شوف تشوف

الرأي

طبيب خارج الحدود

يونس جنوحي

في مثل هذه الأيام بالضبط، من سنة 1893، حل بالمغرب طبيب بريطاني اسمه «جونسون»، قادما من لندن بغرض قيادة لجنة طبية. وصل إلى طنجة صباح 24 دجنبر، وقضى رأس السنة فيها، وفي الأسبوع الثاني من يناير شد الرحال إلى فاس لكي يقدم أوراقه للقصر الملكي.

هذا الطبيب كان يريد تقديم خدمات طبية للجالية البريطانية في المغرب، وأيضا لمحظوظين من رجال السلطة المغاربة. وكان يخطط لفتح عيادته الخاصة في فاس ويعالج فيها الفقراء بالمجان. لكنه، حسب ما نقله في مذكراته التي اختار لها عنوان «أيامي في المغرب»، والتي كانت معدودة فعلا، وجد أن الفقراء المغاربة وقتها لم يكونوا يثقون في الأطباء. وفي المرات القليلة التي استطاع فيها علاج بعض أثرياء مدينة فاس والأجانب الذين كانوا في زيارة لها، كان بالكاد يكشف عن الحمى ويعطيهم جرعات من الدواء الذي أحضره معه من لندن، والذي كان فعالا جدا للحمى وآلام الرأس، كانوا يستخفون بقدراته في محاولات تشخيص الأمراض.

وهكذا تخلى، كما يقول، عن فكرة فتح عيادة في فاس، وفضل أن يفتحها في مدينة طنجة حيث توجد جاليات من الأوربيين من مختلف الجنسيات والأمريكيين، قبل أن يغادر المغرب نهائيا في فبراير.

يقول إن السبب الذي جعله يتخلى عن فكرة فتح عيادة طبية في فاس، أن الوزير الأكبر المغربي وقتها، باحماد، منعه من علاج الفقراء بالمجان. فعندما تعرف على الوزير في إقامته القريبة من القصر الملكي بفاس، ووصف له مجموعة من الأدوية التي جعلته يقوم من فراشه بعد أن أقعده المرض لأسابيع، نصحه قائلا: «أنت لا تعرف المغرب. إذا عالجت الفقراء خارج هذه الأسوار بالمجان، فسوف ينتهي بك الأمر متسولا في سوق فاس الكبير».

لم يفهم هذا الطبيب عمق الإشكال المغربي مع مجانية العلاج قبل قرن ونصف، وواصل فعلا علاج الوزير باحماد. وفي كل مرة كان يكشف فيها على صحة الوزير، كان يخرج محملا بالهدايا ما بين الحلي لزوجته وعشرات الخدم الذين يحملون له الأكل إلى المنزل الذي وضعه الوزير رهن إشارة الطبيب.

حاول جونسون مرة أن يعرف أين يُعالج فقراء المغرب بجلابيبهم الرثة، وتوجه ذات صباح باكر إلى أحد الأضرحة فوق تلال فاس، فوجد المرضى الذين يعانون من الأمراض الجلدية، ينامون فوق أرضية أحد الأولياء الصالحين في انتظار العلاج، فيما عشرات آخرون يقفون في طابور طويل للدخول على أحد الأشخاص «المباركين» طلبا للشفاء من آلام الرأس والأسنان وانتفاخ البطن.

وكلها أمراض كان جونسون قادرا على تشخصيها ووصف الدواء المناسب لها، لكنه يقول إنه مُنع من طرف أحد الأثرياء من أصدقاء الوزير باحماد، خلال مأدبة عشاء، ونصحه ألا يفتح أبدا منزله لعلاج الناس.

ولأن جونسون كان قادما من وراء البحر، فقد أراد أن يتحدى الطبقة التي تحكم فاس، وفتح منزله لعلاج الناس وخرج إلى الشارع لاختيار المرضى وعلاجهم بالمجان، لكنه فقد الأمل بعد أسبوع فقط، إذ لم يقصده إلا مريضان.

المريض الأول كان قد وافق على مرافقته من السوق لأنه كان يتضور جوعا، وطلب منه بإشارة من يديه أن يأكل. وبمجرد ما أنهى طبق الدجاج حتى قام من مكانه هاربا وكأنه لم يكن مريضا نهائيا. وفي اليوم الموالي عاد ومعه «مريض» آخر، وفرح الطبيب «جونسون» ظنا منه أنه قد بدأ يستقطب المرضى إلى منزله الذي خطط لتحويله إلى عيادة. لكنه عندما أراد أن يرفع ثياب المريض المفترض، كان الأخير يمنعه، ويشير إليه رافعا يديه إلى فمه، طلبا للطعام. وهكذا غادر جونسون فاس، مُدركا أن العلاج الوحيد الذي كان يرجوه الفقراء هو الطعام. أما الأمراض الحقيقية فإنها كانت تُترك للسماء.

وبعد قرن ونصف على هذه المشاهد، لا يزال المرضى يرفعون أكفهم إلى السماء. والفرق بيننا وبين أجدادنا القدامى، أننا لا نُحب طعام المستشفيات.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى