صراع تحت أنظار فرنسا بين رونو وهران ورونو طنجة
يعترف محيي الدين عميمور بأن أكبر فشل أصيبت به الجزائر بعد الحصول على الاستقلال كان في الميدان الزراعي، حيث أصبحت الزراعة عورة الجزائر المستقلة، وتحولت «سلة حبوب روما» كما كان يطلق على البلاد، إلى دولة مستوردة للحبوب التي تزايد حجمها مع تزايد عدد السكان وارتفاع مستوى المعيشة بالنسبة لشرائح كثيرة. «ولم يعرف قطاع الزراعة مسؤولا واحدا معربا»، وزيرا كان، أم مديرا، أو حتى رئيس مزرعة نائية على حد قول محيي الدين.
ولاشك أن كثيرين ممن كانوا على رأس هذا القطاع وغيره كانوا من «المجاهدين»، ولكن معظم هؤلاء، وبحكم الروابط اللغوية التي شابتها أحيانا اعتبارات جهوية، أو بعض المحسوبية، استعانوا غالبا بمن لم يكن لهم ماض نضالي، أو كفاءات علمية معتبرة، أو قدرة متميزة على تحويل الأفكار العظيمة التي تمخضت عن الثورة إلى واقع حياتي، «يكفي أن نستعرض العدد الأكبر من أسماء الأمناء العامين والمديرين المركزيين ومديري المؤسسات الموجودة تحت الوصاية، بل ورؤساء المزارع المسيرة ذاتيا، حيث كانت عملية محو الأمية تتم بالفرنسية».
ويزيد عميمور في توضيح الواضحات: «تمكنت بعض عناصر المجموعة «المفرنسة» التي اعتمد عليها عبد السلام بلعيد، وهو وطني محترم ومناضل كبير، وربما انطلاقا من عامل اللغة وحده، (تمكنت) من تخريب عملية الصناعة المصنعة التي كانت من أهم مشاريع عهد هواري بومدين، وكان هذا لأن كثيرين منهم تصوروا، أو أرادوا منا أن نتصور بأن الكتابة من اليسار إلى اليمين تعطيهم حق النبوغ في كل شيء». فكرة الصناعة المصنعة، التي وضعها هواري بومدين، تتلخص في تحويل خام الحديد إلى صلب، بدلا من تصديره خاما بثمن هزيل، وبالتالي ربح فائض القيمة وفتح المجال ليد عاملة متخصصة، وبالتالي لفئات تنضم إلى العاملين في المصانع الأخرى لتكون طبقة عمالية صناعية، تتضامن مع طبقة يجري تكوينها في التعاونيات الزراعية. وكانت الخطوة التالية في ميدان الصناعة المصنعة، هي تحويل الحديد المصنع إلى جرارات وصنابير مياه وأدوات للزراعة وقطع حديدية لمختلف الاستعمالات، وكان كل هذا يستورد من الخارج، ويضاف إلى نتائج هذه العملية ظهور نشاطات اقتصادية موازية، كصناعة الأخشاب المتكاملة مع الحديد، وتطوير قطاع السكك الحديدية بما يتوفر من قضبان، وتشجيع عملية البناء بما يتوفر من أنابيب حديدية، ثم التوسع في نشاط الخدمات بمختلف أوجهها.
وفي بداية الأمر كان النقد الموجه إلى العملية يأتي في معظمه من الطبقة الفرنسية، أو المفرنسة التي كررت ما كان يقوله الألمان عن فرنسا خلال الاحتلال النازي، من أن عليها الاكتفاء بالزراعة وترك الصناعة لمناطق «الروهر» وفي ألمانيا، وكان هذا على وجه التحديد ما تريده فرنسا للجزائر. وكانت الصناعات البترو كيمياوية بابا دخلت منه البلاد إلى صناعة الأدوات البلاستيكية بمختلف أنواعها، بالإضافة إلى صناعات الأسمدة ومصانع الغاز الطبيعي، وكان كل هذا لتكون الطبقة العاملة قاعدة سياسية للبلاد. «والمهم في هذا كله أن «الفرانكوفيلية» واصلت ترديد التوجيهات الباريسية المنددة بالتصنيع الجزائري من جهة، والعمل على تخريب العملية من الداخل من جهة أخرى، وكان ممن يرددون هذا كل من يخشون من طبقة عمالية حقيقية مرتبطة بالوطن، اقتصاديا واجتماعيا، وبالتالي مسخرة للدفاع عنه سياسيا».
خلال زيارة الرئيس فرانسوا هولاند إلى الجزائر في دجنبر 2012 تم توقيع اتفاق بين البلدين لبناء مصنع لتجميع سيارة «رونو الفرنسية»، وكتبت صحيفة «الخبر» يوم 22 دجنبر من السنة ذاتها، بقلم حفيظ صواليلي عن هذا الأمر قائلة: «الانطباع السائد هو نجاح الشركات الفرنسية في افتكاك أقصى حد من التنازلات الجزائرية لتجسيد مشروع تركيب السيارات «رونو» على الحكومة»، وبدا واضحا أن مشروع «رونو» في الجزائر، جاء كنتاج لضغط غير معلن على الحكومة الفرنسية من الصانع الفرنسي الذي يعاني من أزمة في المبيعات، حيث تظل الحكومة الفرنسية مساهما في «رونو» بنسبة 15.01 في المائة، خاصة أنه من الناحية العملية والاقتصادية لا يحقق مردودية كبيرة، لكونه جاء متأخرا بعد إقامة مصنع طنجة المغربي، وتم تجسيد المشروع لأسباب سياسية ورمزية أكثر منها اقتصادية. فالشركة الفرنسية توازن بين مصالحها التجارية في السوق الجزائرية التي ترغب في الحفاظ عليها، لكونها تتمتع بمركز الريادة بمعدل يتراوح ما بين 100 و120 ألف وحدة، وبين إرضاء الجانب الجزائري الذي «أصر» على افتكاك عقد ولو كان رمزيا، وهو ما تم، فعلا، خلال زيارة هولاند». ووفقا لتوقعات كشف عنها جون كريستوف كوغلر، مدير الحوض المتوسط وإفريقيا لمجمع «رونو» الموقع للاتفاقية بالجزائر، فإن الجزائر تعتبر ثاني سوق في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا. «مع نهاية نونبر، سجلت جنوب إفريقيا 477 ألف ترقيم جديد، مقابل 409 آلاف في الجزائر. ويمكن للجزائر أن تصبح في الريادة، إذا حافظت على نسبة النمو الحالية المقدرة ما بين 45 و47 في المائة، مقابل 9 في المائة لجنوب إفريقيا، وهذا العامل يدفع الشركة الفرنسية «رونو» إلى ضمان التموقع في السوق والحفاظ على ريادتها. وعلى هذا الأساس، نجح المفاوض الفرنسي في الحصول على تنازل أول من الجانب الجزائري يضمن حصريته لمدة ثلاث سنوات، وإن طالب سلفا بخمس سنوات وهو ما يضمن له السوق ويبعد أي منافسة على رأسها «فولسفاغن»، التي كانت تتفاوض لإقامة وحدة أهم بالجزائر. كما تحصل على مزايا أخرى تتمثل في ضمان تسويق كافة الكمية، مع تكفل الدولة بأخذ على عاتقها، ما لم يتم تسويقه لتوضع في متناول الجماعات المحلية، فضلا عن توفير كافة الظروف الملائمة بما في ذلك التركيب المالي، فمساهمة «رونو» المعلنة هي 50 مليون أورو، بينما المشروع الخاص بتركيب السيارات الذي يقام بواد تليلات بوهران على مساحة 152 هكتارا، فيقدر بحوالي مليار أورو، وهو قيمة تعادل ما أنفق في مصنع طنجة المغربي الذي ينتج 400 ألف وحدة».
وبناء على هذه المعطيات فإن الشركة التي تخضع للقانون الجزائري، ستستفيد من إمكانية الوصول إلى التمويل البنكي في الجزائر، لأن حصة الشريك الفرنسي تصل إلى 490 مليون أورو على الأقل «حصة 49 في المائة» من قيمة المشروع، وبما أن الشركة ستخضع للقانون الجزائري ونسبة 51 في المائة من الحصص جزائرية، فإنها ستلجأ إلى التمويل البنكي. بينما حصل الشريك الفرنسي، وفقا لعقد الشركاء، على حق التسيير، علما أن «رونو» تمتلك 49 في المائة من الحصص، مقابل 51 في المائة للشركة الوطنية للسيارات الصناعية والصندوق الوطني للاستثمار. ويقوم المصنع في مرحلة أولى بإنتاج 25 ألف وحدة لصنف واحد هو «سامبول»، الذي يصنع في رومانيا ولكنه لا يسوق في فرنسا ويتم الإتيان به جاهزا، بمعدل 7 سيارات في الساعة، ليرتفع بعدها في غضون الخمس سنوات التالية للمشروع إلى 75 ألف وحدة، أي ما يعادل 15 سيارة في الساعة، بنسبة إدماج تبدأ بحوالي 20 في المائة، لتصل إلى 42 في المائة تدريجيا، مع إقامة شبكة للمناولة والاستثمار في عدد من التخصصات منها وحدات الهياكل.