صفعة للديمقراطية
سلام الكواكبي
في أثناء جولة في منطقة وسط فرنسا الأسبوع المنصرم، ورغبة منه في لقاء الناس من دون حواجز، سعيا منه إلى رفع شعبيته عاما قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة، تلقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، صفعة من شاب ينتمي الى اليمين المتطرف الذي يحمل حنينا إلى الزمن الملكي القديم. تم اعتقال الشاب وشريكه الذي كان يصور الواقعة، ودوهم منزلاهما، ليجد المحققون فيهما نشرات عنصرية وأخرى تمجد النازية. وبعد هذه الصفعة / الصدمة، تابع رئيس الجمهورية جولته وكأن شيئا لم يكن، بل زاد من جرعة اللقاء المباشر مع المواطنين الذين احتشدوا للسلام عليه، أو لمطالبته بتحسين أوضاعهم، أو لتمرير أوراق عليها طلبات خاصة عهد بها إلى مرافقيه. وقد ظهر جليا أنه يسعى، وبنصيحة واضحة من خبراء الاتصال الذين حوله، في أن يستغل هذا الحادث بشكل مفيد وتعزيز حضوره وتبسطه مع العامة.
إثر هذا الحادث، عبرت كل المجموعات السياسية الفرنسية، على تناقضاتها، يمينا ويسارا، وحتى المتطرفة منها، وبشكل استثنائي، عن عميق تضامنها مع منصب رئيس الجمهورية وعن إدانتها هذا التصرف الأرعن، وانضمت إلى هذا التنديد كل القوى المجتمعية والنقابات. وبعد أن هدأت العاصفة وخف هول الحدث، وعاد التفكير الهادئ إلى الملاحظة والتحليل، بدا أن الصفعة (الرئاسية) البسيطة عمليا، حيث لم تصب هدفها بدقة، والقوية رمزيا، حيث شاهدها ملايين عبر الشاشات، ليست بذاتها مؤشرا مقلقا، إن لم تؤخذ من خلال دراسة أبعادها كافة، فمهما كانت هذه الصفعة قد نجمت عن إرادة فردية أو نتيجة لثورة غضب مفاجئة أو ترجمة لردة فعل غير محسوبة لإنسان غير متوازن، إلا أن حمولتها العنفية/ السياسية وإقحامها في المشهد السياسي الفرنسي المعاصر تبعث على القلق الجاد بالتأكيد. وقد صار من المطلوب، فرنسيا على الأقل، دراسة أسبابها وكيفية التعامل مع تطور هذا الجانب العنفي في التعبير السياسي عن الموقف وعن الرأي، في جمهورية ديمقراطيتها عريقة في النصوص وفي الممارسات.
ليست هي المرة الأولى التي يتعرض خلالها رئيس فرنسي لاعتداء لفظي أو جسدي، في أثناء جولاته التي يتخللها لقاء مباشر مع الناس. في المقابل، يقع هذا الحادث بعد عامين من العنف المتبادل حكوميا واحتجاجيا من أصحاب السترات الصفراء، وقد تبين أن المعتدي متعاطف معهم، وبعد خروج حذر من الحجر الصحي الذي رافق وباء كوفيد المدمر، وفي أثناء احتدام النقاش السياسي والمجتمعي عن صعود الظواهر العنفية وإدارة ملف الهجرة والأمن والأمان، إضافة إلى وقوع الانتخابات الإقليمية خلال أيام. وأخيرا وليس آخرا، قرب إطلاق الحملة الانتخابية للرئاسيات المزمع عقدها السنة المقبلة، كلها وسواها عوامل مضخمة لوقع مثل هذا الاعتداء على مقام الرئاسة.
في السنوات الأخيرة، تم إضعاف الوسيط الفاعل الذي طورته الأنظمة الديمقراطية في حل الخلافات، وفي تأطيرها على الأقل. وقد جرى ذلك في مختلف الديمقراطيات عموما، كما في فرنسا على وجه الخصوص. من هو هذا الوسيط؟ هي الأحزاب، والنقابات، والجماعات المهنية، واللقاءات الفكرية. وهي استقالت أو أقيلت من لعب دور الوسيط الفاعل والمؤثر في إدارة الخلافات، وفي الوصول إلى قواسم مشتركة، سعيا تشاركيا إلى إنجاح المسار الديمقراطي. ساهمت في هذا الإبعاد القوى السياسية الحديثة والمنبثقة عن المسار الديمقراطي، والتي سعت وتسعى إلى الاستفراد، ديمقراطيا، بالمشهد السياسي. وفي المقابل، تم فسح المجال للتعبيرات العشوائية والعنف اللفظي والتحريض على الكراهية والتخندق الإثني والديني عبر تطور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، إضافة إلى دور سلبي لبعض الإعلام الشعبوي، خصوصا المعتمد على الأخبار المستمرة.
جرت محاكمة مستعجلة للمعتدي، وحصل على حكم بالحبس 18 شهرا مع تنفيذ أربعة منها فقط، لأن الاعتداء لم يسبب أذى جسديا كما ذكر الحكم. وفي حين انهمك الأوروبيون في نقاش الواقعة، وقراءة منعكساتها المستقبلية على المناخ السياسي، تسلى المعلقون العرب بممارسة المقارنة بين تعامل دولة ديمقراطية مع اعتداء جسدي على رئيسها، وما يمكن أن يتلقاه مواطن عربي وأسرته ورفاقه ومحيطه، وربما مدينته كلها، من رد فعل السلطات المستبدة في الحالة نفسها، أو حتى في أبسط منها.
قد تساهم هذه الصفعة غير القاتلة، في المدى القصير أو المتوسط، في إيقاظ الوعي الفردي كما الجمعي الفرنسي، وتنبهه إلى ضرورة إحياء العناصر الوسيطة التي هي من أهم حماة النظام الديمقراطي. وأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا.
وفي استعراض سريع لما تعرض له رؤساء سابقون، يستعيد الفرنسيون نمطين من المواجهة. الأولى، إبان رئاسة نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012)، تعرض للشتم من أحد المواطنين في أثناء زيارته معرضا زراعيا، شتمه المواطن قائلا له: يا لك من أخرق. وتعرض جاك شيراك الذي رأس فرنسا بين عامي 1995 و2014، وكان يعشق الجموع، للشتم من مواطن، فما كان من شيراك إلا أن ابتسم قائلا: تشرفنا، وأنا جاك شيراك.