تعيش البشرية اليوم فوق صفيح ساخن. أصبح العالم في العقود الأخيرة عبارة عن فرن شواء كبير. نحترق داخله بنيران الأسعار المشتعلة، ولهيب الجيل الجديد من حروب الوكالة العالمية، و«صهد» السياسات الحكومية الفاشلة. تحاصرنا الحرائق أينما ولينا وجوهنا، وتتقاذفنا موجات الحرارة المتوالية ذات اليمين وذات الشمال ككرة لهب متقدة. إنه صيف بطعم الدرك الأسفل من النار. عاد جدل الاحتباس الحراري إلى الواجهة مجددا، ليطرح التساؤل حول خطورة الأزمة البيئية التي تهدد الحياة البشرية على الأرض. فهل الاحتباس الحراري حقيقة أو مجرد فصل مسرحي هزلي من فصول المؤامرة؟ ومن المسؤول الفعلي عن وضع كوكبنا «فوق الشواية»؟ أصبحت روائح العرق، التي تزكم أنوفنا في الفضاءات والمواصلات العامة، شاهدا قويا ضد أي تشكيك في حقيقة الاحتباس الحراري. «ديك الريحة محال تكون طبيعية. أكيد ناتجة عن كارثة بيئية خطيرة». صاحبت التقلبات المناخية القاسية، التي تجتاح عالمنا في العقود الأخيرة، موجة من الأعمال السينمائية والوثائقية التي تروج بشكل مريب لنهاية العالم. جولة سريعة في محتوى الأفلام والمسلسلات الأبوكاليبسية المعروضة على منصة نيتفليكس، مثلا، تجعلنا نردد الشهادتين ونستودع أحباءنا الله. سيل جارف من البروباغندا البيئية، وسياسات بث الرعب في صفوف الجماهير. ففي الوقت الذي تنفث فيه مصانع الدول الكبرى سموما قاتلة وتلقي بأطنان من النفايات النووية الخطيرة في باطن الأرض، وتهدد الحياة البحرية عرض المحيط بسبب حوادث التسريب المتكررة لحاملات النفط، يقوم الأخطبوط الإعلامي لهذه الدول بتوجيه أصابع الاتهام وتحميل مسؤولية الهلاك الحتمي لكوكب الأرض للمواطنين البسطاء، الذين يستعملون ورق المطبخ ومصاصات العصير البلاستيكية، ويلقون بعلب المشروبات الغازية على جنبات الطريق. الخطر البيئي الحقيقي، من وجهة نظر نيتفليكس، مثلا، لا يكمن بالضرورة في نفوق مئات الأسماك والحيتان وأشكال الكائنات البحرية المختلفة، نتيجة تلويث المحيطات بالبترول، وإنما الخطر البيئي الفعلي يكمن في استعمالك، عزيزي القارئ، لـ«الميكة الكحلة». لقد أصبح المواطن العالمي يدفع اشتراكا شهريا لمنصات البث الرقمي «باش يسمع المعيور». تحولت قضايا الاختلال البيئي من نقاش جدي حول المصير المجهول الذي ينتظر الكوكب، إلى تجارة مربحة وسباق محموم نحو الأضواء..، حيث انبرت مجموعة من المشاهير الأثرياء إلى الدفاع على سردية الاحتباس الحراري والترويج للخطر البيئي المحدق بالأرض. دفاع لم يخل من نفاق صريح وازدواجية معايير مفضوحة. نتذكر جميعا الهجوم الذي تعرض له «ليوناردو دي كابريو»، الذي كان يستقل طائرات خاصة ملوثة للبيئة، حتى يتمكن من إلقاء محاضرة عنترية حول ضرورة استعمال المصاصات الزجاجية لشرب قهوة شركة ستارباكس الرأسمالية الملوثة للبيئة، أو فضيحة المغنية الشهيرة «بيونسي»، تلك الفيمينست العتيدة المناضلة ضد استبداد الرجل الأبيض والمناهضة للنظام البطرياركي المستعبد للنساء، إذ تبين أن الفنانة الثرية تقوم باستغلال العاملات السيريلانكيات في ما يسمى بـ «sweatshops» ..، حيث كانت تسهر مئات من النساء الفقيرات على إنتاج آلاف من قطع الملابس الرياضية الفخمة، الخاصة بشركة «بيونسي»، مقابل ستة دولارات في اليوم، بينما يقدر ثمن بيع القطعة البيونسية الواحدة بما يقارب 144 دولارا أمريكيا. لم تقتصر موجة البطولة البيئية الوهمية على مشاهير هوليود فقط، بل طالت حمى الترهيب الحراري صفوف المؤثرات المرفهات أيضا، وهو الأمر الذي يعتبر مهزلة أخلاقية حقيقية. ظهر، أخيرا، مصطلح حديث يدعى «الموضة السريعة» أو «fast fashion» ، وهي عبارة سلبية تصف مجموعة من ماركات الملابس العالمية الرخيصة، التي تنتج سنويا ملايين الأطنان من الأنسجة الرديئة التي ينتهي بها المطاف في مكبات النفايات. تطلب المؤثرات الغربيات الثريات، اللواتي يعشن حياة رأسمالية مرفهة ويقتتن على الترويج لثقافة الاستهلاك عبر الإشهارات المكثفة وصور «المالديف والباهاماس»، من متابعيهن ذوي الدخل المحدود، الاستغناء عن اقتناء الملابس الصينية الرخيصة واستبدالها بالماركات الفرنسية والإيطالية والسويسرية «الدوريجين»، من أجل الحفاظ على بيئة نظيفة، حتى تستمتع المؤثرة «المرفحة» بجو منعش وسماء صافية، أثناء ارتشافها لعصير Bio من شرفة شقتها النيويوركية باهظة الثمن. إن المهزلة الحقيقية لا تكمن فقط في توجيه أصابع الاتهام إلى فقراء العالم وتحميلهم وزر عقدة الذنب تجاه ما آلت إليه الأوضاع البيئية الخطيرة لكوكبنا، أو الترويج والتطبيل لمتلازمة «الرجل الأبيض المنقذ». ذلك الرجل الذي لا يكتفي بصناعة الكارثة، بل يقوم، «بلا حشمة بلا حيا»، بتسويقها والتربح منها. بل تكمن المهزلة الكبرى في كون ماركات الملابس الفاخرة تصنع هي أيضا في معامل آسيا الرخيصة وفي ظروف عمل لا إنسانية قاهرة. إنها سياسة «الزبدة وفلوس الزبدة». لقد «تسوطات» بوصلة المنطق في العصر الحديث، إذ أصبحت، عزيزي القارئ، مسؤولا مباشرا عن خراب العالم. استعمالك لمنديل ورقي تجفف به عرقك في يوم حار، أو ترتيب الخضر والفواكه المعدلة وراثيا، واللحوم والدواجن المشوهة هرمونيا داخل كيس بلاستيكي، سلوكات يعتبرها الأثرياء ومديرو الشركات الرأسمالية العالمية بمثابة حرب بيئية معلنة على كوكب الأرض. نناشد فقراء العالم ضرورة استخدام «القفة د القصب»، حتى تعود درجات حرارة الأرض إلى مستوياتها الطبيعية ونتفادى بذلك ذوبان الجبال الجليدية وانقراض الكائنات البحرية وانتحار الدببة القطبية.
شاهد أيضاً
إغلاق
-
إغلاق وهدم مساجد بيعقوب المنصور في الرباط3 يوليو، 2024