارض لماذا النص الصوفي؟

أولا هناك عنصر الحداثة المثير جدا والذي تحدثت عنه قبل قليل. إن قصيدة الخمرية، مثلا، لابن الفارض شعر ذو جمال خارق. يمكننا أن نقرأها بطرق ألف. كذلك الشأن بالنسبة لـ«النشيد الروحي» لسان جون دي لاكروا. هذا لأقول إن الحداثة لم تتأسس، كما هو مشاع، مع رامبو. لقد بدأت قبله بكثير. إن نصوص شعراء الصوفية بغموضها وصورها والتباساتها لذات غنى لا يحد، لهذا فإن كاتبا معاصرا سيجد فيها أشياء مثيرة جدا. ومن جهة أخرى اهتم بالرؤية الصوفية للعالم، وقراءة كتابات سان جون دي لاكروا وكتابات الصوفية، جزء من حياتي الشخصية.

 

نفهم من ذلك أن الحداثة ليس لها أي ارتباط بالزمن؟

ليس للحداثة أي ارتباط بالزمن. يمكنني القول إن نسبة 95% مما يكتب اليوم هو كتابات ميتة. الكتاب المعاصرون حقا هم سرفانتس، س.ج. لاكروا، روخاس، ابن عربي، ابن الفارض والعطار.. لذا فإن منظوري الخاص للحداثة يقوم على أنه ليس الكتاب المعاصرون وحدهم هم الذين يعدون حديثين. كلا علمتني تجربتي في ميدان مغاير لميدان الأدب؛ ميدان الفن وكذا الأسفار التي قمت بها إلى كل من مصر واليونان أن الفن المصري، وبالخصوص ذاك الذي يعود وجوده للأزمنة الأولى، يعقد حلفا مع عالم بيكاسو وجياكوميتي. ولما شاهدت الفن الإغريقي الكلاسيكي وجدتني أمام فن قديم، ربما هو فن جميل لكنه لا يمسني أبدا: هو جزء من ماض ليست له أية علاقة بعصرنا الحاضر. لا يرتبط مفهوم الحداثة بالزمن…

 

ذات مساء في مقهى ماطيش «المركز العالمي للثقافة» كما تحب أن تسمي مكانك المفضل بساحة جامع الفنا، كنت حينها تكتب روايتك «الأربعينية»، والحرب بين العراق وأعدائه على أشدها، قلت لي إن الأربعينية هي وليدة أجواء مذبحة الخليج. ومتتبع أعمالك يلاحظ اشمئزازك وحساسيتك المفرطة تجاه كل حرب. حرب فلسطين، حرب البوسنة وحرب الجزائر. كيف يمكننا أن نفهم ارتباطك بهذه الشعوب.. هل للأمر صلة بالحرب الأهلية الإسبانية؟

كنت دائما أخاف الحروب والعنف. ربما ذلك راجع لذكريات الطفولة عن الحرب الأهلية الإسبانية. اغتظت كثيرا من تلك الإبادة المنظمة المسماة «حرب الخليج». كانت صدمتي قوية عند معاقبة شعب بريء هو الشعب العراقي. فهذا الأخير ليس مسؤولا بتاتا عن أخطاء وجرائم نظام لم ينتخبه الشعب قط، يمكننا أن نعتبر الشعب الألماني مسؤولا  عن جرائم هتلر إذ إنه انتخبه مرتين في انتخابات ديمقراطية. لقد كان ذلك اختياره. أما العراقيون فلم يكن بوسعهم انتخاب نظام جديد. إن معاقبة الأبرياء عار كبير.

أما بالنسبة للبوسنة، فالأمر كان جد مختلف، فمأساة البوسنة تعود للامبالاة واستخفاف القوى الأوربية تجاه التطهير العرقي الذي يمارسه الصرب حيال المسلمين. جرحتني تلك اللامبالاة فذهبت إلى سراييفو لكي أحمل شهادة عما يجري هناك. طبعا ثمة علاقة بالتجربة التاريخية الإسبانية، فاللغة التي يستعمل القوميون المتطرفون الصرب هي ذات اللغة التي كان يستعمل القوميون الكاثوليك الإسبان أو ما كان يدعى بـ «الكاثوليك القدامى»؛ أولئك الذين حبذوا التطهير العرقي في إسبانيا، وإبعاد اليهود أولا ثم الموريسكيين في ما بعد. ولم يكن موقف المجموعة الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة أحسن من موقف تلك القوى: لقد كان موقفا رخوا وبئيسا شبيها بذاك الذي نهجه مجتمع الأمم إزاء الجمهورية الإسبانية. ففي الحالتين معا اتبعت المجموعة الدولية سياسة تفضيل المعتدي على المعتدى عليه؛ تفضيل الجلاد على الضحية. لهذه الأسباب جميعا ذهبت إلى البوسنة محاولا أن أفضح، قدر المستطاع، هذا النفاق وذاك الصمت الذي تمارسه المجموعة الدولية.

أما بالنسبة لفلسطين، فقد دافعت منذ أمد طويل عن حق الشعب الفلسطيني في دولة فلسطينية مستقلة لها حدود معترف بها، حدود الأراضي المحتلة عام 1948. لا يمكن للمشكل أن يحل، الآن بإعطاء الفلسطينيين فتاتا من فلسطين. فإذا أرادت إسرائيل السلام فعليها أن تعطي الدليل على حسن نواياها، وأن تظهر رغبتها في ذلك.

 

 

نعم وهل للأمر صلة باختلافك الشخصي؟

أكره المجتمعات المتجانسة لأنها تعمل دوما على أن تجعل حياة مواطنيها «سوية». كل الأقليات يجب أن تحترم. لذلك كنت دائما ولازلت أدافع عن حق الهامشيين في الوجود. أدافع، قدر المستطاع، ضد العنصرية. ثمة في أوربا اليوم خطر كبير يهدد الطائفة الغجرية، ضحية معسكرات التعذيب والموت زمن هتلر. ويرجع سبب هذا الخطر للموقف الشيزوفريني للمجتمعات الأوربية «السوية» و«المتجانسة» مع ذاتها !؟ إنها تقول للغجر: «نحن لا نحبكم لأنكم لا تشبهوننا؛ أنتم غرباء». ومن جهة أخرى ترفض إدماجهم: «إننا لا نريد أبدا أن تشبهونا». وعند محاولة تعليمهم وإدماجهم يعمد الكثير من الناس إلى حرق مدارس الغجر حتى لا يدمجوا سويا في أحياء مختلطة. وهذا الموقف يؤدي بالتالي إلى إبعاد مطلق للغجر الشيء الذي سينتج عنه، لا محالة، إحباط داخلي للضحية.

 

في نفس الإطار، هل يمكننا أن نعتبر كتابتك سليلة «أدب ملتزم»؟

لا أحب عبارة «أدب ملتزم». عندما كنت شابا كانت الفرنكوية هي النظام. آنذاك كان واجبي، باعتباري مواطنا، يحتم علي كتابة «أدب ملتزم». إن الالتزام الحقيقي بالنسبة للكاتب هو التزام ذاتي: إذا لم يستطع أن يخلق مسارا خاصا به وأن يبدع موطنا جديدا داخل محيط الثقافة التي ينتمي إليها وفي اللغة التي يكتب بها فإنه لا يعد كاتبا ملتزما. الالتزامات السياسية هي التزامات ثانوية. نعم، وباعتباري مواطنا كذلك، ورغم أني خدعت أحيانا ككل الناس، فإني لازلت أعبر عن آرائي حول ما يحدث في العالم الآن.

 

يعلن مشروعك الكتابي أن الأدب هو بالدرجة الأولى أدب مذخر يقوم على نفي كل عرقية أو وطنية. خوان بالنسبة لك كيف تنكتب شجرة الأدب؟

كتابتي أدب هجين، شبيهة بكتابة سان جون دي لاكروا وأنطونيو غاودي. ويجب التنبيه، هنا، إلى أن جزءا من عملي الكتابي هو نقد لنواة الثقافة الأوربية الصلبة. ففي «مناظر بعد المعركة»، مثلا، أو في «حياة آل ماركس الطويلة» أعبر بسخرية ونقد. المذخرية ملتقى ثقافتين وحضارتين مختلفتين. لقاء الثقافة الإسبانية والثقافة العربية، مثلا. كل واحدة منهما هي تكميل وإنعاش للأخرى.

 

في كتابتك يمتطي الشعر السرد وهذا يعانق النقد. ليس ثمة فواصل بين الأجناس التعبيرية.. كتابة مفتوحة.. مدى مفتوح كساحة جامع الفنا…

كما قلت لك سابقا فإنني لا أحب مقصورات الأدب المغلقة، لا أحب التقسيمات الأجناسية. إن جل أعمالي الروائية، خاصة تلك التي كتبت انطلاقا من دون خوليان، تقرأ في الآن ذاته بوصفها رواية وقصيدة ومقالة نقدية. أكره التصنيفات.. كل النصوص التي تثير اهتمامي هي نصوص مفتوحة تنفلت من التصنيفات. وهنا يلعب الشفوي دورا أساسيا. جل أعمالي كتبت لتقرأ بصوت مرتفع. لذلك أشدد دائما على أن تحتوي الترجمات التي تنجز لأعمالي –هذا بالنسبة للغات التي أعرف كالإنجليزية والفرنسية- هذه الشفوية. فالإيقاع وكذلك الشاعرية هما جد أساسيين بالنسبة لي. كان لي لقاء بالتقاليد التي وجدت عهد رابلي، ولم تعد موجودة عندنا الآن، لكنها ما تزال موجودة حاليا داخل حلقات جامع الفناء. منذ مدة طويلة وأنا أستمع لقصص «الحلايقي». أعتقد أن سرفانتس عندما كان مقيما في الجزائر كان بإمكانه الاحتكاك بهذه التقاليد الشفوية. رغم أنه لم يلتق بقصص ألف ليلة وليلة فإنه استمع إلى حكايا وقصص الإرث الشفوي الذي كان شائعا، آنذاك، بالعالم العربي.

 

نشرت ضمن سلسلة القبلة للكتاب، السلسلة التي تديرونها، مجموعة من الترجمات الإسبانية لبعض الكتب العربية المعاصرة. هل هذا يعني أن علاقتك بالثقافة العربية لا تنحصر فقط في بعدها الكلاسيكي؟

أحاول دائما أن أكون على اطلاع على ما يكتب في مختلف البلدان العربية. للأسف فإن عدم إجادتي للعربية الفصحى يحول دون قراءة النصوص في لغتها الأصلية. لذلك أنتظر دائما صدور ترجمات لها. هناك مجموعة من الأعمال الروائية أحبها كثيرا وأعتبرها معاصرة حقا – من الصعب الاستشهاد بجميع الأسماء، لذلك سأقتصر على بعضها فقط، إن عمل الطيب صالح لهو صوت عصرنا. رواية كالزيني بركات لجمال الغيطاني وأعمال إدوار الخراط وكتابات صنع الله إبراهيم الذي أكن له ولعمله بالغ الحب.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى