شوف تشوف

الرأيالرئيسية

صوم في الأدغال

حين تحكم عليك الأقدار بالسفر إلى عمق إفريقيا في شهر رمضان، فاعلم أن أجرك مضاعف وصيامك مقبول بميزة جيد جدا. في نيامي أو مالي أو وغادوغو أو غاروا أو لاغوس أو ليبروفيل أو نيروبي، يمكن أن تعيش حقيقة شهر رمضان في جو مختنق وملعب يكاد أن يلفظ أنفاسه وطريق مزدحم جناح السلامة فيه مكسور.

في جميع رحلاتي الرمضانية إلى الأدغال الإفريقية، وقفت على زيف إفطار المسافر، فاللاعبون يصرون على الصيام ويعتبرونه جهادا، ضاربين عرض حائط مستودع الملابس مواعظ رجال الإفتاء رافضين العمل بالقول الكريم «من كان منكم على سفر»، غير مبالين بتعليمات مدربين أجانب يوصون لاعبيهم بالإفطار ويعتبرونه أساس الخطة وزادها.

قد يشكل المدرب البرتغالي، خوصي روماو، استثناء من بين المدربين الأجانب، فقد جرب يوما الصيام وعاش أجواءه ليكتشف مزاياه ويتأكد من جدواه، على غرار الراحل خوصي فاريا الذي دخل الإسلام عبر بوابة رمضان، وأصبح حريصا على برمجة الحصص التدريبية بعد صلاة التراويح.

رافقت بعثة الرجاء الرياضي في يوم رمضاني من سنة 2003، إلى مدينة غاروا في الشمال الشرقي للكاميرون، كان الفريق المغربي مقبلا على خوض نهائي كأس الكونفدرالية الإفريقية ضد نادي القطن الكاميروني، الذي أصر مسؤولوه على برمجة المباراة في الثانية بعد الظهر والمسلمون صيام، لم تنفع محاولات الرجاويين لتأخير موعد المباراة إلى ما بعد صلاة التراويح، لأن الرئيس الشرفي للفريق الكاميروني هو عيسى حياتو الذي كان حينها رئيسا للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم. فالاعتراض لا يفيد مهما كانت مبرراته. 

نزلنا في ظهيرة يوم رمضاني حارق في مطار مدينة صغيرة غارقة في الهشاشة تسمى غاروا، كان المطار مهجورا بلا عنوان وبلا حركة طيران تطرد عنه الكساد، وحده المدير هو الذي يختم الجوازات ويفتح الأبواب ويرشد الضيوف إلى جوف الطائرة لاستلام أمتعتهم، ويطفئ الأضواء.

لم يكن سكان مدينة غاروا المتاخمة للحدود الكاميرونية- التشادية، يعرفون بلدا اسمه المغرب، فقد كانوا منشغلين بالقطن وبفريقهم «كوتون سبور»، وبما يجري في تشاد من مناوشات بين الفرقاء السياسيين، بينما تردد على مقر إقامة بعثة الرجاء في فندق أشبه بمخيم للاجئين، كبير كهنة المدينة ليعرض خدماته على رئيس الفريق عبد السلام حنات، ويعبر عن استعداده لتوزيع تعاويذ سحرية كفيلة بجلب الانتصار. ظل الرجل الملفوف في عباءة بألوان غير متناسقة، يعرض خدماته كنادل يقدم ما توفر لديه من وجبات.

قبل المباراة اجتمع المدرب الفرنسي هنري ميشال بلاعبيه، واقترح عليهم الإفطار، وفي محاضرة «على الواقف» حدثهم عن مباراة الاستنزاف وعن الجهد البدني وعن انتظارات شعب. قال لهم وكأنه قائد كتيبة: «العدو أمامكم وغضب الشارع وراءكم».

رد عليه لاعب يعفو عن لحيته: «سنستشير المفتي سيدي المدرب ونخبرك».

اختلفت الآراء بين مصر على الصيام ورافض، وتبين أن قرار المفتي بالإفطار للضرورة لم يجد إجماعا، بينما ظل المدرب ينتظر لاعبيه في مطعم الفندق دون جدوى.

دخل اللاعبون المباراة مبللين بالماء في يوم شديد الاختناق، بدوا وكأنهم يجاهدون ضد عدو مفترض، فازوا بكأس الكونفدرالية ونالوا أجر الصيام وأجر الانتصار.  

يرى الراسخون في الإفتاء الرياضي الرمضاني أن المشاركة في الجموع العامة حرام، لأنها تحول المنخرط إلى شاهد زور يصادق على عمليات مالية لا علم له بها، وتجعله مجرد صوت انتخابي تنتهي صلاحيته بنهاية الجمع العام. وذهب أقطاب الإفتاء إلى حد تحريم بيع وشراء اللاعبين في هذا الشهر، واعتباره اتجارا في البشر.

بعد نهاية مباراة القطن الكاميروني والرجاء، قال المدرب هنري ميشال مازحا وهو يتقمص دور المفتي: «إذا كان التيمم بحجارة غاروا جائزا فإن الإفطار بسبب طول السفر وضعف صبيب المياه جائز أيضا».

حسن البصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى